قضية سوناطراك والفيول-أويل المغشوش (2): كيف مُدِّد عقد سوناطراك أربع مرّات في مجلس الوزراء: مَسرحَة الشراء العامّ في زمن المحاصصة


2020-10-07    |   

قضية سوناطراك والفيول-أويل المغشوش (2): كيف مُدِّد عقد سوناطراك أربع مرّات في مجلس الوزراء:  مَسرحَة الشراء العامّ في زمن المحاصصة
رسم رائد شرف

 كانت وزيرة الطاقة ندى البستاني تتلقّى التهاني بكسر احتكار كارتيل النفط للموادّ النفطية عبر فوز شركة ZR Energy بمناقصة البنزين في 9/12/2019، بينما كانت سفن الشركة نفسها، التي تحتكر سوق الفيول-الأويل، تجوب الساحل اللبناني محمَّلة بالفيول المغشوش. لم تدُمْ الفرحة طويلاً إذ بعد ثلاثة أشهر، بدأت ملاحقة شركة ZR Energy قضائياً إثر اكتشاف أنّها المورِّد الحقيقي للفيول-أويل المغشوش على متن سفينة Baltic التي وصلت إلى لبنان في 11/3/2020 تحت غطاء شركة سوناطراك. وقد فضح القرار الظنّي في هذا الملفّ الاحتكار الحاصل من قِبل شركة ZR Energy من خلال تلزيمها تنفيذ العقد الموقَّع بين الدولة وسوناطراك الذي تَجدَّد تلقائياً حتّى الآن أربع مرّات في ظروف أقلّ ما يقال عنها أنّها مشبوهة. وفيما سبق ونشرنا الحلقة الأولى من هذه المقالة حول اللاتوازن في هذا العقد لمصلحة شركة سوناطراك، نتساءل في هذه الحلقة عن كيفيّة التجديد له.

بالعودة إلى تفاصيل القضيّة نذكر أنّ وزارة الطاقة كانت تعاقدت رضائياً مع شركة سوناطراك (غير الجزائرية) في 9/11/2005 لتوريد الفيول لمدّة ثلاث سنوات. وقد ضمّنت العقد التزاماً بالحفاظ على سرّيّته، كما ضمّنته بنداً بتجديده تلقائياً كلّ ثلاث سنوات إلّا إذا وجّه أحد الفرقاء إنذاراً بالإلغاء قبل 90 يوماً على الأقلّ من انتهاء مدّته. وفيما شكّل التوقيع على العقد الأساسي تجاوزاً لقواعد الشراء العامّ الواردة في قانون المحاسبة العمومية التي تفترض حصول شراء كهذا من خلال مناقصة عمومية، كشف تمديد العقد طيلة 15 سنة خطورة هذا البند الذي يناقض ليس فقط هذه القواعد إنّما أيضا الدستور سواء لناحية الالتزام بقاعدة سنويّة عقود اللوازم والأشغال أو لناحية المنافسة والشفافيّة، وفق ما أوضحناه في الحلقة السابقة. ويُلحَظ أنّ المواقف في مجلس الوزراء لم تكن موحَّدة بشأن تمديد العقد، أقلّه ظاهرياً، بدليل عجز الوزراء عن الوصول إلى قرارات بهذا الشأن. لكن، ورغم المواقف المعارضة لتمديد العقد، أنتج تعطيلُ القرار داخل هذا المجلس مفاعيلَه لجهة تمديد أحد العقود الأكثر كلفة للدولة دورياً بفعل بند التجديد التلقائي للعقد. وهكذا استمرّ هذا العقد بعد انقضاء مدّته الأساسية (1/1/2006 إلى 31/12/2008) لأربع فترات متتالية، 2009-2011 و2012-2014 و2015-2017 و2018-2020، بعدما تحوّل اللاقرار بفعل بنود العقد الأساسية (وتحديداً بند التجديد الضمني) إلى مرادف لقرار التمديد.

وتبرز أهمّيّة القرار الظنّي في ملفّ سوناطراك بأنّه، للمرّة الأولى، يكشف أمام الرأي العامّ فحوى المناقشات الحاصلة داخل مجلس الوزراء في شأن أحد العقود الأكثر كلفة في موازنة الدولة. وهذا ما يتحصّل من تضمين القرار الظنّي إفادة كلٍّ من وزيرَي الطاقة السابقَين ندى البستاني ومحمّد فنيش اللذين استمع إليهما قاضي التحقيق، فضلاً عن مقاطع واسعة من محاضر جلسات عدّة لمجلس الوزراء نوقش خلالها تمديد هذا العقد[1].

وبعد التدقيق في هذا القرار، يمكن القول إنّه يشكّل إضاءة على أربع توجّهات سلبية في هذا الشأن، سنعلّق عليها في سياق عرضها، وهي توجّهات تكشف الكثير حول ممارسات الهدر والاحتكارات والفساد وطرق إدارة الشأن العامّ.

1-المماطلة

أولى هذه الممارسات التأخير والمماطلة وصولاً إلى وضع مجلس الوزراء أمام أمر واقع قوامه تمديد العقد ثلاث سنوات. وهذا ما نستشفّه من مضمون القرار الظنّي في خصوص النقاشات التي حصلت في مجلس الوزراء عند قرب استحقاق تمديد العقود، أقلّه في سنوات 2011 و2014 و2017.

ومن أهمّ الشواهد على هذه المماطلة، مطالبة عدد من الوزراء بإرجاء النظر في العقد بسبب حساسيّته داعين إلى مناقشته في إطار التفاوض بين الكتل السياسية. ومنها ما نُسب إلى الوزير نبيل دي فريج في حكومة تمام سلام من تصريح في جلسة مجلس الوزراء المنعقدة لجهة أنّ ثمة أموراً تتجاوزه عليه العودة بها إلى كتلته السياسية لحسمها.

أمر آخر يُؤشّر إلى المماطلة هو ربط إبلاغ الشركة بالرغبة بعدم تجديد العقد بنتائج المناقصة المُزمَع إجراؤها لشراء الفيول، وذلك تحسّباً لأيّ ردود أفعال لدى الشركة قد تؤدّي إلى تأخير وصول الفيول وتالياً إلى تعطيل تأمين الكهرباء. وقد عبّر الوزير محمّد فنيش بشكل خاصّ عن هذا الموقف، معلّلاً إيّاه بأنّ أيّ تسرّع في إنهاء العقد قبل إجراء المناقصة قد يؤدّي إلى الإضرار بمصالح الدولة. وفيما بدا هذا الموقف مبرَّراً، فإنّه أعطى معارضي إيقاف العقد فرصة إضافية للمماطلة من خلال اختلاق نزاعات واختلافات حول تفاصيل دفتر الشروط لإطلاق المناقصة. وقد أدّى هذا الأمر إلى التقاعس في إجراء المناقصة رغم الاتّفاق على مبدئها منذ 2011.

ففي 2011، أدّت الأزمة السياسية إلى تأخير إجراء المناقصة العموميّة التي تمّ الاتّفاق على إجرائها في السنة ذاتها ما أدّى إلى تأخير البحث في التجديد للعقد فتجدّد تلقائياً. ولقد رُفع دفتر المناقصات عام 2012 إلى وزارة الماليّة إلّا أنّ الوزير آنذاك، محمّد الصفدي، لم يوقّعه بل استمرّ تأجيل إقراره في الوزارة حتّى استلم علي حسن خليل الوزارة. وإذ قرّر مجلس الوزراء مرّة ثانية، في تاريخ 13/11/2014، تأجيل البحث في عرض وزارة الطاقة والمياه للصيغة النهائية لدفتر الشروط المتعلّق بشراء الفيول، عادت وزيرة الطاقة السابقة ندى بستاني لتُبرِز المحضرَيْن رقم 44 و45 المنظَّمَيْن في 2015، حيث انتهى مجلس الوزراء إلى تأجيل البحث في عرض وزارة الطاقة والمياه للسير بدفتر الشروط المتعلّق بشراء مادّة الفيول-أويل لمزيد من الدرس.

ولم يجد فنيش حرجاً في دعوة مجلس الوزراء إلى التسليم بتجديد العقد بعد انقضاء المهلة التعاقدية لإبلاغ الشركة قرار الدولة بعدم تجديده (2017)، بينما شكّك الوزيران السابقان جبران باسيل وسيزار أبي خليل صراحة عدّة مرّات بنوايا الوزراء تأجيل النقاش بهدف بلوغ الحكومة الوقت المحدّد من دون اتّخاذ أيّ قرار.

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ مسؤولية استمرار العقد لهذه الفترة الطويلة لا يتحمّلها الفريق المؤيّد لتجديد العقد وحده، بل الفريق المعارض له أيضاً الذي غالباً ما أبدى اعتراضه عليه متأخّراً، أقلّه عند تجديده في آخر 2011 أو في آخر 2014. وللدلالة على ذلك، يُلحظ أنّ باسيل لم يبدِ اعتراضه على تجديد العقد في 2011 إلّا بعد انقضاء المهلة التي ينبغي خلالها ممارسة حقّ الإعلان عن عدم تجديد العقد، بحيث طالب بوضع قضيّة العقد على جدول أعمال مجلس الوزراء في 5/10/2011. فرغم مرور أكثر من ستّ سنوات على العقد، وكونه أحد العقود الأكثر كلفة للوزارة لا بل للحكومة، تقدّم باسيل بطلبه قبل أقلّ من تسعين يوماً من انتهاء مدّة العقد المجدَّدة، أي بعد زوال حقّ الدولة بإعلام الشركة رغبتَها عدم تجديد العقد.

2-ذرائع لا تصمد أمام أيّ جدل جدّي

هنا، نجد ذرائع عدّة قدّمها معارضو عدم تجديد عقد سوناطراك أبرزها:

ذريعة أولى: الحفاظ على علاقات جيّدة مع الجزائر والكويت

من أشرس المعترضين على عدم تجديد العقود في 2014 الوزير السابق نبيل دي فريج (تيّار المستقبل) بذريعة أنّ العقد هو مع دولة عربية ولعدم إثارة أزمة معها. كما تذرّع عام 2015 بوجوب إعطاء أفضليّة للشركات التي تملكها دول منتِجة للنفط (رغم أنّ الجزائر لا تنتج الفيول الذي نستورده ما يفرّغ هذا الشرط من معناه). وقد أثار رئيس الوزراء في 2017 سعد الحريري المسألة مجدّداً، بصيغة أخرى، متسائلاً ما إذا كان طرح مناقصة ما سيُفضي إلى مشاكل مع الكويت.

من ناحيته، أشار باسيل إلى أنّ لا شيء يمنع مشاركة شركات تنتمي إلى دول بالمناقصة، وأنّ العقد مع سوناطراك ومع KPS ليس بمنطق من دولة إلى أخرى بل هو مع شركتين تملكهما دولتان، ويمكن أن تتقدّم شركات تملكها دول أخرى وتعطي أسعاراً أفضل من الأسعار المقدَّمة من الشركتين. وقد أشار علي حسن خليل في هذا الصدد إلى أنّ العقد مع الجزائريين، على عكس العقد مع الكويتيين، مبهم إلى أقصى الحدود ومفتوح على الكثير من التفسيرات.

ذريعة ثانية: الأمن الطاقوي

أما الذريعة الثانية للمتمسّكين بعقد سوناطراك فهي الأمن الطاقوي. وقد سعى فنيش إلى إدخال هذا المفهوم إلى نقاشات مجلس الوزراء فاعتبر أنّ مخزون الفيول يؤمّن الأمن الطاقوي وأنّ عقد سوناطراك أساسي لهذا الأمن ويشكّل محطّة مفصلية سمحتْ بالابتعاد عن المشاكل المتعلّقة بقطاع الكهرباء التي سبقت عهد استلامه للوزارة في عام 2005 والمرتبطة بإمدادات الفيول. كما شدّد على أنّه ضدّ السماح للشركات بأن تتحكّم في الدولة لجهة التدقيق بالمواصفات والوقت والنوعيّة وكيفيّة إدخالها. وطالب بالاستمرار بتحسين الشروط عبر التفاوض مع الشركتين وهو ما يسمح به العقد تحديداً في ما يتعلّق بالتفاوض على قيمة الجعالة. كما رفض رفضاً مطلقاً إلغاء العقود والعودة إلى حقبة ما قبل سنة 2005 وصرّح بأنه لا يمانع إجراء مناقصات شرط إبقاء توريد الحدّ الأدنى من الفيول بعهدة الشركتين ضماناً للأمن الطاقوي.

من جهته، أشار الوزير السابق بيار بو عاصي في مداخلته ردّاً على فنيش إلى أنّ ليس هناك ما يُسمّى الأمن الطاقوي وأنّ الطاقة تخضع للعرض والطلب، والبضاعة موجودة أينما كان وتصل بكلّ الوسائل الممكنة وفي حالة الحرب يتوقّف مجيء السفن من كلّ الأمكنة وينضب المخزون، كما أشار إلى وجوب إجراء مناقصة لتحقيق وفر في حال نجحت وإلّا الإبقاء على العقود.

تجدر الإشارة إلى أنّ الأمن الطاقوي يهدف إلى استدامة تأمين الطاقة. وإذا كانت الأمم المتّحدة تعرّف الأمن الطاقوي بأنّه تأمين مصادر الطاقة بشكل غير منقطع بأسعار معقولة، فذلك لا يقتصر على تأمين الطاقة من الموادّ النفطية الخام بل على العكس، يطرح بمزيد من الإلحاح موضوع استبدال الموادّ النفطية غير المتجدِّدة بموادّ طاقة متجدّدة مثل الطاقة الشمسية والهيدروليكية وطاقة الرياح، بخاصّة في حالة الدول غير المنتجة للموادّ النفطية التي يصعب عليها الإبقاء على مخزون من الموادّ النفطية لأكثر من بضع سنوات. ولم يسعَ لبنان إلى تطوير هذا الوضع طيلة 15 سنة. يشمل الأمن الطاقوي أيضاً توفّر منشآت فعّالة لتوليد الطاقة على مدار الساعة. علاوة على ذلك، حتّى الدول المصدّرة لمصادر الطاقة مثل الجزائر باتت تستصعب تأمين أمن طاقوي في المستقبل من دون تخفيف الاعتماد على الموادّ النفطية غير المتجدِّدة. من هنا، يصبح الحديث عن أمن طاقوي متحقّق في لبنان بفعل توفّر مخزون الفيول لمدّة سنة واحدة وعدم المسّ بعقود الاحتكار درءاً لخطر انقطاع الكهرباء لا معنى له بل إنّه يشكّل عائقاً أمام وضع سياسة طاقوية حقيقية مستدامة.

وما تحذير فنيش عام 2017 من خطورة إبلاغ الشركات المورِّدة إنهاء العقود قبل إجراء المناقصات ومعرفة نتائجها إلّا اعتراف ضمنيّ بعدم تحقّق الأمن الطاقوي وبقدرة الشركات على تهديد لبنان بقطع الكهرباء. وهذا ما حصل فعلياً في تموز 2020 حين أُغرق لبنان في العتمة إثر فتح التحقيقات القضائية في شأن الفيول المغشوش.

ذريعة ثالثة: التوجّس من المناقصة “المشبوهة”

أخيراً، أوضح فنيش في مداخلته أنّ إحدى أهمّ ميّزات عقد سوناطراك أنّه حرّر البلد من جميع الإجراءات السابقة في المناقصات التي كانت تجري وينتشر حولها الكثير من الشبهات، سواء لجهة المواصفات أو لجهة التأخير في وصول البواخر وانقطاع الكهرباء، وما دار حول ذلك من ملابسات وتشكيك ومن خسائر وانقطاع كهرباء، علماً أنّ التفتيش المركزي أشار منذ العام 2013 إلى أنّ شبهات فساد كثيرة تدور حول شركة سوناطراك ووجوب إرفاق العقد بالأحكام الصادرة بحقّها وبكتب ضمان. كما كان علي حسن خليل قد شكّك بهويّتها في مجلس الوزراء. أمّا في ما يتعلّق بنوعيّة الفيول، فقد دارت شبهات عديدة حول عدم مطابقته للمواصفات.

ذريعة رابعة: عدم تعريض مسؤوليّة الدولة للخطر

تمثّلت الذريعة الرابعة بالنتائج الوخيمة المتأتّية عن إعلام الشركة قرار الفسخ (وهي ذريعة تأتي عموماً على إثر المماطلة وبنتيجتها). ومن أهمّ المؤشّرات على ذلك، جواب فنيش على تساؤل وزير الأشغال العامّة والنقل السابق يوسف فنيانوس، في عام 2017، عمّا إذا كان ثمّة بند جزائي في حال لم تجدّد الحكومة العقد، الذي جاء بالإيجاب رغم عدم وجود بند مماثل.

3-عقد الشراء العام مسألة سياسية تجدر مناقشتها خارج مؤسّسات الدولة

لدى النظر إلى الوقائع المثبتة في القرار الظنّي، تُظهر مناقشات مجلس الوزراء بشأن تمديد عقد سوناطراك في فترة 2011-2017 توجّهاً واضحاً لدى العديد من القوى السياسية لتسييس عقد شراء الفيول. فلا يتمّ التعامل معه على أنّه مسألة شراء عامّ يُفترض الحصول فيها على أفضل شروط ممكنة وفق قانون المحاسبة العمومية، بل على أنّها مسألة سياسية تخضع لمبادئ تقاسم السلطة، أي المحاصصة. وما يزيد من قابليّة هذا الأمر للانتقاد أنّ بعض الوزراء أكّدوا صراحة أو ضمناً أنّ القوى السياسية هي التي تتحاور بشأن مسائل كهذه خارج مجلس الوزراء، أي في الكواليس. بما يوحي أنّ تحديد هويّة المتعاقدين لا يتمّ بطريقة شفافة ولا على ضوء مصالح الدولة أو الخدمات والعروض المقدَّمة أو غير المقدَّمة، بل على ضوء علاقاتهم بالقوى السياسية والتوافقات التي تحصل بين هذه القوى.

وقد برز هذا التوجّه بشكل خاصّ في مداخلات دي فريج في جلسات مجلس الوزراء التي أُثيرت فيها مسألة تجديد العقود، حيث عبّر عن تصوّره لدوره بصفته وزيراً ولكيفيّة اتّخاذ قرارات مماثلة في مجلس الوزراء ومحدوديّة مجلس الوزراء نفسه. ومن أبرز هذه المداخلات:

  • أنّ بصفته وزيراً “هناك مواضيع يستطيع الكلام فيها وله حرّيّة الكلام عنها، ولكن ليستْ له الحرّيّة الكاملة في عمليّة من هذا النوع”. وبذلك عبّر عن تصوّره لمحدوديّة دور الوزير حيث يبقى مقيَّداً بمواقف فريقه السياسي في ما يتّصل بعمليّات معيّنة منها، حسبما نفهم، العمليّات المشابهة التي تشمل عقود الشراء العامّ.
  • “أنّ هناك حدوداً للنقاش في مجلس الوزراء”. وهذا التصريح إنّما يؤشر إلى تصوّر دي فريج لدور مجلس الوزراء. فبخلاف ما يفرضه الدستور الذي ينيط بهذا المجلس “السلطة الإجرائية” ومن ضمنها “وضع السياسة العامّة للدولة في جميع المجالات… واتّخاذ الإجراءات اللازمة لتطبيقها”. يذهب تصريح دي فريج إلى تجريده من هذه السلطة عبر تحويله إلى مجرّد أداة لإبرام ما قد تتّفق عليه القوى السياسية الحاكمة خارجه.
  • وقد صرّح علاوة على ما تقدّم “أنّ بكلّ صراحة ثمّة أموراً يُفضَّل حلُّها بطريقة أخرى”. وهذا التصريح إنّما يشير إلى أنّ المسائل التي تخرج عن تصورّه لسلطة الوزير وسلطة مجلس الوزراء ويجدر حلُّها بطرق أخرى، لا تتّصل بالضرورة بقضايا مصيرية أو ذات خطورة سيادية أو أمنية، إنّما بشكل خاصّ عقود الشراء العامّ. يعكس هذا الأمر أولويّات القوى السياسية التي تولي وفق هذا التصريح أهمّيّة خاصّة لصفقات الشراء العامّ التي تعقدها الدولة.
  • كما صرّح أنّه يفضّل أن يتحاور وزير المالية علي حسن خليل ووزير الطاقة والمياه آرتور نظريان مباشرة مع رئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة وفريق عمله (علماً أنّ السنيورة لم يكن وزيراً آنذاك)، وأنّ بإمكانه أن ينضمّ إليهم. وهذا التصريح إنّما يعطينا معلومات قيّمة ونادرة حول الأسباب التي تقوده إلى تقليص سلطة الوزير أو سلطة مجلس الوزراء كسلطة إجرائية في قضايا الشراء العامّ. فهو من جهة أولى يحدّد الأشخاص الذين سيتعيّن عليهم اتّخاذ القرار، وهم يمثّلون القوى الثلاث الكبرى في الحكم، التيّار الوطني الحرّ وحركة أمل (ممثّلَيْن بالوزيرَيْن نظريان وخليل) وكتلة المستقبل ممثَّلة بالسنيورة. ومن جهة ثانية، يوضح أنّ اللقاء يهدف إلى التحاور أي التفاوض من دون الإشارة إلى أيّ دراسات اقتصادية أو مالية. وإذ نفهم من هذا التصريح أنّ الغاية من التحاور ليست تقييم مدى ملاءمة استمرار العقد أو البحث عن الآليّة الفضلى لشراء الفيول، إنّما بالدرجة الأولى ضمان التوازن بين الفرقاء بما يتّصل بعقود الشراء العامّ على نحو يرضي هؤلاء الفرقاء الثلاثة. وهو توازن قد يتحقّق من خلال هذا العقد أو من خارجه، وكلّها أمور تصعب مناقشتها في مجلس الوزراء أو في أيّ من المؤسّسات العامّة، لارتباطها بتوازنات بين مصالح فئوية أكثر من ارتباطها بمصلحة عامّة.

4- عقد الشراء العامّ يتمّ في الكواليس بدون معرفة الرأي العامّ

يُضاف إلى ذلك أنّ مجمل المواقف، المؤيِّدة كما المعارضة لتمديد العقد، إنّما تتمّ في الكواليس. ففيما يُستشَفّ من مداخلات دي فريج رغبتُه في حسم الخيار الحكومي في مفاوضات تجري خارج مجلس الوزراء أي سرّاً وبمنأى عن أيّ شفافيّة، بقيت اعتراضات الجهة المعترضة (وفي مقدّمتها التيّار الوطني الحرّ) هي الأخرى طيلة قرابة عقد من الزمن سرّية ضمن مجلس الوزراء من دون أيّ احتكام للرأي العامّ. وفيما وصف الوزير باسيل ما يحصل بـ”أكبر فضيحة” أكّد “أنّه يجب تجنّب الحديث عن الأمر في العلن كون المواطنين سيتساءلون عندها لماذا لم يوفّر الوزراء إذا كان بمقدورهم ذلك”.

الوزير علي حسن خليل، وزير المالية، نفسه التزم الصمت واستمرّ في صرف الأموال لشركة سوناطراك رغم إقراره داخل مجلس الوزراء “أنّه لا يعرف ما إذا كانت الشركة الجزائرية مملوكة من الحكومة الجزائرية”، أي أنّه استمرّ في تسديد الأموال لشركة لا نعرف الكثير عنها من دون تنبيه أيّ من أجهزة الرقابة.

وما يزيد من قابليّة هذا الأمر للنقد هو أنّ التمسّك بهذه السرّية إنّما يحصل بمناسبة مناقشة عقد شراء عامّ بمبالغ طائلة، أي في مجال يُفترض أن يخضع لأعلى قدر ممكن من الشفافية.

[1] الصفحات 72-88 من القرار الظنّي الصادر في 10/7/2020.

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني