تضمن اتّفاقية مناهضة التعذيب حقّ ضحايا التعذيب في أن تنظر السلطات المختصّة في شكواهم على وجه السرعة والنزاهة (المادّتان 12 و13). وقد ترجم المشرّع اللبناني هذا الالتزام في المادّة 24 مكرّر من قانون أصول المحاكمات الجزائية المضافة بموجب القانون 65/2017، والتي تنصّ على أصول الاستقصاء والتحقيق في قضايا التعذيب. بالإضافة إلى ذلك، يشكّل “دليل التقصّي والتوثيق الفعّالَين للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة” أو ما يعرف بـ”بروتوكول إسطنبول” الوثيقة الرسمية الأولى الصادرة عن الأمم المتّحدة التي تضع المبادئ التوجيهية الدولية المتعلّقة بتوثيق التعذيب. وتُعَدّ هذه المبادئ اليوم المعايير الأدنى التي يجب الاستناد إليها لضمان التحقيق الفعّال في قضايا التعذيب. فهل يلتزم القضاء العسكري بأصول المادّة 24 مكرّر وبمعايير “بروتوكول إسطنبول” في تعامله مع قضايا التعذيب؟
انطلاقًا من مراجعة عيّنة الشكاوى التي تشملها هذه الدراسة، نبحث في مدى التزام القضاء العسكري بضمان موجب التحقيق السريع في شكاوى التعذيب (1) وحظر الاستعانة بالأجهزة الأمنية خلال التحقيق فيها (2)، وكذلك ضمان موجبات البحث عن الأدلّة والحفاظ عليها (3) وحماية الضحايا (4) وإبطال الأقوال المدلى بها تحت التعذيب (5)، وصولًا إلى البحث في مصير الشكاوى المشمولة في العيّنة (6). وتجدر الإشارة إلى أنّنا سبق أن بحثنا في الورقة البحثية السابقة في مسألة تغييب القضاء العسكري لضحايا الجرائم الخاضعة لصلاحيّته، وذلك من خلال منعهم من الادّعاء الشخصي والمشاركة في إجراءات التحقيق والمحاكمة أمامه، ممّا يُعيق تمكّنهم من التأثير في مسار المحاكمات ونتيجتها التي تؤثّر بدورها على حقوقهم. كما تقضي الممارسة الحالية بمنع الضحايا من الوصول إلى المستندات القضائية المتعلّقة بقضيّتهم، ممّا يعيق حقّهم في الإنصاف القانوني.
2.4 مخالفة موجب حماية ضحايا التعذيب
تنصّ المادّة 13 من اتّفاقية مناهضة التعذيب على موجب الدولة “اتّخاذ الخطوات اللازمة لضمان حماية مقدّم الشكوى والشهود من كافّة أنواع المعاملة السيّئة أو التخويف نتيجةً لشكواه أو لأيّ أدلّة تُقدَّم”. وتسمح المادّة 24 مكرّر من أصول المحاكمات الجزائية “لأيّ من النيابة العامة أو قضاء التحقيق أو المحاكم، وعلى وجه السرعة، اتّخاذ التدابير والقرارات الآيلة إلى ضمان حماية مقدّم الشكوى والشهود من جميع أنواع المعاملات السيّئة أو التهويل نتيجة الشكاوى والإخبارات التي تردهم”. إلّا أنّ السلطات القضائية لم تتّخذ أيّ إجراءات لحماية ضحايا التعذيب المحتملين في القضايا المشمولة في العيّنة، بالرغم من ضرورتها، لا بل مارست التخويف على وكلاء الضحايا في بعض الحالات، أو امتنعت عن التصدّي لممارسات الأجهزة الأمنية التخويفية.
- إبقاء الضحايا في مكان حصول التعذيب
في قضيّة الحدّاد والسعود، لم تتّخذ النيابة العامة العسكرية أيّ إجراء لحماية المحتجَزين تبعًا لورود معلومات حول حصول أعمال التعذيب. وفي حين تثير الشكوك حول صحّة إنكار الحدّاد تعرّضه للتعذيب تبعًا للاستماع إلى إفادته في مركز الاحتجاز الذي يُشتبه بأنّه تعرّض للتعذيب فيه ومن قبل الجهاز المشتبه فيه، برزت خطورة هذا الأمر بشكل واضح في قضيّة السعود، بحيث لم يبادر مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية إلى نقل الموقوفين الآخرين إلى مركز احتجاز آخر، بالرغم من معاينته آثارَ التعذيب عليهم بنفسه وتكليفه طبيبًا شرعيًّا للكشف عليهم. ولم يتمّ نقل الموقوفين إلى مركز آخر إلّا في تاريخ 4/11/2022، أي بعد شهرَين من مقتل السعود وثبوت تعرّضهم للتعذيب، وذلك بناءً على طلب قاضية التحقيق العسكري (نجاة أبو شقرا). وقد انعكس ذلك على جودة التحقيقات، إذ طلب جميع الموقوفين في محضر قاضية التحقيق إعفاءهم من التعرّف إلى هويّة العناصر الذين تعرّضوا لهم بالتعذيب، معلّلين ذلك بأنّهم يخشون من التعرّض لهم أو لعائلاتهم، ولا يريدون مزيدًا من المشكلات مع أمن الدولة، وبخاصّة أنّهم ما يزالون موقوفين في النظارة نفسها. وقد عكس إجماع هؤلاء على هذا الموقف أجواء الرعب التي كانوا يعيشون في ظلّها، وهو الأمر الذي دفع بقاضية التحقيق، في تاريخ 26/10/2022، إلى تقديم طلب إلى النيابة العامة العسكرية بضرورة نقلهم إلى أيّ سجن آخر على ضوء ما ورد في إفادتهم. وتبيّن أنّه، بناء على كتاب صادر عن النيابة العامة العسكرية إلى المديرية العامة لأمن الدولة، تمّ نقل هؤلاء الموقوفين إلى المركز الرئيسي للمديرية في بيروت، أي إنّهم بقوا قيد الاحتجاز لدى الجهاز نفسه.
وفي قضيّة عيتاني، صرّح مفوّض الحكومة (بيتر جرمانوس)، خلال مرافعته أمام المحكمة العسكرية ضدّ المتّهمين بالإفتراء على عيتاني، أنّه قابل عيتاني خلال احتجازه لدى أمن الدولة، و”كان بحالة مضطربة”، وأكّد قائلًا “لم أترك زياد في التوقيف لدى أمن الدولة أكثر من 4 أيّام، وأحلتُه إلى قاضي التحقيق، وتمّ تعيين طبيب شرعي له. وهناك أنكر إفاداته كلّها”[1]. إلّا أنّ عيتاني يؤكّد أنّه قابل مفوّض الحكومة في مكتب الضابط المشرف على التحقيق معه، وأنّ القاضي لم يعرّفه بنفسه ولم يُعلِم عيتاني من يكون، وأنّ الضابط كان يمسك بكتفه طوال وقت المقابلة من دون أن يطلب القاضي منه تركه. ويفيد عيتاني بأنّه، نظرًا إلى هذه الظروف، قدّم للقاضي رواية مختلفة عن تلك التي أعطاها للمحقّقين، من دون أن يتمكّن من إعلامه بتعرّضه للتعذيب.[2]
- تضييق على محاميّي ضحايا التعذيب
يفيد بعض المحامين الذين تمّت مقابلتهم في إطار الإعداد لهذه الدراسة، بأنّهم عندما يصرّون على متابعة شكاوى التعذيب أو على مطالبة القضاء العسكري باتّخاذ إجراءات تتعلّق بحماية موكّليهم من ضحايا التعذيب، يعمد بعض القضاة أو الموظّفين إلى اتّخاذ موقف منهم، بحيث تتبدّل المعاملة معهم لتصبح أكثر جفاءً وأقلّ تعاونًا، ممّا يثير قلقهم حول مدى انعكاس هذا الأمر على مصالح موكّليهم الآخرين[3]. وبالفعل، وثّقت “المفكّرة” التضييق الذي يمارسه القضاء العسكري بحقّ محامين تولّوا الدفاع عن ضحايا التعذيب.
ففي قضيّة الحدّاد، بنى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية (فادي عقيقي) على المخالفات القانونية التي ارتكبها خلال التحقيق في شكوى التعذيب، والتي أدّت إلى نفي الأدلّة حول حصوله، وطلب من نقابة المحامين في طرابلس، في 4/10/2021، إذنًا لملاحقة الوكيل (محمد صبلوح) بجرم الافتراء (المادّة 403 من قانون العقوبات)[4]. إلّا أنّ مجلس نقابة المحامين في طرابلس واجه هذا الإجراء التخويفي من خلال رفضه منح الإذن بملاحقة الوكيل في 27/10/2021. وقد استند قراره إلى أنّ “طلب الإذن هنا يعتبر مخالفة للقانون 65/2017 والمادّة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، ولمبدأ عدم مساءلة المحامي الوكيل مضمون الشكوى التي تقدّم بها عن موكّله، وكون الفعل المنسوب إليه ناشئ عن صميم ممارسة المهنة”[5]. ولفت مجلس النقابة إلى أنّ “المسألة تكمن في محاولة للتملُّص من تطبيق القانون 65/2017″، ممّا شكّل إدانة واضحة لممارسات النيابة العامة العسكرية المخالِفة لموجباتها القانونية في ملاحقة جرائم التعذيب. وقد وضعت المقرّرة الخاصة المعنيّة بحالة المدافعين عن حقوق الإنسان (ماري لولور)[6]، كما وعدد من المنظّمات الحقوقية[7]، هذا الإجراء من قبل مفوّض الحكومة، في إطار التضييق على المحامين الذين يمثّلون ضحايا التعذيب والمدافعين عن حقوق الإنسان.
وفي العام 2017، وثّقت “المفكّرة” قيام مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية (صقر صقر) بإعطاء أمر لمخابرات الجيش بانتزاع عيّنات من جثث ثلاثة سوريين قضوا خلال احتجازهم لدى الجيش من يد وكيلة ورثتهم (ديالا شحادة) خلال تنفيذها قرارًا قضائيًّا صادرًا عن القضاء العدلي. وقد جرت عمليّة انتزاع العيّنات بعد أن حاصرها عناصر مسلّحون من مخابرات الجيش في إحدى المستشفيات. وفيما لم تتّخذ نقابة المحامين في بيروت أيّ خطوة لاستنكار منع محامية من تنفيذ قرار قضائي في هذه الظروف، استدعاها نقيب المحامين للتحقيق معها حول ظهورها الإعلامي للتصريح عن الحادثة، وانتهى بإصدار قرار بمنعها من التواصل مع الإعلام[8].
- التضييق على الضحايا على خلفيّة نشر معلومات حول التعذيب
واجه عيتاني العديد من المضايقات على خلفيّة كشفه عن التعذيب الذي تعرّض له ونشره معلومات حوله. ومن أبرزها الشكوى التي قدّمها ضدّه مدير عام أمن الدولة وأحد العناصر الذين تولّوا التحقيق معه والذين شملهم عيتاني في شكواه بجرائم النيل من هيبة الدولة ومن الشعور القومي والوطني، والقدح والذم، والتحقير، واختلاق الجرائم، وشهادة الزور، والتهديد، والتي لا تزال قيد التحقيق أمام قاضي التحقيق في بيروت.
أمّا جابر، فقد تمّ استدعاؤه إلى مركز مخابرات الجيش في البقاع (أبلح) للتحقيق معه في تاريخ 3/03/2020 على خلفيّة نشره معلومات حول التعذيب الذي تعرّض له على يد جهاز المخابرات، وذلك بعد أن قرّرت النيابة العامة العسكرية حفظ الشكوى التي تقدّم بها. وبعد أن راجع محاموه النيابة العامة العسكرية، رفض أحد المعاونين التواصل مع المخابرات لوقف هذا الاستدعاء. وعليه، رفض جابر تلبية الاستدعاء وذهب بنفسه إلى النيابة العامة التمييزية برفقة محاميه من “لجنة الدفاع عن المتظاهرين”، حيث تقدّم بطلب للتوسُّع في التحقيق في شكوى التعذيب الّتي قدّمها وإحالتها إلى القضاء العدلي، نظرًا إلى تقاعس النيابة العامة العسكرية عن التحقيق فيها. كذلك طلب عدم المثول للتحقيق أمام مخابرات الجيش كونه تعرّض للتعذيب على يد هذا الجهاز، واضعًا نفسه بتصرّف النيابة العامة التمييزية للتحقيق معه بأيّ شبهة منسوبة إليه. وقد أحالت النيابة العامة التمييزية طلبه مجدّدًا إلى النيابة العامة العسكرية من دون اتّخاذ أيّ إجراء إضافي أو أي إجراء لحمايته[9].
- عدم محاسبة مخالفة سرِّية التحقيقات والمسّ بقرينة البراءة
برزت ممارسة مخالِفة للقانون مفادها الإفشاء عن معلومات تتعلّق بمضمون التحقيقات الأوّلية التي قامت بها مديرية أمن الدولة في قضيّتَي عيتاني والسعود، ونشر الاعترافات التي أدليا بها تحت التعذيب. وفيما شكّلت هذه الأفعال جرم إفشاء سرِّية التحقيق (المادّة 53 من قانون أصول المحاكمات الجزائية) وانتهاكًا لقرينة البراءة وللخصوصية، بقيت جميعها من دون أيّ محاسبة.
فمنذ لحظة توقيف عيتاني، وطيلة فترة التحقيقات الأوّلية التي أجرتها مديرية أمن الدولة معه في تشرين الأوّل 2017، تمّ تسريب أخبار بشأن التحقيق معه لوسائل إعلام، ممّا شكّل انتهاكًا لسرِّية التحقيقات ولقرينة البراءة، واتّخذ طابع المحاكمة الشعبية له؛ علمًا أنّ عيتاني أفاد بأنّه تمّ إدخال صحافيين إلى غرفة التحقيق معه[10]. ففي 24/11/2017، صدر البيان الأوّل للمديرية العامة لأمن الدولة حول القضيّة، حاسمًا فيه ذنب عيتاني. وصف البيان عمليّة توقيف عيتاني بـ”الإنجاز”، وأنّ المديرية استطاعت “تثبيت الجرم فعليًّا على المشتبه به زياد عيتاني”، وأشار البيان إلى أنّ عيتاني كان يعمل “على تأسيس نواة لبنانية تمهّد لتمرير مبدأ التطبيع مع إسرائيل، والترويج للفكر الصهيوني بين المثقَّفين”[11]. وحينها، انطلقت التلفزيونات اللبنانية في سباق لنشر تفاصيل التحقيق مع عيتاني[12]، وصولًا إلى قراءة أحد الصحافيين مباشرة على الهواء، ولنحو 20 دقيقة، محاضر التحقيق معه، في وقت كان لا يزال التحقيق مستمرًّا[13]. وتبعًا لتفاعل الرأي العام بشكل واسع مع المعلومات الهائلة التي كانت ترده، اضطرّت مديرية أمن الدولة إلى إصدار بيان توضيحي ثانٍ في 28/11/2017، بخاصّة أنّ عيتاني كان قد عدل عن كلّ ما أدلى به في إفادته الأولى. كشف البيان الثاني أنّ الجهاز داهم منزل عيتاني و”ضبط في غرفة نومه كمِّيّة من المخدّرات، بالإضافة إلى أربعة حواسيب إلكترونية، وخمسة أجهزة خلوية، تبيّن في التحقيقات أنّه يخزّن فيها الداتا السرِّية”. وتمنّى البيان في الختام على وسائل الإعلام أن تحصل على معلوماتها “مباشرةً من قسم الإعلام والتوجيه في المديرية العامة، حفاظًا على الدقّة والصدقية، وحرصًا على عدم استباق نتائج التحقيقات وعلى سمعة جميع الذين وردت أسماؤهم في التحقيق”[14]. إلّا أنّ النيابة العامة العسكرية لم تدّعِ على أيّ من عناصر أمن الدولة بجرم انتهاك سرِّية التحقيقات، كما لم يحقّق المحامي العام الاستئنافي في بيروت (زاهر حمادة) في هذا الجرم، ولم يُوجّه لعناصر أمن الدولة الذين قام باستجوابهم أيّ سؤال حول مسؤوليّتهم في ارتكاب هذا الجرم، وذلك بالرغم من شموله في شكوى التعذيب التي تقدّم بها عيتاني، وبالرغم من طلب عيتاني صراحةً التوسُّع في التحقيق حول هذا الأمر[15].
وفي آب 2020، تمّ تسريب فيلم مصوَّر لتحقيقات جرَت مع عيتاني خلال فترة احتجازه لدى المديرية العامة لأمن الدولة، يظهر فيها وهو يدلي باعترافات حول تهمة العمالة، فيما يخلو المقطع القصير من ضربٍ أو تعذيب. وبدا أنّ نشر الفيديو جاء بهدف الإيحاء بأنّ عيتاني لقي معاملة حسنة ودحض ادّعاءاته بحصول تعذيب وسوء معاملة. ولكن على العكس من ذلك، يُظهر التدقيق في تفاصيل الفيديو وجود توتُّر واضح، حيث يضع المحقّق قبضته على كتف عيتاني ويأمره بإعطاء المعلومات من دون خوف. وقد تمّ نشر الفيديو مع اختتامه بعبارة “يتبع…”، فيما بدا كمحاولة لثني عيتاني عن المثابرة في المطالبة بحقّه في الإنصاف وبمحاسبة المعتدين عليه. وكان رئيس المحكمة العسكرية (العميد حسين العبدالله) قد رفض عرض هذا الفيديو خلال محاكمة المتَّهمين بالافتراء بحقّ عيتاني، إذ اعتبر أنّه سُجِّل تحت الضغط ويخالف الواقع. وقد شكّل نشر الفيديو مجموعة من الجرائم، كتسريب معلومات سرِّية والتعدّي على الحقوق المدنية والتهويل واستغلال السلطة، إلّا أنّه لم يتبيّن أنّ النيابات العامة قامت بالتحقيق في هذه الأفعال. وتقدّم عيتاني بشكوى جديدة للنيابة العامة بتشويه السمعة وتعريض حياته للخطر، وأُحيلت الشكوى إلى مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية للتحقيق في التسريب، من دون أي يصدر أيّ قرار بشأنها لغاية اليوم.[16]
تكرّرت هذه المخالفات التي بقيت من دون محاسبة في قضيّة السعود، حيث أصدرت المديرية العامة لأمن الدولة في 2/09/2022، أي بعد يومَين من وفاته، بيانًا أوّليًّا ردًّا على المقالة الصحافية التي نشرت خبر وفاته. لم تتطرّق المديرية في بيانها إلى حادثة الوفاة أو أسبابها أو ظروفها، بل اكتفت بتوضيح أسباب توقيف السعود ومضمون اعترافاته بانتمائه إلى تنظيم داعش، حيث جاء فيه “أنّه بنتيجة التحقيقات التي أجرتها مع أفراد الخليّة (تابعة لتنظيم داعش)، اعترفوا بمعلوماتٍ أدّت إلى توقيف شريكٍ لهم. وفي أثناء التحقيق معه، اعترف بأنّه ينتمي إلى تنظيم داعش الإرهابي، وأنّه كان من عِداد مقاتليه، ويدين بالولاء لهم”[17]. وتبعًا لتفاعل الرأي العام مع القضيّة، أصدرت المديرية بيانًا ثانيًا بعد ثلاثة أيّام، أكّدت فيه مجدّدًا أنّ السعود “كان قد اعترف اعترافًا موثّقًا بانتمائه إلى تنظيم داعش الإرهابي”[18]. ولم تعلن النيابة العامة العسكرية عن اتّخاذها أيّ إجراء بحقّ المديرية تبعًا لنشرها اعترافات السعود بعد وفاته خلافًا لمبدأ سرِّية التحقيقات واحترام قرينة البراءة والسمعة.
- مكافأة المشتبه فيهم بارتكاب التعذيب
في المقابل، برز توجُّه لدى السلطات الإدارية لمكافأة العناصر الأمنية المشتبه فيهم بارتكاب التعذيب. ففي العام 2020، أصدر مجلس الوزراء مرسومًا بترقية الضابط في أمن الدولة الذي أشرف على التحقيق مع عيتاني قبل إنهاء التحقيقات في شكوى التعذيب المقدَّمة ضدّه، وهو ما حمل عيتاني على الطعن بهذا المرسوم أمام مجلس شورى الدولة[19]. كذلك تداولت وسائل الإعلام خبر مكافأة النقيب المسؤول عن مركز أمن الدولة في تبنين، والمتّهم بتعذيب السعود بموجب قرار اتّهامي، من خلال تعيينه في مركز رئيس مكتب أمن الدولة في النبطيّة. ولم يتراجع جهاز أمن الدولة عن هذه الترقية ويعيد وضع النقيب في ديوان المدير العام إلّا بعد نشر فضيحة فرار أحد الموقوفين من مركز أمن الدولة في بيروت في نيسان 2023[20]. وقد تشكّل أيّ ترقية بحقّ عناصر رهن التحقيق أو مدّعى عليهم بجرم التعذيب تحويرًا للسلطة، وتُعَدّ بمثابة إشارة سلبية للأمنيين بقدرتهم على انتهاك القوانين من دون أيّ عقاب، كما أنّها تشكّل انتهاكًا لحقوق الضحايا باحترام مشاعرهم وردّ اعتبارهم.
2.5 مخالفة موجب إبطال الأقوال المدلى بها تحت التعذيب
تفرض المادّة 15 من اتّفاقية مناهضة التعذيب على الدول “عدم الاستشهاد بأيّة أقوال يثبت أنّه تمّ الإدلاء بها نتيجةً للتعذيب كدليل في أيّة إجراءات، إلّا إذا كان ذلك ضدّ شخص متّهَم بارتكاب التعذيب كدليل على الإدلاء بهذه الأقوال”. وقد ترجم قانون معاقبة التعذيب هذا الالتزام من خلال إضافة فقرة أخيرة إلى المادّة 10 من أصول المحاكمات الجزائية تفرض على السلطات القضائية أن “تبطل جميع الأقوال التي تمّ الإدلاء بها نتيجة أيّ فعل من الأفعال المنصوص عليها في المادّة 401 في أيّة إجراءات، إلّا إذا كان ذلك ضدّ شخص متّهَم بارتكاب التعذيب كدليل على الإدلاء بهذه الأقوال”. كذلك تجيز المادّة 47 من أصول المحاكمات الجزائية إبطال الإفادات التي يتمّ إكراه المشتبه فيهم على الإدلاء بها. وبعد تعديلها بموجب القانون رقم 191/2020، أصبح امتناع الضابطة العدلية عن تلاوة حقوق المشتبه فيه وعن إرفاق تسجيل الاستجوابات بالمحضر سببًا إضافيًّا لبطلان محضر التحقيقات الأوّلية.[21]
يفيد المحامون الذين تمّت مقابلتهم في إطار الإعداد لهذه الدراسة، بأنّ القضاء العسكري (وبخاصّة قضاء التحقيق والمحاكمة)، غالبًا ما يستند إلى الإفادات الأوّلية التي يدلي المدّعى عليهم بها تحت التعذيب، ونادرًا ما يقرّر إبطالها، إذ غالبًا ما يتمّ التعامل مع إدلاءات التعذيب على أنّها مجرَّد مزاعم غير مُثبَتة، بخاصّة في حال غياب التقرير الطبّي الذي يثبت التعرّض للعنف. ويفيد بعض المحامين بأنّ المحاكم العسكرية تقارب الإفادة الأوّلية كالدليل الأساسي في القضيّة، وترفض إبطالها حتّى ولو تقدّم المدّعى عليه بأدلّة تشير إلى عدم الإدلاء بها بإرادة حرّة. ويوضح بعض المحامين أنّهم يتجنّبون طلب إبطال الإفادات الأوّلية من المحكمة في الحالات التي يكون صدر فيها قرار اتّهامي بحقّ المدّعى عليهم، نظرًا إلى اجتهاد محكمة التمييز بأنّ القرار الاتّهامي يُلغي عيوب التحقيق[22]. إلّا أنّهم غالبًا ما يستخدمون وسائل دفاع أخرى تهدف إلى الإضاءة على الأخطاء الواردة في الإفادة وإلى إبراز أدلّة تثير الشكوك حول صحّتها، لحثّ المحكمة على عدم الاستناد إليها.
يؤكّد رئيس المحكمة العسكرية أنّ معظم المتّهمين يدلون بأنّ اعترافاتهم قد انتُزعت تحت التعذيب، وأنّه بالرغم من أنّ المحكمة لا تقرّر إبطال الإفادات الأوّلية، إلّا أنّها لا تستند إليها في حال وجود شكوك بشأن صحّتها، فتستند في هذه الحالات إلى أدلّة أخرى من أجل تكوين قناعتها حول ذنب المتّهم أو براءته. ويُجمع المحامون ورئيس المحكمة العسكرية على أهمِّية اعتماد تسجيل الاستجوابات بالصوت والصورة من أجل ضمان عدم استناد السلطات القضائية إلى أقوال تمّ الإدلاء بها تحت التعذيب، وهو موجب فرضه تعديل المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية في العام 2020 إلّا أنّه لم يُطبّق لغاية اليوم[23].
بمراجعة القضايا المشمولة في العيّنة، يظهر أنّ القضاء العسكري اعتمد توجّهات مختلفة. ففي قضيّة جابر، وبالرغم من إعلان المحكمة براءَته في تشرين الأوّل 2020، إلّا أنّها لم تبتّ بطلبه إبطال إفادته الأوّلية بالرغم من إبرازه تقرير الطبيب الشرعي الذي عاينه فور إطلاق سراحه وأثبت تعرّضه للعنف، وبالرغم من أنّ إحالته أمام المحكمة العسكرية لم تأتِ بموجب قرار ظنّي بل بموجب ادّعاء مباشر من النيابة العامة العسكرية. كما رفضت المحكمة طلب وكلاء جابر بعدم إحالة محضر توقيفه إلى النيابة العامة العسكرية للنظر في الجرائم التي لا تدخل ضمن صلاحية القضاء العسكرية (تحقير رئيس الجمهورية)، كونه يستند إلى أقوال انتُزعت تحت التعذيب[24]. أمّا في قضيّة عيتاني، فقد أبطل قاضي التحقيق العسكري (رياض أبو غيدا)، في أيّار 2018، إفادته الأوّلية، لا استنادًا إلى إدلائه بها تحت التعذيب، بل لأنّ “اعترافات المدّعى عليه زياد عيتاني لجريمة لم تُرتكَبْ أصلًا، تكون اعترافات باطلة بطلانًا مطلقًا ويقتضي إهمالها”.
لكنّ قاضية التحقيق العسكري (نجاة أبو شقرا) اتّخذت توّجهًا مختلفًا في قضيّة السعود، إذ أصدرت قرارًا في 14/12/2022 بإبطال الإفادات الأوّلية لاثنين من الموقوفين الذين تمّ التحقيق معهم في الملفّ نفسه، وكانت قد تثبّتَت من تعرّضهما للتعذيب في إطار تحقيقها في مقتل السعود، فمنعت المحاكمة عنهما بجرائم تتعلّق بالإرهاب، وذلك خلافًا لمطالعة معاونة مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية (مايا كنعان). إلّا أنّ النيابة العامّة العسكرية تقدّمت بطعن تمييزي ضدّ القرار “لمخالفته الواقع الجرمي الثابت والنصوص القانونية، وذلك لتغاضيه عن فداحة الجرم وماهيّته ومداه، وما يخلّفه من هلع ورعب في نفوس المواطنين وما يجرّه على أوضاع لبنان الأمنية، ولا سيّما أنّ المدّعى عليهما اعترفا، في التحقيقات الأوّلية، بانتمائهما إلى مجموعات إرهابية…”، متجاهلةً بذلك ثبوت واقعة التعذيب وموجب إبطال الإفادات المنتزَعة تحت التعذيب. وعادت محكمة التمييز الجزائية إلى تصحيح المسار حيث قرّرت في 23/03/2023 التوسُّع في التحقيق، بعد قبولها التمييز شكلًا، واستجوبَت المدّعى عليهما الموقوفَين والطبيب الشرعي الذي كشف عليهما، وصولًا إلى إصدار قرار في 1/06/2023 برفض طلب التمييز وتصديق قرار قاضية التحقيق العسكري، نظرًا إلى عدم وجود دليل على ارتكاب المدّعى عليهما الجرائم المدّعى بها، وعدم إمكانية الاستناد إلى إفادتهما الأوّلية “عملًا بأحكام القانون 2017/65 طالما ثبت أنّها صدرت عن المميّز ضدّهما نتيجة التعذيب”[25]. ويشكّل هذا القرار أوّل قرار صادر عن محكمة التمييز يتمّ رصده ويقضي بإبطال إفادة أوّلية تمّ الإدلاء بها تحت التعذيب منذ إقرار قانون معاقبة التعذيب، ممّا قد يسهم في تعزيز التزام القضاءَين العدلي والعسكري بهذا الموجب القانوني.
2.6 مصير شكاوى التعذيب وأسبابه
حفظت النيابة العامة العسكرية جميع شكاوى التعذيب المشمولة في العيّنة باستثناء قضيّة السعود، بحيث صدر قرار اتّهامي أحال المتّهَمين بتعذيبه إلى المحاكمة. أمّا شكوى عيتاني، فقد تمّت إحالتها إلى القضاء العادي الذي قام بحفظها أيضًا.
لم يتبلّغ الحدّاد أو وكيله أيّ قرار بشأن شكوى التعذيب التي تقدّم بها، خلافًا لتوصيات لجنة مناهضة التعذيب التي توصي بإبلاغ الضحيّة بنتائج التحقيقات[26]. إلّا أنّه يظهر من المستندات التي أرسلها مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية إلى نقابة المحامين في طرابلس، أنّ المفوّض اعتبر الشكوى غير صحيحة، فطلب الإذن بملاحقة محامي الضحيّة بجرم الافتراء، علمًا أنّ هذا الأمر استند إلى مخالفات قانونية جسيمة ارتكبها مفوّض الحكومة نفسه خلال التحقيقات كما سبق بيانه، ومنها التأخُّر لمدّة تجاوزت الشهر قبل إجراء المعاينة الطبّية، والاستماع إلى إفادة الضحيّة المحتملة من قبل الجهاز المشتبه فيه ممارسة التعذيب ومن دون حضور محاميه؛ وهو ما تثبّتت منه نقابة المحامين في الشمال في إطار رفضها منح الإذن بملاحقة المحامي كما شرحنا سابقًا.
أمّا في ما يتعلّق بشكوى المتظاهرين، ومن ضمنهم جابر وشعيب، فقد برّرت معاونة مفوّض الحكومة (منى حنقير) حفظها في تاريخ 3/02/2020 بأنّ “الأفعال المدّعى بها لا تنطبق على القانون 65/2017″ وبـ”عدم قبول مقدّمي الشكاوى الإدلاء بإفادتهم أمام الضابطة العدلية العسكرية”. وفي حين لم تبرّر أسباب اعتبارها أنّ الأفعال التي تناولتها الشكاوى لا تشكّل تعذيبًا، من المرجّح أن يكون قرار الحفظ هذا قد انبنى على اعتبارَين:
الأوّل، أنّ الأفعال المشكوّ منها حصلت خارج مراحل الاستقصاء والتحقيق الأوّلي والتحقيق القضائي والمحاكمات وتنفيذ العقوبات، وهي المراحل التي اشترط التعريف الوارد لجرم التعذيب في القانون 65/2017 حصول أفعال العنف خلالها. وقد تأتّى هذا الاعتبار على الأرجح من كون العديد من أعمال العنف المدّعى بها حصلت قبل فترة التحقيق، وتحديدًا في سياق القبض على المعتدى عليهم أو في سياق نقلهم واحتجازهم.
الثاني، الأخذ بتعريف التعذيب الوارد في القانون 65/2017 لجهة اشتراطه حصول أفعال العنف في إحدى المراحل المذكورة أعلاه، بالرغم من اختلافه عن تعريف التعذيب الوارد في اتّفاقية الأمم المتّحدة لمناهضة التعذيب، والتي صادق لبنان عليها، من دون أيّ مسعًى للتوفيق بينهما. وبنتيجة ذلك، تكون النيابة العامة قد اعتبرت أنّ الفعل الذي يشكّل تعذيبًا وفق الاتّفاقية الدولية قد لا يكون كذلك وفق القانون اللبناني، كأنّما يُقال إنّ التعذيب لا يشكّل تعذيبًا، وإنّ الالتزام الدولي بمكافحة التعذيب ينطبق على بعض حالاته دون الأخرى، علمًا أنّ قانون إنشاء الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان، ومن ضمنها اللجنة الوطنية للوقاية من جرائم التعذيب، الصادر في العام 2016، كان اعتمد تعريف التعذيب كما ورد في الاتّفاقية الدولية[27]. وعليه، وبدلًا من معالجة هذه الازدواجية من خلال تفسير تعريف القانون رقم 65/2017 على نحوٍ يتناسب مع احترام التزام لبنان الدولي ويُنصف الضحايا، وفي درجةٍ أكثر أهمِّية، على نحوٍ يُعيد الانسجام إلى النظام القانوني ككلّ، يظهر أنّ القرار اعتمد خيارًا آخر في اتّجاه التسليم بهذا الاختلاف في التعريف، بما يخلّ بالتزام الدولة بمكافحة جرائم تعذيب، مع ما يستتبع ذلك من إنكار لعدد واسع من ضحاياه.
يبقى أنّ اعتبارَ الأفعالِ المشكوِّ منها حاصلةٌ خارج هذه المراحل، بغضّ النظر عن مدى سدادة التمييز في تعريف التعذيب، يبقى محلّ انتقاد. فبمراجعة الشكاوى، يظهر أنّ بعض العنف المُستخدَم بحقّهم تمّ خلال التحقيق معهم في مقرّات الأجهزة الأمنية، فضلًا عن أنّ العنف المرتكَب ضدّهم في سياق القبض عليهم أو احتجازهم قام به العناصر الأمنيون في سياق ملاحقة أشخاص بعينهم على خلفيّة افتراض ارتكابهم جرائم معيّنة، أي في مراحل يُفترض أن يكون قد شملها التعريف الضيّق للتعذيب، كما ورد في قانون 65/2017. بالفعل، أفاد جابر في شكواه بأنّه تعرّض للعنف الجسدي والمعنوي خلال إلقاء القبض عليه في تظاهرة أمام مقرّ رئاسة الجمهورية، واستمرّ العنف داخل مركز الاحتجاز وخلال التحقيق معه لدى مخابرات الجيش وحتّى بعد نقله إلى الشرطة العسكرية وتنظيم محضر التحقيق الرسمي معه، وأنّه تبيّن له من أقوال عناصر مخابرات الجيش الذين اعتدوا عليه نيّتَهم في معاقبته بسبب مشاركته في التظاهرة وانتقاده رئيس الجمهورية. كما أفاد شعيب في شكواه أنّه تعرّض للعنف الجسدي والمعنوي خلال إلقاء القبض عليه خلال تظاهرة في وسط بيروت، واستمرّ العنف بعد إلقاء القبض عليه وتكبيل يدَيه داخل الآليّة التي نقلته إلى مركز الاحتجاز، وأنّه تبيّن له من أقوال عناصر قوى الأمن الداخلي الذين اعتدوا عليه نيّتهم في معاقبته بسبب مشاركته في التظاهرة. وقد مُنع جابر وشعيب من ممارسة حقوقهما بموجب المادّة 47 من أصول المحاكمات الجزائية (وهو أمر مثبت في محضرَي التحقيق معها)، كما حُرما من العناية الطبّية اللازمة خلال احتجازهما.
يشكّل القرار الاتّهامي الصادر عن قاضية التحقيق العسكري (نجاة أبو شقرا)، في 29/11/2022، في قضيّة السعود الاتّهامَ الوحيد في قضايا التعذيب الذي تمكَنّا من رصده أمام القضاء العسكري. وهو تاليًا المستند القضائي الوحيد الذي بإمكاننا الاستناد إليه من أجل البحث في كيفيّة مقاربة القضاء العسكري لمفهوم جريمة التعذيب والأدلّة المثبِتة له والمسؤوليّات بشأنها، بانتظار صدور حكم مُبرَم في هذه القضيّة.
قدّم القرار الاتّهامي في قضيّة السعود رواية قضائية مفصّلة حول التعذيب لدى مكتب أمن الدولة في تبنين، وهي رواية تختلف عن الروايات القضائية الصادرة قبلها عن القضاء اللبناني، والتي إمّا نفت واقعة التعذيب (من خلال حفظ شكاوى التعذيب)، وإمّا نفت طابعه الممنهَج في اتّجاه تفسيره على أنّه مجرّد خطأ فردي لبعض العناصر، نتج في الغالب من حالة انفعال أو غضب من جرّاء استفزاز الضحيّة، كما حصل مثلًا في قضيّة تعذيب مجموعة من السجناء في سجن روميه المركزي في العام 2015[28].
لم يكتفِ القرار الاتّهامي بالبحث في مدى تعرّض السعود للتعذيب، بل ذهب أبعد من ذلك في اتّجاه وصف منهجية التعذيب الحاصلة في هذا المركز، وإبراز مدى التلازم بين التحقيق والتعذيب. وقد وثّق القرار منهجية التعذيب من خلال توثيقه أدلّة عدّة على ضلوع النقيب المسؤول عن المركز في أعمال التعذيب، واشتراك عناصر المركز في أفعال التعذيب بدرجة أو بأخرى، وتحوّل التعذيب إلى أحد إجراءات الاستجواب، واستخدام وسائل بصورة متكرّرة على ضحايا عدّة، واتّخاذ المدّعى عليهم تدابير للتغطية على أعمال التعذيب بعد وفاة السعود، والاستهتار بأوضاع الموقوفين الذين تعرّضوا للتعذيب.
ولم يكتفِ القرار بالاستناد إلى تقرير الطبيب الشرعي الذي عاين جثّة الضحيّة السعود في تاريخ 31/8/2022، والذي أكّد وجود آثار عنف متعدّدة على جسده، بل استند أيضًا إلى إفادات العناصر العاملين في المركز والموقوفين الآخرين المحتجزين فيه. وقد خَلص القرار إلى وجود أدلّة تشير إلى تعرّض السعود وسواه من الموقوفين للتعذيب، وأنّ النقيب أمر عناصره بتعذيب السجناء بحضوره وبموافقته، وأنّه اتّخذ تدابير للتغطية على أعمال التعذيب بعد وفاة السعود، وصولًا إلى اتّهام النقيب وثلاثة عناصر بارتكاب جناية التعذيب والادّعاء على عنصر رابع بجنحة التعذيب.[29]
وقد انطلقت المحاكمة في هذه القضيّة في نهاية العام 2022 لتشكّل المحاكمة العلنيّة الأولى أمام القضاء العسكري لمتّهمين بارتكاب التعذيب استنادًا إلى القانون رقم 65/2017. واستجوبَت المحكمة العسكرية المتّهَمين في الجلسة الأولى المنعقدة في 16/12/2022[30]، لتعود وتخلي سبيل النقيب المسؤول عن المركز وجميع العناصر المتّهَمين بكفالة، ما عدا أحد المعاونين الذي اعترف بضرب السعود والذي لا يزال موقوفًا. وتبيّن أنّ النيابة العامة العسكرية لم تستأنف قرارات إخلاء السبيل، في حين لم يُسمح لوكيل ورثة الضحايا بالاعتراض على هذا القرار أو المشاركة في أيّ من إجراءات التحقيق والمحاكمة[31].
لتحميل الدراسة بصيغة PDF
[1] إلهام برجس، النائب العام العسكري يترافع عن الحاج وليس عن الحق العام: هي تفرجت فقط على مظلمة عيتاني.. هل يشكل التفرج جرمًا؟، المفكّرة القانونية، 31/05/2019.
[2] جويل بطرس، نزار صاغية، قضية عيتاني، رسم كاريكاتوري للنظام اللبنانيّ: هكذا رقصنا على مذبح المحاكمة العادلة، المفكّرة القانونية، 5/05/2019.
[3] إلهام برجس، التعذيب، الإرهاب والمحكمة العسكرية في لبنان، عدد خاص من مجلّة المفكّرة القانونية -لبنان حول المحاكم العسكرية في دول المنطقة العربية، كانون الثاني 2018.
[4] بشير مصطفى، المحامي صبلوح في مواجهة النيابة العامة العسكرية: هل بدأت ملاحقة المدافعين عن ضحايا التعذيب؟، المفكّرة القانونية، 11/10/2021.
[5] لور أيّوب، الأمن العام يتهجّم على محامٍ لا يخضع: صبلوح يواصل نضاله لفرض التحقيق بقضايا التعذيب، المفكّرة القانونية، 8/02/2022.
[6] https://www.ohchr.org/en/press-releases/2021/12/lebanon-cease-threats-and-intimidation-human-rights-lawyer-un-expert
[7] https://www.amnesty.org/es/documents/mde18/4873/2021/ar/
[8] مخابرات الجيش تعرقل تنفيذ قرار قضائي وتصادر عينات تشريح موقوفي عرسال، المفكّرة القانونية، 7/07/2017. قضية الموقوفين المتوفين “خلف أبواب العسكرية”… أي مصداقية بعد إسكات محامية الدفاع؟ المفكّرة القانونية، 25/07/2017.
[9] لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين، لماذا لم يمثل خلدون جابر للتحقيق لدى مخابرات الجيش؟، 6/03/2020.
[10] جويل بطرس، نزار صاغية، قضية عيتاني، رسم كاريكاتوري للنظام اللبنانيّ: هكذا رقصنا على مذبح المحاكمة العادلة، المفكّرة القانونية، 5/05/2019.
[11] “أمن الدولة“: هذه اعترافات المسرحي زياد عيتاني الموقوف بتهمة التواصل مع العدو، النهار، 24/11/2017.
[12] ريما كركي، برنامج “للنشر”، قناة الجديد، 27/11/2017.
[13] جو معلوف، برنامج “هوا الحرّية”، قناة أل.بي.سي.، 27/11/2017.
[14] أمن الدولة يختتم التحقيق مع زياد عيتاني… وهكذا أوضح التسريبات، النهار، 28/11/2017.
[15] قرار المحامي العام الاستئنافي في بيروت (زاهر حمادة) برفض طلب التوسّع في التحقيق، تاريخ 11/10/2023.
[16] إلهام برجس، العسكرية ترفض عرض تسجيلات تضليلية في قضية “تلفيق تهمة العمالة لزياد عيتاني“، المفكّرة القانونية، 19/04/2019. بيان “المفكرة القانونية” حول الفيديو المسرّب للممثل زياد عيتاني: مكافأة المرتكب التي شجّعته على تكرار جرمه، المفكّرة القانونية، 24/08/2020. جوي سليم، قضية زياد عيتاني: تسريب فيديو من التحقيق انتهاك للقانون، بي بي سي – بيروت، 20/09/2020.
[17] بيان صادر عن المديرية العامّة لأمن الدولية – قسم الإعلام والتّوجيه والعلاقات العامّة، 2/09/2022.
[18] بيان صادر عن المديرية العامّة لأمن الدولية – قسم الإعلام والتّوجيه والعلاقات العامّة، 5/09/2022.
[19] ماذا تعلّمنا من مظلمة زياد عيتاني؟ دعويان جديدتان لجَبْه سياسات طمس المسؤوليّات والتنكّر للضحايا، المفكّرة القانونية، 31/08/2020.
[20] لين أيّوب، إرجاء جلسة المحاكمة في مقتل بشار السعود تحت التعذيب وعودة عن مكافأة المتهم، المفكّرة القانونية، 5/05/2023.
[21] غيدة فرنجية، الاستعانة مجّانًا بمحامٍ خلال التحقيقات الأوّلية في لبنان: العوائق أمام التنفيذ، المفكّرة القانونية ومركز جينيف لحوكمة قطاع الأمن (ديكاف)، نيسان 2022.
[22] يراجع مثلًا: محكمة التمييز الجزائية قرار رقم 283 تاريخ 23/10/2015، محكمة جنايات بيروت قرار رقم 595 تاريخ 12/06/2018.
[23] غيدة فرنجية، الاستعانة مجّانًا بمحامٍ خلال التحقيقات الأوّلية في لبنان: العوائق أمام التنفيذ، المفكّرة القانونية ومركز جينيف لحوكمة قطاع الأمن (ديكاف)، نيسان 2022.
[24] لور أيّوب، ممثّل النيابة العامة العسكريّة يطلب البراءة للناشط خلدون جابر: حكم يفضح تلفيق الأجهزة الأمنيّة التّهم ضد المتظاهرين، المفكّرة القانونية، 8/10/2020.
[25] قرار رقم 33/2023 تاريخ 1/06/2023، صادر عن محكمة التمييز الجزائية (الغرفة السادسة برئاسة رندة كفوري وعضوية فرنسوا الياس وسميح صفير، رقم الأساس: 96/2022). المركز اللبناني لحقوق الإنسان، للمرة الأولى في لبنان: محكمة التمييز الجزائية تصدق قرار يعتمد على القانون 2017/65،5/07/2023.
[26] Dimitrijevic v Serbia and Montenegro, CAT Communication No. 207/2002, 24 November 2004, §5.4.
[27] المادّة 22 من قانون رقم 62 تاريخ 27/10/2016، إنشاء الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان المتضمّنة لجنة الوقاية من التعذيب.
[28] نزار صاغية، كيف تتعامل الدولة اللبنانية مع فضائحها؟ فضيحة التعذيب في رومية نموذجًا (2): الرواية الرسمية بفم القضاء، المفكّرة القانونية، 23/07/2015.
[29] نزار صاغية، لين أيّوب، التعذيب الممنهج في أروقة أمن الدولة (1): تغيَّر الراوي، تغيَّرت الرواية، المفكّرة القانونية، 14/12/2022.
[30] نبيلة غصين، المحاكمة الأولى لجرائم التعذيب في غياب ذوي الضحية، المفكّرة القانونية، 20/12/2022.
[31] لين أيّوب، إرجاء جلسة المحاكمة في مقتل بشار السعود تحت التعذيب وعودة عن مكافأة المتهم، المفكّرة القانونية، 5/05/2023. لور أيّوب، القضاء العسكري يرفض مجدّدًا استلام أدلّة من ورثة ضحيّة التعذيب بشّار السعود، المفكّرة القانونية، 17/11/2023.