كيف تعامل القضاء العسكري مع شكاوى التعذيب؟ (1)


2024-07-10    |   

كيف تعامل القضاء العسكري مع شكاوى التعذيب؟ (1)

تضمن اتّفاقية مناهضة التعذيب حقّ ضحايا التعذيب في أن تنظر السلطات المختصّة في شكواهم على وجه السرعة والنزاهة (المادّتان 12 و13). وقد ترجم المشرّع اللبناني هذا الالتزام في المادّة 24 مكرّر من قانون أصول المحاكمات الجزائية المضافة بموجب القانون 65/2017، والتي تنصّ على أصول الاستقصاء والتحقيق في قضايا التعذيب. بالإضافة إلى ذلك، يشكّل “دليل التقصّي والتوثيق الفعّالَين للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة” أو ما يعرف بـ”بروتوكول إسطنبول” الوثيقة الرسمية الأولى الصادرة عن الأمم المتّحدة التي تضع المبادئ التوجيهية الدولية المتعلّقة بتوثيق التعذيب[1]. وتُعَدّ هذه المبادئ اليوم المعايير الأدنى التي يجب الاستناد إليها لضمان التحقيق الفعّال في قضايا التعذيب. فهل يلتزم القضاء العسكري بأصول المادّة 24 مكرّر وبمعايير “بروتوكول إسطنبول” في تعامله مع قضايا التعذيب؟

انطلاقًا من مراجعة عيّنة الشكاوى التي تشملها هذه الدراسة، نبحث في مدى التزام القضاء العسكري بضمان موجب التحقيق السريع في شكاوى التعذيب (1) وحظر الاستعانة بالأجهزة الأمنية خلال التحقيق فيها (2)، وكذلك ضمان موجبات البحث عن الأدلّة والحفاظ عليها (3) وحماية الضحايا (4) وإبطال الأقوال المدلى بها تحت التعذيب (5)، وصولًا إلى البحث في مصير الشكاوى المشمولة في العيّنة (6). وتجدر الإشارة إلى أنّنا سبق أن بحثنا في الورقة البحثية السابقة في مسألة تغييب القضاء العسكري لضحايا الجرائم الخاضعة لصلاحيّته، وذلك من خلال منعهم من الادّعاء الشخصي والمشاركة في إجراءات التحقيق والمحاكمة أمامه، ممّا يُعيق تمكّنهم من التأثير في مسار المحاكمات ونتيجتها التي تؤثّر بدورها على حقوقهم. كما تقضي الممارسة الحالية بمنع الضحايا من الوصول إلى المستندات القضائية المتعلّقة بقضيّتهم، ممّا يعيق حقّهم في الإنصاف القانوني.

2.1  مخالفة موجب التحقيق السريع في شكاوى التعذيب

تنصّ المادّة 12 من اتّفاقية مناهضة التعذيب على موجب الدولة بقيام سلطاتها المختصّة “بإجراء تحقيق سريع ونزيه” في المعلومات المتعلّقة بارتكاب أعمال تعذيب في الأراضي الخاضعة لسلطتها. كما تنصّ المادّة 13 منها على حقّ أيّ شخص يدّعي بأنّه قد تعرّض للتعذيب “في أن يرفع شكوى إلى سلطاتها المختصّة، وفي أن تنظر هذه السلطات في حالته على وجه السرعة وبنزاهة”. فالتحقيق في جرائم التعذيب يهدف إلى إثبات الوقائع المرتبطة بأعمال التعذيب المدّعى بها من أجل التعرّف إلى المسؤولين عنها تمهيدًا لملاحقتهم ومحاكمتهم، كما ومن أجل استخدامها في إجراءات أخرى تستهدف جبر ضرر الضحايا.

وقد ترجم قانون معاقبة التعذيب اللبناني هذا الالتزام من خلال وضع موجب على النيابات العامة بمعالجة إخبارات وشكاوى التعذيب خلال مهلة 48 ساعة من ورودها، بحيث نصّت الفقرة الأولى من المادّة 24 مكرّر من أصول المحاكمات الجزائية على أنّه “عند ورود شكوى أو إخبار إلى النيابة العامة في شأن الجرائم المنصوص عليها في المادّة 401، على هذه النيابة العامة، ضمن مهلة 48 ساعة، أن تقرّر إمّا حفظ الشكوى وإما الادّعاء أمام قاضي التحقيق…”. ويجد هذا الموجب تبريره وفقًا للجنة مناهضة التعذيب في ضرورة وقف أعمال التعذيب في حال استمرارها، وكذلك في المحافظة على الأدلّة، بخاصّة أنّ الآثار الجسدية للتعذيب قد تختفي سريعًا عن جسم الضحيّة، ممّا يحرمها من دليل حسّي لإثبات شكواها[2].

يفيد المحامون الذين تمّت مقابلتهم في إطار الإعداد لهذه الدراسة، بأنّ القضاة في القضاء العسكري نادرًا ما يحقّقون في إدلاءات المدّعى عليهم بتعرّضهم للتعذيب، كما نادرًا ما يحيلونها إلى النيابة العامة لإجراء التحقيقات اللازمة فيها. وتؤكّد لجنة مناهضة التعذيب أنّ موجب الدولة بالمباشرة في تحقيق سريع لا يشترط تقدُّم الضحيّة بشكوى رسمية، بل يكفي بأن تدلي الضحيّة بحصول التعذيب أو أن تتوافر أسباب معقولة للاعتقاد بأنّ أعمال التعذيب قد حصلت، مهما كان مصدرها[3].

ويفيد المحامون بأنّ قضاة النيابات العامة التمييزية والعسكرية لم يحققوا في معظم الحالات التي تقدّم فيها الضحايا بشكاوى تعذيب، كما يفيدون بأنّ معظمهم قد تقدّم بشكاوى أمام النيابة العامة التمييزية، إلّا أنّ هذه الأخيرة اكتفت بإحالتها إلى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية من دون إجراء تحقيقات أو اتّخاذ الإجراءات التي تستوجب العجلة كالمعاينة الطبِّية. وفي بعض الحالات حيث تقدّم وكلاء لموقوفين بشكاوى إخفاء قسري وتعذيب تبعًا لحرمان الموقوفين من ممارسة حقوقهم بموجب المادّة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، طلب قضاة النيابة العامة التمييزية من المدّعي الموقوف تقديم إثباتات إضافية، أي إنّهم لم يكتفوا بمخالفة موجباتهم بإجراء التحقيقات اللازمة، بل ألقوا المسؤولية على الضحيّة المحتجَزة. ويقول المحامون إنّ النيابة العامة العسكرية غالبًا ما تؤخّر المباشرة في إجراءات التحقيق في شكاوى التعذيب، لا سيّما لجهة تكليف طبيب شرعي، لعدّة أسابيع أو أشهر، على نحو قد يؤدّي إلى زوال الأدلّة على حصول التعذيب. كذلك أفاد أحد المحامين بأنّ النيابة العامة التمييزية تمتنع أحيانًا عن تسجيل شكاوى التعذيب، ممّا أرغمه على إرسال بعضها عبر البريد. وفي الحالات القليلة التي قُدّمت فيها شكاوى التعذيب مباشرة إلى النيابة العامّة العسكرية، أفاد المحامون بأنّ هذه الأخيرة امتنعت عن تسجيل الشكاوى ولم تعطِها رقمًا تسلسليًّا، كما لم تمنح المدّعي إفادة حول مصيرها.

ومن مراجعة عيّنة القضايا، يتبيّن أنّ السلطات القضائية لم تلتزم بموجب التحقيق السريع في شكاوى التعذيب المشمولة في العيّنة، باستثناء قضيّة السعود. وإذ تقدّمت جميع هذه الشكاوى أمام النيابة العامة التمييزية، امتنعت هذه الأخيرة عن إجراء أيّ تحقيق في أيّ منها وأحالتها جميعها إلى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية. ولم تلتزم النيابة العامة العسكرية بمعالجة شكاوى التعذيب بسرعة وخلال مهلة 48 ساعة، بحيث وصلت المدّة بين تقديم الشكاوى ومباشرة التحقيقات فيها إلى أسبوعَين في قضيّة المتظاهرين، وستّة أسابيع في قضيّة الحدّاد، وستّة أشهر في قضيّة عيتاني، ممّا أدّى غالبًا إلى فقدان الضحايا أدلّةً هامّة حول تعرّضهم للتعذيب. وقد اعتبرت لجنة مناهضة التعذيب في قرارتها أنّ تأخّر السلطات القضائية الإسبانية في مباشرة التحقيق لمدّة 18 يومًا كان كافيًا للقول بانتهاكها الاتّفاقية الدولية[4].

وقد ظهرت خطورة هذه المخالفة القانونية، بشكل خاص، في قضيّة الحدّاد، حيث لم تباشر النيابات العامة تحقيقاتها إلّا بعد مرور ستّة أسابيع على حادثة الاعتداء على السجناء في نظارة الشرطة العسكرية في ثكنة فخر الدين في بيروت. وإذ تقدّم وكيل الحدّاد بشكوى التعذيب في تاريخ 17/08/2021 (بعد ثلاثة أيّام على حصول أعمال التعذيب المشكوّ منها في 14/08/2021)، في وقت كان لا يزال الحدّاد قيد الاحتجاز لدى الجهاز المشتبَه في تعذيبه، إلّا أنّ النيابة العامة العسكرية لم تقرّر عرضه على طبيب شرعي والاستماع إلى إفادته إلّا بعد أكثر من شهر، أي في 22/09/2021. وإن خَلصت نتيجة المعاينة الطبِّية للحدّاد إلى عدم وجود آثار كدمات أو ضربات أو جروح على جسده، خسِر الحدّاد دليلًا أساسيًّا لإثبات شكواه، علمًا أنّ عددًا من أهالي السجناء المحتجزين مع الحدّاد أفادوا لـ”المفكّرة” بمشاهدتهم آثارَ الضرب على أجسادهم لدى زيارتهم بعد أيّام من حصول الحادثة[5]. كما خسرت النيابة العامة العسكرية الثقة والمصداقية في إجراءات التحقيق التي اتّبعتها، علمًا أنّها أجرت تحقيقًا مع عناصر الشرطة العسكرية تبعًا لحصول الحادث، من دون أن يتسنّى لنا الاطّلاع على هذه التحقيقات لمعرفة مدى إجرائها تحقيقات موسَّعة، واطّلاعها على تسجيلات كاميرات المراقبة، وشمولها معاينةَ طبيبٍ شرعي الحدّادَ أو غيره من الموقوفين.

وفي قضيّة المتظاهرين، امتنعت النيابة العامة العسكرية عن إجراء أيّ تحقيق فعلي في الشكاوى الّتي قدّموها، ومنهم جابر وشعيب. فقد أحالت معاونة مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية الشكاوى (منى حنقير) إلى الأجهزة الأمنية لإجراء التحقيقات فيها في 30/12/2019، أي بعد أسبوعَين على تقديمها في 18/12/2019، إلّا أنّها انتهت إلى حفظ الشكاوى في 3/02/2020 من دون إجراء أيّ تحقيق فيها، تحت ذريعة رفض المدَّعين المثول أمام الأجهزة المشتبه في ارتكابها التعذيب، وهو ما سنعود إليه لاحقًا.

أمّا في قضيّة عيتاني، فقد امتنع القضاء العسكري عن التحقيق في ادّعاءات التعذيب لمدّة تجاوزت 16 شهرًا من علمه بها، وستّة أشهر من تقديمه الشكوى. بدايةً، كشف عيتاني عن التعذيب الذي تعرّض له خلال جلسة التحقيق الأولى المنعقِدة في 1/12/2017 (أي بعد أقلّ من أسبوع من حصولها) أمام قاضي التحقيق العسكري (رياض أبو غيدا)، ولاحقًا لدى استماع شعبة المعلومات إلى إفادته، كما يتبيّن من محضر التحقيق. ويؤكّد عيتاني أنّه عرض آثار التعذيب على جسمه للقاضي خلال الجلسة، كما على الطبيب العسكري الذي عاينه في اليوم نفسه[6]. وقد استجوب القاضي بعض عناصر أمن الدولة الذين حقّقوا مع عيتاني بصفة شهود بدلًا من استجوابهم بصفة مشتبه فيهم بارتكاب التعذيب، واكتفى بإنكارهم تعرّضهم لعيتاني بالضرب أو التعذيب من دون إجراء أيّ تحقيقات إضافية. وفي قراره الاتّهامي الصادر في 29/5/2018، لم يتّخذ القاضي أيّ إجراء بحقّ عناصر أمن الدولة الذين أدلى عيتاني بتعرّضهم له، كما لم يتبيّن لنا اتّخاذ النيابة العامة العسكرية أيّ إجراءات بحقّهم.

وبعد أن تقدّم عيتاني بشكوى رسمية في 28/11/2018 ضدّ عناصر أمن الدولة المشتبه بضلوعهم في تعذيبه، امتنع مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية (بيتر جرمانوس) عن اتّخاذ أيّ قرار بشأنها، مكتفيًا بإحالتها من دون ادّعاء ومن دون تحريك الدعوى العامة إلى المحكمة العسكرية التي كانت قد باشرت بمحاكمة المتَّهمين بالافتراء على عيتاني. ولم يتحرّك القضاء العسكري لاتّخاذ إجراءات بحقّ عناصر أمن الدولة المشتبه فيهم، حتّى بعد إدلاء عيتاني بإفادته المفصَّلة حول تعرّضه للتعذيب بصفة شاهد أمام المحكمة العسكرية في 21/2/2019. وخلال جلسة المحاكمة المنعقدة في 21/3/2019، أعلن رئيس المحكمة العسكرية أنّه أعاد شكوى عيتاني إلى النيابة العامة العسكرية. وفي 12/04/2019، أي بعد أكثر من ستّة أشهر على تقديم عيتاني شكواه و16 شهرًا على إبلاغه القضاء العسكري بتعرّضه للتعذيب، استدعى معاون مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية (رولان شرتوني) عيتاني من أجل الاستماع إلى إفادته، إلّا أنّ عيتاني طالب بإحالة الشكوى إلى القضاء العدلي كونه الوحيد المختصّ بالنظر في شكاوى التعذيب. استجابت النيابة العامة العسكرية لطلب عيتاني[7] وأعادت الشكوى إلى النيابة العامة التمييزية في 10/6/2019، لتحيلها هذه الأخيرة في 17/6/2019 إلى النيابة العامة الاستئنافية في بيروت التي باشرت تحقيقاتها في 25/6/2019 واستمعت إلى إفادة عيتاني في 4/7/2019، لتعود وتحفظ الشكوى في 11/01/2022 من دون أيّ ادّعاء أو تعليل ومن دون تبليغ الضحيّة.

وفي هذا الصدد، كان لافتًا إقرار ممثّل النيابة العامة التمييزية (غسّان خوري) بمخالفة القضاء العسكري لموجب التحقيق في جرائم التعذيب، وذلك خلال مرافعته في نيسان 2021 أمام محكمة التمييز العسكرية في إطار محاكمة المتَّهمين بالافتراء على عيتاني. فقد أكّد خلالها أنّ الطعن بالحكم الصادر عن المحكمة العسكرية جاء بهدف تصحيح ما سبق “بخصوص تغاضي القضاء العسكري عن الجرم الرئيسي والأساسي”، الذي أودى بنتيجته إلى اعتراف عيتاني بجرم لم يرتكبه بعد مواجهته بأدلّة إلكترونية مزيّفة و”عدم التحقيق مع العناصر الأمنية التي حقّقت مع عيتاني وكيفيّة وصولها إلى هذه النتيجة”، طالبًا من المحكمة إحالة الأوراق إلى النيابة العامة العسكرية “لإجراء التحقيقات والملاحقات بخصوص كلّ من ساهم في ارتكاب الجرم، خصوصًا جهاز أمن الدولة”. وعلى أثرها، حصل نقاش بين ممثّل النيابة ورئيس محكمة التمييز (طاني لطّوف) الذي استغرب هذا الطلب بحيث اعتبره “متأخّرًا”، وصولًا إلى تجاهله بشكل تامّ في الحكم النهائي[8].

أمّا في قضيّة السعود، فيظهر أنّ مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية باشر إجراءات التحقيق تلقائيًّا فور إبلاغه بوفاة السعود من قبل عناصر أمن الدولة في 31/08/2022، بعد نحو ساعتَين من حصولها، وقبل أن يتقدّم ورثته بشكواهم في 8/09/2022. وقد تعود سرعة التحقيق في هذه القضيّة إلى كون التعذيب قد أفضى إلى موت الضحيّة، علمًا أنّ القانون يفرض إبلاغ النيابة العامة بأيّ وفاة تحصل في أماكن التوقيف والسجون[9].

2.2  مخالفة حظر الاستعانة بالأجهزة الأمنية

يتمثّل أبرز الإصلاحات التي اعتمدها قانون معاقبة التعذيب في حصر التحقيق في قضايا التعذيب في يد القضاة، ومنعهم من الاستعانة بالأجهزة الأمنية إلّا بهدف ضبط الأدلّة أو القيام بمهمّات فنِّية. فقد نصّت الفقرة الأولى من المادّة 24 مكرّر من أصول المحاكمات الجزائية المضافة بموجب القانون رقم 65/2017 أنّ على النيابة العامة معالجة الشكوى أو الإخبار بالتعذيب “من دون إجراء أيّ استقصاء أو تحقيق أوّلي في هذا الصدد إلّا من قبلها شخصيًّا، باستثناء القرارات الضرورية للمحافظة على الأدلّة وضبطها وتكليف طبيب شرعي للكشف على ضحيّة التعذيب المفترضة، إذا لم تكن مرفقات الشكوى أو الإخبار تضمّ تقريرًا طبِّيًّا من هذا القبيل”. كما أكّدت الفقرة الثانية منها أنّ على قاضي التحقيق الناظر في قضايا التعذيب “أن يتولّى بنفسه القيام بجميع إجراءات التحقيق… دون استنابة الضابطة العدلية أو أيّ جهاز أمني آخر للقيام بأيّ إجراء باستثناء المهمّات الفنِّية”. وأضافت الفقرة الثالثة منها أنّه يتوجب على القضاة “معاملة ضحايا التعذيب أثناء الاستماع إليهم والمحاكمة، بشكل يحفظ الأدلّة والقرائن ويأخذ بالاعتبار حالتهم النفسية الناشئة عن تعرّضهم للتعذيب”.

ويتلاءم هذا الحظر مع المعايير الدولية التي تفرض أن تكون الجهة التي تتولّى التحقيق في قضايا التعذيب مستقلّة عن الجهاز المشتبه في ارتكابه التعذيب، وألّا يكون لها علاقة بسلطة التحقيق أو الملاحقة القضائية في القضيّة التي اتّهم فيها الشخص المدّعى تعرّضه للتعذيب.[10] ويجد هذا النصّ تبريره في ضرورة ضمان نزاهة التحقيق وحياديته لجهة إبعاد الأجهزة الأمنية، التي يشتبَه أنّ عناصرها شاركت في جرائم التعذيب، عن إجراءات التحقيق، كما وتجنّب خضوع الضحايا للجهاز الأمني الذي اشتكوا ضدّه، بما يشكّل حماية أساسية لهم ولحقّهم في الانتصاف القضائي.

بالرغم من صراحة النصّ، يؤكّد المحامون الذين تمّت مقابلتهم في إطار الإعداد لهذه الدراسة، أنّ النيابة العامة العسكرية قد أحالت معظم شكاوى التعذيب التي باشرت التحقيق فيها إلى الأجهزة الأمنية المشتبه فيها لإجراء التحقيقات، حتّى في الحالات التي كانت ما تزال فيها الضحيّة قيد الاحتجاز. ويتبيّن من القضايا المشمولة في العيّنة أنّ النيابة العامة العسكرية أحالتْ ثلاث شكاوى تعذيب إلى الأجهزة الأمنية المشتبه فيها، مكلِّفة إيّاها إجراء التحقيقات فيها، من ضمنها الاستماع إلى إفادة الضحايا. كما يتبيّن أنّها لم تعدل عن موقفها هذا حتّى بعد أن أثاره المعنيّون. وقد شكّل ذلك مخالفة للنصّ القانوني وللمبادئ العامة التي ترعى مبادئ المحاكمة العادلة، والتي تفترض عدم وضع أيّ متقاضٍ في وضعيّة الخضوع لتحقيق لا تتوافر فيه شروط الحيادية، كأن يكون المشتبه فيه عنصرًا في الجهاز الذي تمّ تكليفه بإجراء التحقيق. وهذا الأمر ينطبق بشكل خاص في الحالات التي تكون فيها ضحيّة التعذيب محتجزةً لدى الجهاز المشتبه فيه، وفي الظروف التي يشتبه فيها أنّ أعمال التعذيب لا تتأتّى عن أخطاء فردية لبعض العناصر، بل في الغالب عن نهج يتحكّم في آليّات عمل الجهاز برمّته.

في قضيّة الحدّاد، الذي أدلى بتعرّضه للتعذيب على يد الشرطة العسكرية في بيروت خلال احتجازه في نظارتها في ثكنة فخر الدين، أحال مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، في أيلول 2022، شكوى التعذيب المقدّمة من وكيله إلى الشرطة العسكرية في بيروت نفسها، وطلب منها إجراء معاينة طبِّية له والاستماع إلى إفادته. فاستمعت الشرطة العسكرية إلى إفادة الضحيّة المحتمَلة وهو لا يزال محتجزًا لديها، ومن دون حضور محاميه، ممّا شكّل مخالفة قانونية للموجبات المنصوص عنها في المادّة 24 مكرّر، لا سيّما لجهة موجب عدم الاستعانة بالأجهزة الأمنية، وموجب الأخذ بعين الاعتبار الحالة النفسية لضحيّة التعذيب في أثناء الاستماع إليها. وقد تبيّن أنّ إفادة الحدّاد تضمّنت نفيه تعرُّضَه للتعذيب أو طلبه من وكيله تقديم شكوى تعذيب. وعليه، تثير هذه المخالفات القانونية وظروف الاستماع إلى إفادة الضحيّة شبهات جدِّية حول مدى إدلائه بأقواله بإرادة حرّة؛ ذلك أنّ عناصر الشرطة العسكرية لم يكتفوا بجمع صفتَي المحقِّق والمشتبه فيه فحسب، بل ظهروا أيضًا بصفة السجّان. وقد برز ذلك، بشكل لافت، في ورود عبارة “ضدّكم” في إفادة الحدّاد، حيث ورد أنّه لم يطلب من وكيله تقديم أيّ شكوى “ضدّكم”، أي الشرطة العسكرية، ممّا يؤكّد تصوّره، وكذلك تصوّر المحقّق الذي دوّن الإفادة، أنّ المحقّق هو أيضًا المشكوّ منه. ويُشار إلى أنّ أحد المحامين صرّح بحصول حالة مشابهة في قضيّة أخرى لم نتمكّن من التحقُّق من مدى صحّتها، وهي تتعلّق بشكوى تعذيب سجين في سجن روميه التابع لقوى الأمن الداخلي، إذ تمّ نقله من السجن إلى شعبة المعلومات لدى قوى الأمن الداخلي حيث أفاد بأنّه تعرّض للضرب والتهديد على خلفيّة ادّعائه على ضابط بالتعذيب، ممّا جعله ينكر إفادته.

بالرغم من أنّ مفوّض الحكومة عاد واستمع إلى الحدّاد بنفسه في اليوم التالي في مقرّ النيابة العامة العسكرية، حيث اكتفى بتدوين تأكيد الموقوف إفادتَه السابقة، إلّا أنّ ذلك لا يلغي المخالفات القانونية التي سبقتها، وذلك نظرًا إلى صعوبة إنكار الحدّاد إفادته الأولى طالما أنّه كان لا يزال محتجزًا لدى الجهاز المشتبه فيه. وما يعزّز ذلك هو إفادة الموقوفين في مركز أمن الدولة في تبنين أمام قاضية التحقيق العسكري في قضيّة السعود، الذين رفضوا ذكر أسماء العناصر الذين تعرّضوا لهم بالتعذيب وحتّى التعرّف إليهم، “خوفًا منهم”، طالما أنّهم ما زالوا قيد الاحتجاز في المركز نفسه الذي تعرّضوا فيه للتعذيب.

وفي قضيّة متظاهري 17 تشرين، قرّرت معاونة مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية (منى حنقير)، في كانون الأوّل 2019، إحالة جميع الشكاوى المقدّمة من المتظاهرين إلى الأجهزة الأمنية، التي طالتها الشكاوى، من أجل إجراء التحقيقات فيها، وهي مخابرات الجيش بالنسبة إلى شكوى جابر، وشعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي بالنسبة إلى شكوى شعيب. وقد شكّل اتّصال الأجهزة الأمنية بالضحايا واستدعاؤهم إلى المراكز الأمنية والعسكرية للاستماع إلى إفادتهم مصدرَ قلق للضحايا الذين شعروا بالخوف والخشية من الاستجابة للاستدعاء، فأعلموا الجهاز المستدعي برفضهم الحضور استنادًا إلى المادّة 24 مكرّر من قانون أصول المحاكمات الجزائية. وفيما عادت النيابة العامة التمييزية لتصدر في تاريخ 13/01/2020، بناءً على طلب محاميّي لجنة الدفاع عن المتظاهرين، أمرًا خطّيًّا إلى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بوجوب “التقيّد بأحكام المادّة /24/ من القانون واتّباع الأصول المحدّدة فيها لجهة إحالة الأوراق إلى المرجع الصالح”، أي قاضي التحقيق العسكري، تمسّكت معاونة مفوّض الحكومة بموقفها لتنتهي إلى حفظ الشكوى في 3/02/2020 “لعدم قبول مقدّمي الشكاوى الإدلاء بإفادتهم أمام الضابطة العدلية العسكرية”، ولاعتبارها أنّ “الأفعال المدّعى بها لا تنطبق على القانون 65/2017” من دون أيّ تعليل إضافي. ولم تخالف المعاونة بذلك النصّ القانوني فحسب، إنّما خالفت أيضًا الأمر الصادر عن النائب العام التمييزي.

بخلاف هذا التوجُّه، لم تتبيّن استعانة النيابة العامة العسكرية بالأجهزة الأمنية للتحقيق في قضيّة السعود، ذلك أنّ مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية (فادي عقيقي) أجرى التحقيقات شخصيًّا. ويُشار إلى أنّ النيابة العامة العسكرية  اتّخذت منحًى مختلفًا أيضًا في قضيّة تعذيب أخرى تتعلّق بمتظاهرين أدلوا بتعرّضهم للتعذيب بالصعق الكهربائي في فرع مخابرات الجيش في ثكنة زغيب في صيدا، في نيسان 2020؛ فقد باشر مفوّض الحكومة السابق (بيتر جرمانوس) التحقيق فيها من تلقاء نفسه بعدما تداولت بها وسائل إعلام عدّة، وكلّف مديرية المخابرات المركزية بالتحقيق فيها، علمًا أنّ اثنَين من الضحايا كانا قد صرّحا إلى الإعلام أنّ عناصر المخابرات هدّدوهما بإعادتهما إلى السجن وتعذيبهما مجدّدًا، في حال أفصحا عمّا جرى معهما. وعاد مفوّض الحكومة وعدل عن قراره هذا بناءً على طلب محامي لجنة الدفاع عن المتظاهرين، ليعود ويحوّل القضيّة إلى قاضي التحقيق العسكري من دون ورقة طلب أو ادّعاء[11]؛ مع العلم أنّ قاضي التحقيق العسكري لم يباشر التحقيق فيها لغاية اليوم.

ختامًا، يُلحظ أنّ الأجهزة الأمنية تمسّكت، في سياق مناقشاتها غير الرسمية مع محامين، بصلاحياتها في التحقيق في شكاوى مماثلة، بالنظر إلى كونها المرجع المختصّ لتأديب العناصر واتّخاذ عقوبات مسلكية بحقّ المخالفين منهم. وعدا عن أنّ هذه الحجّة لا تتّصل بأيّ حال من الأحوال بالتحقيقات الحاصلة في إطار الشكاوى الجزائية التي تخضع لأصول المحاكمات الجزائية حصرًا، يبقى أنّه من المستحسَن أن ينظّم القانون صراحةً التحقيقات المسلكية في قضايا التعذيب، منعًا لأيّ تأثير قد ينتج منها على مآل التحقيقات القضائية في هذه القضايا.

2.3  مخالفة موجب البحث عن الأدلّة والحفاظ عليها

وفقًا لـ”بروتوكول إسطنبول”، ينبغي للتحقيق الفعّال في جرائم التعذيب أن يتضمّن، كحدّ أدنى، الاستماع إلى أقوال الضحيّة المحتملة، ضبط الأدلّة المتعلّقة بالتعذيب، بما في ذلك الأدلّة الطبِّية، والمحافظة عليها، محاولة التعرّف إلى الشهود المُحتملين والاستماع إلى أقوالهم، تحديد زمان ومكان حصول أعمال التعذيب المحتملة، وأيّ نمط أو ممارسة قد يرتبط بها ارتكاب هذا التعذيب. ويظهر من عيّنة القضايا أنّ القضاء العسكري تقاعس عن الالتزام بمبادئ “بروتوكول إسطنبول” هذه في جميع القضايا التي شملتها العيّنة.

  • توثيق أقوال الضحيّة المحتملة

يوصي “بروتوكول إسطنبول” بتوثيق إفادة الضحايا بدقّة، وعلى نحو يضمن سلامتهم الجسدية والنفسية، مع التشديد على أهمِّية منحهم كلّ التسهيلات الضرورية[12]. وتفرض المادّة 24 مكرّر من أصول المحاكمات الجزائية على القضاة “معاملة ضحايا التعذيب أثناء الاستماع إليهم والمحاكمة، بشكل يحفظ الأدلّة والقرائن ويأخذ بالاعتبار حالتهم النفسية الناشئة عن تعرّضهم للتعذيب”.

وفقًا للمحامين الذين تمّت مقابلتهم في إطار الإعداد لهذه الدراسة، غالبًا ما يكتفي القضاة في القضاء العسكري (لا سيّما قضاء التحقيق والمحاكمة) بتدوين إفادة المدّعى عليهم بتعرّضهم للتعذيب خلال جلسات استجوابهم من دون التوسُّع فيها، كأن يستوضحوهم عن ادّعائهم ذاك (كيفيّة حصول التعذيب أو تاريخه أو الجهة المرتكِبة)؛ وينسحب ذلك على الحالات التي تكون ضحيّة التعذيب فيها من العناصر العسكرية والأمنية. وتبعًا لذلك، لم نرصد أن أحال أيّ مرجع قضائي في المحكمة العسكرية محاضر الاستماع إلى المدّعى عليهم أمامها إلى النيابة العامة لإجراء تحقيقات في إدلاءاتهم بحصول أعمال تعذيب.

يؤكّد رئيس المحكمة العسكرية أيضًا هذا الأمر، ويبرّره بأنّ جميع المدّعى عليهم يدلون بتعرّضهم للتعذيب، وبأنّه غالبًا ما يكون قد مرّ وقت على حصول أعمال التعذيب لدى مثول المدّعى عليهم أمام المحكمة، ممّا يُصعِّب إثباته. ويضيف أنّ النيابة العامة تكون ممثَّلة خلال جلسات المحاكمة، وأنّ بإمكانها طرح الأسئلة وتقديم الطلبات للمحكمة واتّخاذ الإجراءات التي تراها مناسبة على خلفيّة إدلاء المدّعى عليهم بتعرّضهم للتعذيب. ومؤدّى ذلك عمليًّا إهمالُ جميع السلطات في القضاء العسكري موجباتِها في حفظ أدلّة التعذيب، وتوثيق إفادة الضحيّة وإجراء التحقيقات فيها. 

وبمراجعة القضايا المشمولة في العيّنة، يتبيّن أنّ القضاء العسكري تقاعس عن توثيق إفادات الضحايا بما يتلاءم مع مبادئ “بروتوكول إسطنبول”. ففي قضيّة الحدّاد، وثّقت النيابة العامة العسكرية أقواله بشكل مخالف للقانون، كما شرحنا سابقًا، إذ تمّ ذلك من قبل الجهاز المشتبه فيه بتعذيبه، وخلال استمرار احتجازه لدى الجهاز نفسه، ومن دون حضور محاميه، وهي ظروف تثير الشكوك حول مدى إدلائه بأقواله بإرادة حرّة، بخاصّة لجهة إنكاره تعرّضه للتعذيب.

أمّا بالنسبة إلى المتظاهرين، فلم يُجرِ القضاء العسكري أيّ تحقيقات فعلية في الشكاوى المقدّمة منهم، ولم يُقدِم على المحافظة على الأدلّة بشكل كافٍ، بخاصّة لجهة توثيق أقوال الضحايا؛ ذلك أنّ النيابة العامة العسكرية لم تستمع إلى إفادة المتظاهرين، من ضمنهم جابر وشعيب، فيما بدا كإجراء عقابي لرفضهم التطبيع مع مخالفات النيابات العامة، ولإصرارهم على تطبيق القانون الذي ينصّ على حظر إجراء الأجهزةِ الأمنية التحقيقات. كذلك امتنعت المحكمة العسكرية عن توثيق إفادات ضحايا التعذيب من المتظاهرين الذين أحيلوا إلى المحاكمة أمامها بشكل كافٍ، وهذا ما حصل بشكل خاصّ مع جابر وشعيب اللذَين مَثلا أمام المحكمة العسكرية ليُحاكما بتهمة معاملة قوى الأمن بالشدّة، على غرار مئات المتظاهرين الذين ادّعت النيابة العامة العسكرية بحقّهم، في حين امتنعت عن محاسبة أيّ من عناصر الأجهزة الأمنية الذين اعتدوا عليهم[13]. ويظهر من محضر استجوابهما من قبل المحكمة، في تشرين الأوّل 2020 (جابر) وتشرين الثاني 2021 (شعيب)، أنّها لا تتضمّن تفاصيل كافية حول التعذيب الذي تعرّضا له ولا حول نتائجه. وقد طلب شعيب من المحكمة إحالة محضر استجوابه إلى النيابة العامة العسكرية لكي تقوم بالتحقيق في الاعتداء عليه، بعد أن كانت قد حفظت الشكوى التي تقدَّم بها، إلّا أنّ المحكمة امتنعَت عن البتّ بطلبه أو اتّخاذ أيّ إجراء بهذا الخصوص.

ولم نتمكّن من الاطّلاع على محاضر استماع قضاة القضاء العسكري إلى عيتاني، علمًا أنّه تمّ توثيقها على ثلاث مراحل أمام القضاء العسكري، وذلك بصفة مدّعى عليه موقوف من قبل قاضي التحقيق العسكري في كانون الأوّل 2017، وبصفة شاهد من قبل المحكمة العسكرية في شباط 2019 ومحكمة التمييز العسكرية في نيسان 2021. إلّا أنّ أيًّا من جلسات الاستماع هذه لم يتبعها تحقيق موسَّع في ادّعاءات التعذيب التي أدلى بها عيتاني.

  • المحافظة على الأدلّة الطبِّية

يشكّل التزام المحقّقين بتلاوة حقوق المادّة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية للموقوفين وتسهيل تطبيقها، وبخاصّة لجهة الاستعانة بمحامٍ والحقّ في المعاينة الطبِّية، وسيلة أساسية لمنع أعمال التعذيب، وكذلك لتوثيق آثارها وضمان استحصال الضحيّة على دليل يثبت تعرّضها للتعذيب. ويفيد المحامون بأنّهم غالبًا ما يواجهون صعوبة لطلب معاينة الموقوفين من قبل طبيب شرعي، لا سيّما بسبب تأخّر علمهم بتعرّض موكّليهم للتعذيب تبعًا لتقاعس النيابة العامة عن تطبيق المادّة 47، زِدْ عليهِ تأخُّر الأجهزة الأمنية عن سَوْق الموقوفين أمام القضاء[14]

وبمراجعة القضايا المشمولة في العيّنة، يتبيّن بالفعل أنّ كلًّا من جابر وشعيب لم يتمكّنا من طلب المعاينة الطبِّية خلال احتجازهما نتيجة امتناع المحقّقين عن تلاوة المادّة 47 خلال التحقيق معهما، إذ خلَت محاضر توقيفهما من أيّ إشارة إلى ذلك خلافًا للقانون. وبما أنّ احتجازهما لم يتجاوز مدّة يومَين، فقد تمكَّنا فور إطلاق سراحهما من الاستحصال على تقرير مفصَّل من طبيب شرعي لتوثيق آثار التعذيب.

أمّا عيتاني، فقد اكتفى محضر التحقيق معه بالإشارة إلى أنّه تمّ إعلامه بـ”حقّه في توكيل محامٍ أو الاتّصال بأحد أقاربه أو أصدقائه فلم يبدي رغبة بذلك”، من دون أن يتمّ إبلاغه بحقّه في طلب معاينة طبِّية. ويؤكّد عيتاني أنّه لم يكن على علمٍ بهذا الحقّ خلال احتجازه، وأنّه لم يتمكّن من مقابلة محاميه إلّا بعد أن استجوبه قاضي التحقيق العسكري، أي بعد ثلاثة أسابيع على توقيفه. وبالرغم من طلب عرضه على طبيب شرعي، اكتفى قاضي التحقيق العسكري (رياض أبو غيدا) بعرضه على الطبيب العسكري بعد أسبوع على توقيفه. ويفيد عيتاني بأنّه صرّح إلى الطبيب عن تعرّضه للتعذيب، غير أنّ هذا الأخير أخضعه لفحص صحِّي فقط، معتبرًا في تقريره أنّ عيتاني “بصحّة جيّدة” و”صالح لدخول السجن”. وفي حين يؤكّد عيتاني أنّ الطبيب العسكري وصَفَ له أدوية مضادّة للالتهاب ومسكّنة للآلام، ما قد يشكّل مؤشّرًا إلى تعرّضه للتعذيب ومحاولة لإخفاء الآثار، اكتفى تقرير الطبيب بالإشارة إلى حاجته إلى نظّارات فقط[15].

في المقابل، سارع مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية (فادي عقيقي) في قضيّة السعود إلى تكليف طبيب شرعي والأدلّة الجنائية في قوى الأمن الداخلي لمعاينة جثّة السعود، وذلك بعد ساعات قليلة على نقلها من مركز التحقيق إلى المستشفى في 31/8/2022. كما سارع إلى تكليف طبيب شرعي لمعاينة الموقوفين الآخرين في مركز أمن الدولة في تبنين فور زيارته لهم في 2/9/2022. أمّا في قضيّة الحدّاد، فقد تأخّر عرض الموقوف الحدّاد للمعاينة الطبِّية (من قبل طبيب السجن في الشرطة العسكرية وطبيب شرعي) لمدّة تجاوزت شهرًا ونصف الشهر كما شرحنا سابقًا، ممّا يرجّح أن تكون معاينته قد تمّت بعد زوال آثار العنف عن جسده، وتاليًا حرمانه من دليل أساسي لإثبات شكواه.

يفيد المحامون الذين تمّت مقابلتهم في إطار الإعداد لهذه الدراسة، بأنّ القضاء العسكري غالبًا ما يرفض طلباتهم بتكليف طبيب شرعي لمعاينة موكّليهم، أو يؤخّر البتّ بالطلبات أو تكليف الأطبّاء إلى حين زوال آثار التعذيب. كما يفيدون بأنّ القضاة غالبًا ما يقومون بتكليف طبيب السجن، أي الأطبّاء المتعاقدين مع الأجهزة العسكرية والأمنية لإجراء المعاينة، بدلًا من تكليف طبيب شرعي لا ارتباط له بالأجهزة. ويشير رئيس المحكمة العسكرية إلى أنّ المحكمة نادرًا ما تقرّر عرض المتَّهم على طبيب، ذلك أنّ آثار التعذيب غالبًا ما تكون قد زالت لدى مثوله أمامها، نظرًا إلى مرور مدّة زمنية طويلة منذ توقيفه. وهو يؤكّد أنّه في حال توجّب ذلك، فإنّ المحكمة تلجأ إلى طبيب شرعي مسجّل لدى نقابة الأطبّاء. وفي حال كان الموقوف يعاني من وضع صحِّي، تطلب المحكمة في هذه الحالة عرضه على طبيب السجن.

وقد أفاد أحد المحامين بأنّ رئيس المحكمة السابق (روجيه الحلو)، خلال جلسة محاكمة أحد المتّهمين أمام المحكمة العسكرية، رفض طلب الوكيل بكشف المتّهم عن صدره لإظهار آثار التعذيب، وذلك بالرغم من عدم ممانعة ممثّل النيابة العامة ذلك. وبعد أن وافق رئيس المحكمة على طلب المعاينة الطبِّية للكشف على المتّهم، وبعد أن عاين الطبيبُ الموقوفَ في مكان احتجازه متفحّصًا آثار التعذيب على جسمه، تفاجأ الوكيل بتدوين رئيس المحكمة، على المحضر، قرارًا بالتراجع عن الموافقة على طلب المعاينة من دون أيّ تعليل، وهو ما وضعه الوكيل في إطار طمس الأدلّة على حصول التعذيب.

أمّا بالنسبة إلى الأطبّاء الشرعيين، فقد أفاد المحامون بأنّهم يواجهون صعوبات للوصول إلى أطبّاء شرعيين يتمتّعون بالكفاءة اللازمة لإعداد تقارير وفقًا لمبادئ “بروتوكول إسطنبول”، لا سيّما أنّ العديد منهم غادر لبنان تبعًا لاشتداد الأزمة الاقتصادية. وتكمن الصعوبات أيضًا في تأخّر انتقال الأطبّاء الشرعيين إلى أماكن الاحتجاز، بالإضافة إلى تردّد بعضٍ منهم عن إجراء معاينات للمحتجَزين، خوفًا من التداعيات التي قد تنتج من توثيقهم آثارَ تعذيبٍ شديدٍ، بخاصّة بعد فضيحة مقتل السعود.

أمّا لجهة مضمون التقارير الطبِّية، فيشكو المحامون من انعدام معايير المهنية في تقارير الأطبّاء العسكريين التي تقتصر على التأكيد بأنّ الموقوف بصحّة جيدة، حتّى في حالات معاناة موكّليهم من عوارض صحِّية ظاهرة. كما تكتفي هذه التقارير بالإشارة إلى “وجود كدمات” على الموقوف في حال وجود آثار تعذيب على جسمه، من دون تفصيلها، ومن دون إرفاق صور، ومن دون الالتزام بمبادئ “بروتوكول إسطنبول”. وتفرض هذه المبادئ توثيق أقوال الشخص المُعايَن وروايته حول التعذيب الذي تعرّض له، وتفصيل المعاينة الطبِّية الجسدية والنفسية بدقّة مع إرفاقها بصور فوتوغرافية كلّما كان ذلك ممكنًا، وتدوين رأي الطبيب حول مدى ارتباط الآثار التي تمّت معاينتها على جسد الضحيّة باحتمال حصول التعذيب، مع توصية بالعلاجات المطلوبة أو الحاجة إلى كشف طبِّي إضافي[16]. وأفاد المحامون بأنّه لا يتمّ في بعض الحالات (كحالات الموقوفين لدى مخابرات الجيش) تنظيم تقرير طبّي مستقلّ، بل يكتفي المحقّق بتدوين ملاحظة على المحضر تفيد بعرض الموقوف على طبيب السجن الذي وجد أنّه صالح لدخول السجن.

ولدى مراجعة التقارير التي وضعها طبيبا سجن المحكمة العسكرية والشرطة العسكرية والطبيب الشرعي في قضيّتَي الحدّاد وعيتاني، نلحظ أنّها هي الأخرى أخلّت بمبادئ “بروتوكول إسطنبول”. فقد خلَت من تضمين أقوال الحدّاد وعيتاني بشكل مفصّل، في حين اكتفى تقرير الطبيب الشرعي الذي عاين الحدّاد بتدوين عبارة “بسؤالي للمدعوّ أعلاه إن كان يشكو من عارض، أجاب بأنّه لا يشكو من أيّ عارض”. كما لم تطَل المعاينة الوضع النفسي للموقوفين. أمّا التقرير المنظّم للطبيب الشرعي الذي كشف على جثّة السعود، فقد جاء مفصَّلًا ودقيقًا، إلّا أنّه تمّ إغفال إرفاقه بالصور الفوتوغرافية للجثّة.

ولجهة مدى ضمان سرِّية المعاينة الطبِّية، أفاد وكيل الحدّاد بأنّ أحد العناصر العسكرية كان متواجدًا في الغرفة خلال إجراء الطبيب المعاينة، وهو ما يُعَدّ مخالفة لـمبادئ “بروتوكول إسطنبول”، التي توصي بإجراء المعاينة على انفراد ومن دون حضور عناصر الأمن أو غيرهم من الموظَّفين الرسميّين[17]. ويذكر أيضًا أنّ تقرير الطبيب الشرعي الذي كشف على جثّة السعود أشار إلى أنّ هذه المعاينة جرَت في المستشفى “بحضور عناصر من أمن الدولة”، أي من الجهاز المشتبه فيه بتعذيبه والتسبُّب في موته.

ويشير المحامون إلى أنّ القضاء العسكري لا يقوم تلقائيًّا بتبليغ التقارير الطبِّية للضحيّة المحتملة أو لوكيلها خلافًا لمبادئ “بروتوكول إسطنبول”[18]، كما أنّ الأطبّاء يرفضون منح الوكيل نسخة من التقارير إلّا بإذن قضائي. وفي حين تبلّغ والد السعود نسخة من التقرير الطبّي بعد نحو أسبوعَين على وفاة ابنه، بناءً على قرار من قاضية التحقيق العسكري، لم يتمّ تبليغ عيتاني أو الحدّاد أو وكلائهم بنتيجة المعاينة الطبّية، ولم يتمّ منحهم نسخة من التقارير الطبِّية.

  • التعرُّف إلى الشهود والمحافظة على الأدلّة الأخرى

في قضيّة السعود، استمع كلّ من مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية (فادي عقيقي) وقاضية التحقيق العسكري (نجاة أبو شقرا) إلى الشهود، من أمنيين وموقوفين في مركز أمن الدولة في تبنين، ممّا سمح بتوثيق إفاداتهم والتعرّف إلى ضحايا آخرين. وانتقل مفوّض الحكومة شخصيًّا في 2/09/2022، أي بعد يومَين من الوفاة، إلى المستشفى للكشف على جثّة السعود، وإلى مركز الاحتجاز في تبنين حيث قابل الموقوفين الآخرين الذين أدلوا بتعرّضهم للتعذيب، وضبط أدلّة تتعلّق بالقضيّة، مثل محضر التحقيق مع السعود الذي تبيّن أنّه خالٍ من أيّ ترويسة وشريط شاحن يُعتقد أنّه استُخدم في تعذيبه.

أمّا في القضايا الأخرى، فلم يتبيّن اتّخاذ النيابة العامة العسكرية أيّ إجراء يهدف إلى التعرّف إلى الشهود (كتحديد أسماء العناصر الأمنية والموقوفين الآخرين المتواجدين في مراكز التوقيف في وقت التعذيب المشكوّ منه)، أو ضبط أدلّة إضافية أو المحافظة عليها (كمحاضر التحقيق مع جابر وشعيب).

زدْ على ذلك امتناع القضاء العسكري عن تسليم القضاء العدلي أدلّة أساسية في قضية عيتاني؛ فقد رفضت محكمة التمييز العسكرية في تمّوز 2019 تسليم نسخة من ملفّ الدعوى الذي بحوزتها إلى المحامي العام الاستئنافي في بيروت (زاهر حمادة) الذي تولّى التحقيق في شكوى عيتاني[19]، ممّا حرم هذا الأخير من الحصول على مستندات ضرورية لقضيّته. ويتناقض ذلك مع مبادئ “بروتوكول إسطنبول” التي توصي بأن يكون للجهة التي تتولّى التحقيق في جرائم التعذيب سلطة وواجب الحصول على كلّ المعلومات الضرورية للتحقيق[20].

لتحميل الدراسة بصيغة PDF


[1] مفوّضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، بروتوكول إسطنبول: دليل التقصي والتوثيق الفعالين للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، سلسلة التدريب المهني، رقم 8/التنقيح 1، 2004. ترد مبادئ “بروتوكول إسطنبول” في مرفق قرار الجمعية العامة للأمم المتّحدة رقم 55/89 (4 كانون الأوّل 2000)، وفي قرار اللجنة المعنيّة بحقوق الإنسان رقم 43/2000 (20 نيسان 2000). وقد اعتمد القراران من دون تصويت.

[2] Blanco Abad v Spain, CAT Communication No. 59/1996, 14 May 1998, § 8.2

[3] Parot v Spain, CAT Communication No. 6/1990, 2 May 1995, §10.4.  Ltaief v Tunisia, CAT Communication No. 189/2001, 14 November 2003, §10.6. Blanco Abad v Spain, CAT Communication No. 59/1996, 14 May 1998, §8.8.

[4] Blanco Abad v Spain, CAT Communication No. 59/1996, 14 May 1998, § 8.2.

[5] بشير مصطفى، تمرّد في ثكنة فخر الدين: سجناء بلا طعام وبلا محاكمة، المفكّرة القانونية، 25/8/2021.

[6] جويل بطرس، نزار صاغية، قضية عيتاني، رسم كاريكاتوري للنظام اللبنانيّ: هكذا رقصنا على مذبح المحاكمة العادلة، المفكّرة القانونية، 5/05/2019.

[7] المفكّرة القانونية، عيتاني يصل أخيرًا إلى باب العدالة: ادعاء ضد العسكر أمام القضاء العدلي، المفكّرة القانونية، 4/07/2019.

[8] الحكم رقم 5/2021 الصادر عن محكمة التمييز العسكرية في تاريخ 13/04/2021 (رقم الأساس 77/2019). لور أيّوب، أين الجلّاد في قضية زياد عيتاني؟ محكمة التمييز العسكرية لا تراه، المفكّرة القانونية، 16/04/2021.

[9] المادّة 47 من المرسوم رقم 14310 الصادر في 11/02/1949، تنظيم السجون وأمكنة التوقيف ومعهد إصلاح الأحداث وتربيتهم.

[10]  https://www.ohchr.org/sites/default/files/Documents/Publications/training8Rev1ar.pdf  الفقرتان 20 و79.

E/CN.4/1996/35  paragraph 926 (g)

[11] ماهر الخشن، ادّعاءات بالتعذيب والصّعق بالكهرباء لدى مخابرات صيدا وطرابلس، نُشر في العدد رقم 66 من مجلّة المفكّرة القانونية – لبنان، تشرين الأوّل 2020.

[12]  https://www.ohchr.org/sites/default/files/Documents/Publications/training8Rev1ar.pdf الفقرات 88 إلى 100.

[13] نزار صاغية، بقع التعذيب التي لا تراها النيابات العامّة: شكاوى الثوّار في عهدة المشكو منهم، نُشر في العدد 66 من مجلّة المفكّرة القانونية – لبنان، تشرين الأوّل 2020. لور أيّوب، المتظاهرون في وجه النيابة العامّة العسكرية: ادّعاءات سياسة لقمع المعارضة،المفكّرة القانونية، 22/04/2021. لور أيّوب، أسبوع محاكمة 30 متظاهرًا أمام المحكمة العسكرية: البراءة لأوّل أربعة،المفكّرة القانونية، 15/04/2021. لور أيّوب، تهم من دون أدلّة تلاحق متظاهري الانتفاضة: المحكمة العسكريّة تعلن براءةالجوكر”، المفكّرة القانونية، 16/11/2020. لور أيّوب، النيابة العامّة العسكريّة تدّعي على المتظاهرين من دون قراءة ملفّاتها“.. البراءة مجدّدًا لناشطي 17 تشرين، المفكّرة القانونية، 2/11/2020. لور أيّوب، دعاوىمعاملة قوى الأمن بالشدّةضد متظاهرين أمام المحكمة العسكريّة: هدر للمال العام، المفكّرة القانونية، 27/10/2020.

[14] إلهام برجس، التعذيب، الإرهاب والمحكمة العسكرية في لبنان، نُشر في عدد خاص من مجلّة المفكّرة القانونية -لبنان حول المحاكم العسكرية في دول المنطقة العربية، كانون الثاني 2018.

[15] جويل بطرس، نزار صاغية، قضية عيتاني، رسم كاريكاتوري للنظام اللبنانيّ: هكذا رقصنا على مذبح المحاكمة العادلة، المفكّرة القانونية، 5/05/2019. إفادة عيتاني أمام المحامي العام للاستئناف في بيروت (زاهر حمادة) في تاريخ 4/07/2019. تقرير الطبيب العسكري (جميل مراد) في تاريخ 1/12/2017.

[16]  https://www.ohchr.org/sites/default/files/Documents/Publications/training8Rev1ar.pdf الفقرة 83.

[17]  https://www.ohchr.org/sites/default/files/Documents/Publications/training8Rev1ar.pdf الفقرة 83.

[18]  https://www.ohchr.org/sites/default/files/Documents/Publications/training8Rev1ar.pdf الفقرة 84.

[19] مذكّرة عدد 757 /م ت ع / ص تاريخ 25/7/2019، صادرة عن محكمة التمييز العسكرية وموجّهة إلى النيابة العامة الاستئنافية في بيروت في الملفّ رقم 8595/2019.

[20]  https://www.ohchr.org/sites/default/files/Documents/Publications/training8Rev1ar.pdf الفقرة 80.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، محاكم عسكرية ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني