كيف تصبح قاضيًا ماليًّا؟

،
2025-02-11    |   

كيف تصبح قاضيًا ماليًّا؟
رسم رائد شرف

يشكّل تنظيم الدخول إلى القضاء أحد أهمّ العوامل المؤثّرة في كفاءته وأدائه. ولعلّ التحوُّل الأكبر في هذا المجال جرى غداة الحرب الأهلية، وتحديدًا في العام 1992. ففي هذه السنة، نجح رئيس الديوان آنذاك عبد الله ناصر في استصدار قانون بزيادة عدد القضاة في ملاك الديوان (من 24 إلى 36 قاضيًا)، والأهمّ في شقّ الطريق الذي يتيح ملء الملاك مع مراعاة معايير الكفاءة والنزاهة. تمثَّلَ هذا الطريق في اعتماد نظام التدرُّج في قسم خاص (القسم المالي) في معهد الدروس القضائية، وقوامه إجراء مباراة للمُرشَّحين للدخول إلى معهد الدروس القضائية، على أن يُعيَّنوا قضاةً أصيلين في ديوان المحاسبة بعد إنجاز تدرُّجهم لثلاث سنوات فيه وإعلان أهليّتهم.

وإذ هدف هذا الأمر في الأساس إلى وضع آليّة تُجيز سدّ الشغور الهائل الحاصل في الديوان، فإنّه عكس في الآن نفسه توجُّهًا نحو مواءمة وضعيّة قضاة الديوان مع وضعيّة القضاة الإداريّين والعدليّين. إلّا أنّ اعتماد طريقة التعيين هذه لم يحُلْ دون الاستبقاء على آليّة تعيين أخرى خاصة بالديوان وبطرق عمله، وهي إمكانيّة تعيين قضاة أصيلين بموجب مباراة محصورة بالمُراقِبين، وهي آليّة تفتح الباب أمام هؤلاء للتطوّر مهنيًّا داخل الديوان، والأهمّ من ذلك أنّها تسمح برفد الديوان بقضاة ذوي خبرة لا يحتاجون إلى سنوات تدرُّج تهيّئهم لأداء أعمالهم. وقد فتح القانون 222/2012 أمام مُدقِّقي الحسابات الحائزين إجازة في الحقوق إمكانيّة الاستفادة من هذه الآليّة أيضًا. وفيما لجأ الديوان في السنوات التي أعقبت انتهاء الحرب إلى آليّتَي تعيين قضاة من بين خرّيجي المعهد والمُراقِبين وفق ما نبيّنه تفصيليًّا أدناه، فإنّ الآليّة المُستحدَثة في العام 2012 بتعيين قضاة من بين مُدقِّقي الحسابات لم يُلجأ إليها في أيّ حين.

بالإضافة إلى هذه التعيينات التي تفترض كلّها إجراء مباريات، وسّعت السلطة الحاكمة في العام 2012 هامش تدخُّلها في إجراء تعيينات في المراكز العليا في الديوان، من بين القضاة العدليّين والإداريّين. ذلك أنّه تمّ توسيع هذه الآليّة التي كان يُعمَل بها منذ نشوء الديوان، فيما يتّصل بمركز رئيس الديوان، بموجب القانون 222/2012، لتشمل النائب العام لدى الديوان، ونسبة معيّنة من رؤساء الغرف أيضًا (الخُمس).   

واللافت أنّه بالرغم من تفاقُم الشغور بنتيجة عدم إجراء أيّ مباراة منذ أكثر من 20 سنة، وبروزه كحائلٍ دون إنجاز قطوعات الحساب في الخطاب التشريعي منذ العام 2011، فإنّ السلطة الحاكمة لم تقمْ بأيّ جهد لتصحيح هذا الواقع مُكتفِية بإجراء تعيينات ارتبطَت بالحسابات السياسية والطائفية في المراكز العليا، من دون أيّ مسعى إلى ضمان رفد الديوان بانتظام بما قد يحتاج إليه من موارد بشرية.

وللإحاطة بآليّات الدخول إلى الديوان، سوف ندرس كلًّا منها، وتواريخ وضعها موضع التطبيق، والنتائج التي أسفرَت عنها. وقبل المضيّ في ذلك، يجدر بدايةً إعطاء صورة عن قضاة الديوان الحاليّين، وتحديدًا لجهة كيفيّة دخولهم إلى الديوان، وأقدميّتهم وفئاتهم العمرية وجنسهم والطوائف التي ينتمون إليها. 

من هم قضاة الديوان؟ وكيف دخلوا إليه؟  

إذ يحدّد ملاك الديوان عدد قضاته بـ 50، فإنّ مجموع قضاته يبلغ اليوم 26 قاضيًا، بمعنى أنّ نسبة الشغور تصل إلى 48%؛ وهم يتكوّنون حاليًّا من رئيس الديوان، والنائب العام لديه، و6 رؤساء غرف (ومنهم رئيستان تتولّيان رئاسة غرفة ثانية بالإنابة)، بالإضافة إلى 18 مستشارًا يتوزّعون بين الغرف المختلفة.

من ناحية كيفية دخولهم إلى الديوان، نلحظ أنّ 3 عُيِّنوا من بين القضاة العدليّين بموجب مراسيم (وهم رئيس الديوان والنائب العام ورئيسة غرفة)، في حين أنّ 19 عُيِّنوا من بين خرّيجي معهد الدروس القضائية، وأنّ 4 عُيِّنوا من بين المُراقِبين الفائزين بمباراة محصورة بهم.

من ناحية أقدميّتهم، إنّ جلّ القضاة دخلوا القضاء المالي أو العدلي منذ أكثر من 20 سنة؛ فالقضاة الثلاثة الذين نُقِلوا من القضاء العدلي في العامَين 2012 و2019، كانوا دخلوا إليه تباعًا في تاريخ 2019/9/17 (جمال محمود – دخلت إلى القضاء العدلي في 1993/6/10) و2012/11/13 (فوزي خميس – دخل إلى القضاء في 1993/12/23) و2019/9/17 (محمّد بدران – دخل إلى القضاء العدلي في 1993/6/10). أمّا سائر القضاة الـ 23 فقد عُيِّنوا قضاةً مُتدرِّجين أو أصيلين في التسعينيات، وتحديدًا بين العامَين 1992 و2003. وعليه، يكون بإمكان أيّ منهم إنهاء خدماته لإكمال 20 سنة مع تقاضي كامل تعويضاته، علمًا أنّ أعمارهم تتراوح بين 50 و67 سنة، وأنّ إحداهم (محمود) تبلغ سنّ التقاعد خلال كانون الأوّل 2024، ممّا سيرفع نسبة الشغور إلى 50%. أمّا الآخرون فيبلغون كلّهم، وتباعًا، في حال استمرارهم في العمل في الديوان، سنّ التقاعد خلال أقلّ من 18 سنة.  

من ناحية جنس القضاة، نلحظ أنّ الإناث يشكِّلْنَ اليوم غالبيّة قضاة الديوان، بحيث يبلغ عددهنّ 14 قاضية مقابل 12 قاضيًا ذكرًا.

ومن ناحية الطائفة، نلحظ التزامًا من الديوان بإجراء التعيينات تبعًا للمباريات المُنظَّمة منه في التسعينيات، على أساس نتائج المباريات (الكفاءة مبدئيًّا)، من دون التوقُّف عند المناصفة أو أيّ معادلة أخرى. وهذا ما يتبدّى عند النظر في التوزيع الطائفي لقضاة الديوان، علمًا أنّنا اعتمدنا في هذا التصنيف الخانات التي سُجِّلوا فيها بمعزل عن شعورهم بالانتماء إلى الطائفة أو عدم انتمائهم إليها. وعليه، نصل إلى 17 مسيحيًّا مقابل 9 مسلمين، منهم سنِّي واحد ودرزي واحد وسبعة من الطائفة الشيعية.

التعيينات الحكومية أو التعيينات بالباراشوت

تندرج التعيينات الأولى التي سنتوقّف عندها ضمن التعيينات التي تتمّ بموجب مراسيم تُتَّخَذ في مجلس الوزراء من بين القضاة العدليّين أو الإداريّين، وهي تشمل رئيس ديوان المحاسبة، فضلًا عن النائب العام لديه، وخمسة رؤساء غرف منذ العام 2012، كما سبق بيانه. وفي حين تمّ تبرير منح هذه الصلاحية للحكومة بضرورة تصحيح الاختلال الطائفي الحاصل بين القضاة الماليّين في الديوان، فإنّ القوى السياسية لم تتوانَ عن استخدامها من أجل تعزيز نفوذها داخله. وكما جرى بالنسبة إلى مُجمَل المراكز القضائية المهمّة، فإنّ العقود الماضية انتهتْ إلى تخصيص هذه المراكز لطوائف معيّنة، خلافًا للمادّة 95 فقرة أخيرة من الدستور، على نحوٍ يعطي زعماء الطوائف المعنيّة الهامش الأكبر في ملئها وفق آليّة المحاصصة أو السلّة. 

لقد كان رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي أوّل من أعلن التمسُّك بهذه الآليّة، وبخاصّة بعد نشوب الأزمة السياسية على أثر مقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وذلك من خلال تمسُّكه بتعيين رؤساء للديوان مُوالين له. وقد تجلّى ذلك، بشكل خاص، في المُساومات التي خاضها من أجل فرض تعيين القاضي العدلي عوني رمضان (وكان يشغل آنذاك منصب النائب العام الاستئنافي في الجنوب) في تاريخ 2010/3/11 رئيسًا للديوان. وقد تمّ ذلك ضمن سلّة شملت تعيين رئيس هيئة التفتيش القضائي ورئيس مجلس الخدمة المدنية، فضلًا عن رئيس لجنة الرقابة على المصارف. وقد عاد الرئيس برّي ليفرض قاضيَين عدليَّين مُقرَّبَين منه في هذا المنصب هما، على التوالي، أحمد حمدان (2014-2019) ومحمّد بدران (2019). وهنا أيضًا عُيِّن هذا الأخير في أيلول 2019 ضمن سلّة شملت تعيين رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس مجلس شورى الدولة، فضلًا عن رئيسَي غرفتَين في ديوان المحاسبة هدف تعيينهما إلى مراعاة التوازن الطائفي في رئاسات الغرف.  

وإنّنا نستشفّ التسييس نفسه في التعيينات لملء المراكز المهمّة الأخرى، كما في تعيين القاضي العدلي فوزي خميس المُقرَّب من التيّار الوطني الحرّ نائبًا عامًّا لدى الديوان في العام 2012، وما كان هذا التعيين ليحصل لولا تعديل قانون ديوان المحاسبة في العام 2012 في اتّجاه تمكين الحكومة من تعيين قاضٍ من غير القضاة الماليّين في هذا المركز. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا التعيين إنّما شكّل التطبيق الوحيد لقانون توسيع ملاك 2012 في سنة صدوره.

وقد تكرّر الأمر نفسه في أيلول 2019 مع تعيين قاضيَين عدليَّين رئيسَين لغرفتَين في الديوان، وذلك ضمن سلّة شملت رئيسه وآخرين، كما سبق بيانه. ولم تُخفِ القوى السياسية أنّ الهدف من تعيين هذَين القاضيَين يكمن في التعويض عن نقص القضاة السُنَّة في الديوان، والرغبة في تحقيق المُناصفة الطائفيّة في رئاسات غرف الديوان التي كان قد رُفِعَ عددها من 5 إلى 8 في العام 2012 لهذه الغاية. وليس أدلّ على ذلك من أنّ هذا التعيين، بما أتاحه من توازن طائفي، أنهى عمليًّا شغور رئاسات الغرف الحاصل منذ قرابة 13 سنة. وقد تمّ إذّاك تطبيق المعادلة التي انبنى عليها قانون العام 2012، وقوامها أن يتوزّع رؤساء الغرف على النحو الآتي: 4 مسلمين (2 شيعة و2 سنة) و4 مسيحيّين (3 موارنة و1 أرثوذكس)، يُضاف إليهم رئيس الديوان (الشيعي) والنائب العام (الكاثوليكي). ويُسجَّل هنا أنّ الحكومة خالفت، جرّاء تطبيق آليّة التعيين هذه، قانون العام 2012، بحيث عيّنت 25% من رؤساء الغرف من خارج القضاء المالي، وهي نسبة تتجاوز نسبة الـ 20% المسموح بها لتعيين قضاة غير ماليّين في رئاسات الغرف. بمعنى أنّ حسابات المُحاصَصة والسلّة لا تفسّر فقط تعديل قانون تنظيم ديوان المحاسبة، بل تفسّر أيضًا تجاوزه. وتبعًا لاستقالة القاضي خالد عكّاري، وقرب تقاعد القاضية جمال محمود في كانون الأوّل 2024، يُخشى أن تُثار مُجدَّدًا مسألة الاختلال في التوازن الطائفي داخل الديوان، ممّا قد يدفع إلى تكرار تعيين رئيسَي غرفتَين في الديوان من بين القضاة الإداريّين والماليّين.          

وعدا عن أنّ هذه التعيينات تؤدّي إلى تمكين السلطة التنفيذية (وتاليًا القوى السياسية المُكوِّنة لها) من التحكُّم في عدد مهمّ من قيادات الديوان، فإنّ من شأنها أيضًا أن تُحبِط قضاة الديوان من خلال إشعارهم بمحدودية تطوّرهم المهني داخل المُؤسَّسة، وبإمكانيّة إخضاعهم لإدارة رؤساء يهبطون بالباراشوت في الديوان من خارج ملاكه، وغالبًا ما يفتقدون إلى الخبرة بأعماله وطرق عمله. وما يزيد من قابليّة تنامي هذا الشعور هو حصر رئاسة الديوان بطائفة مُعيَّنة، كما ذكرنا أعلاه، ما يكبح طموح القسم الأكبر من قضاة الديوان، على غرار ما يعاني منه قضاة مجلس شورى الدولة وفق ما وثّقناه في مكان آخر. وما يزيد من عوامل تحكُّم السلطة التنفيذية هو تمتُّع رئيس الديوان بصلاحيات خارقة، كما بيَّنّاه في مكان آخر، فضلًا عن اختزال مجلس الديوان في 5 تُعيِّنهم كلّهم السلطة التنفيذية التي لها مَلَكَة تعيين غالبيّتهم من خارج القضاء المالي، كما هي الحالة الراهنة.

المباريات المحصورة بالمُراقِبين والمُدقِّقين

لئن اعتمد ديوان المحاسبة في بداياته تعيين قضاة الديوان (المستشارين) من بين المُراقِبين والقضاة العدليّين، فإنّه سرعان ما حصر هذا التعيين بالمُراقِبين، وإن اشترط، ابتداءً من العام 1959، نجاحهم في مباراة محصورة بهم لهذه الغاية، وهي طريقة أعاد تكريسها المرسوم الاشتراعي المُنظِّم لديوان المحاسبة والمعمول به حاليًّا رقم 82/1983. وعليه، يتبيّن أنّ تعيين المستشارين في الديوان من بين المُراقِبين شكّل، حتّى العام 1992 (اعتماد نظام التدرُّج في معهد الدروس القضائيّة)، الطريقةَ الأساسيّة لرفد الديوان بالقضاة، بحيث اقتصرت التعيينات الأخرى على المراكز العليا، كما سبق بيانه. وفيما نصّ القانون على أنّ مجلس الديوان يتولّى وضع نظام المباراة المحصورة، فإنّه لم يشترط صراحةً أن يُحدَّد عدد المُراد تعيينهم بموجبها من قبل رئاسة مجلس الوزراء، كما هي الحال عند إجراء مباراة مفتوحة للدخول إلى معهد الدروس القضائية. فهل يشترط صدور قرار سابق من رئاسة مجلس الوزراء قياسًا على الإجراءات المُحدَّدة بشأن المباراة المفتوحة أم يفسّر النصّ على أنّه يمنح مجلس الديوان زمام المبادرة في هذا الشأن، طالما أنّ المباراة تبقى محصورة داخله، وأنّ الحاجة إلى تعيين قضاة تبقى مُفترضة في ظلّ الشغور في ملاكه؟

عمليًّا، تمّ اللجوء إلى هذه الآليّة 3 مرّات بعد انتهاء الحرب الأهلية، مرّتَين قبل إنشاء معهد الدروس القضائية (1991 و1992) ومرّة واحدة بعد إنشائه (2003). وقد أسفرت هذه المباريات عن تعيين 11 قاضيًا من بين المُراقِبين والمُراقِبين الأول في الديوان في الأعوام 1992 و1994 و2003 بموجب مراسيم. ومن بين هؤلاء، يوجد حاليًّا 4 قضاة ما يزالون عاملين في الديوان، وهم الذين عُيِّنوا بموجب دورة العام 2003. وقد أشار عدد من القضاة الذين تمّ الاستماع إلى شهاداتهم إلى حصول انقسام داخل مجالس الديوان المتعاقبة بشأن مدى ملاءمة الاستمرار في اللجوء إلى هذه الآليّة: ففي حين يرى قسمٌ من القضاة أنّ فتح مباراة محصورة، من وقت إلى آخر، يشكّل تحفيزًا للمُراقِبين ومُدقِّقي الحسابات، ويسهم في رفد الديوان بقضاة لا يحتاجون إلى أيّ تأهيل بفعل تخصُّصهم في أعماله، يرى قسمٌ آخر أنّه لم يعدْ ضروريًّا ولا مُناسبًا اللجوء إلى المباراة المحصورة بعد إنشاء معهد الدروس القضائية. ويستند هذا الرأي إلى أنّ المباراة المفتوحة لدخول المعهد تشكّل ضمانةً أكبر للكفاءة، وأنّ التدرُّج في المعهد يسهم في بناء شخصية القاضي بما تفترضه من مؤهّلات وسلوكيات. وغالبًا ما يترافق هذا الرأي مع نظرة دونيَّة إلى عمل المُراقِبين أو مُدقِّقي الحسابات، من مُنطلَق أنّه عمل تابع، بخلاف القضاء الذي يفترض الاستقلالية. وفيما نجح الرأي الأوّل في فرض مباراة محصورة في العام 2003 بفعل كون غالبيّة أعضاء مجلس الديوان آنذاك مُراقِبين سابقين، فإنّ الرأي الثاني يبدو غالبًا اليوم بعدما انحصر عدد القضاة المُراقِبين في 4 فقط، هم القضاة الذين فازوا في مباراة العام 2003.  

 وبمراجعة نتائج المباريات المحصورة، نلحظ الأمور الآتية:

  • في العام 1991، اجتاز المباراة 5 مُراقِبين، كلّهم من الرجال، انقسموا طائفيًّا بين 3 مسلمين و2 مسيحيّين؛
  • في العام 1992، اجتاز المباراة مُراقِبان، كلاهما من الرجال، انقسما طائفيًّا بين مسلم ومسيحي؛
  • في العام 2003، اجتاز المباراة 4 مُراقِبين، كلّهم من النساء، انقسمْنَ طائفيًّا بين مسلمة (درزية) و3 مسيحيين.

وفي حين ارتقى العديد من القضاة المُعيَّنين بموجب هذه المباراة إلى مراكز رؤساء غرف (3 منذ العام 1992)، فإنّ أيًّا منهم لا يشغل اليوم رئاسة غرفة. 

وقد شهدت آليّة التعيين هذه تعديلات أساسية، يتمثّل أهمّها في الآتي: 

  • تعديل الأقدمية المطلوبة لدى المراقبين للاشتراك في المباراة المحصورة. ويُلاحظ أنّ هذا التعديل قد حصل ثلاث مرّات في الأعوام 1992 و1997 و2012، وفي اتّجاهات متناقضة. فبعدما رفع تعديل العام 1992 الأقدمية المطلوبة من 6 إلى 10 سنوات، عاد تعديل العام 1997 ليخفّض الأقدمية المطلوبة إلى 6 سنوات، ليعود تعديل العام 2012 ليرفع هذه الأقدمية إلى 10 سنوات مُجدَّدا. وقد عزا قضاةٌ تمّ الاستماع إليهم هذه التعديلات إلى رغبات متناقضة لدى رؤساء الديوان في توسيع فئة المُرشَّحين المُحتمَلين أو تضييقها، علمًا أنّ بعض هذه التعديلات لم تكن دائمًا مُنزَّهة عن الغايات الشخصية أو المحاباة. وقد دفع رفع السنّ بعض المُراقِبين الذين كانوا في بداية مسارهم المهني، في التسعينيات، إلى الاستقالة من وظائفهم ليتمكّنوا من خوض المباراة المفتوحة لدخول المعهد؛
  • التعديل الهادف إلى توسيع “المباراة المحصورة”، لتشمل إلى جانب المُراقِبين مُدقِّقي الحسابات، شرط تمتُّعهم بالأقدمية نفسها، وحيازتهم إجازةً في الحقوق، علمًا أنّ هذا التوسيع الحاصل في العام 2012 لم يجد أيّ تطبيق له.

مباريات الدخول إلى معهد الدروس القضائية

شكّلت مباريات الدخول إلى معهد الدروس القضائية ميزة التسعينيات، وقد سبقها إنشاء القسم المالي في معهد الدروس القضائية في العام 1992. تجري المباريات وفق القواعد المنصوص عليها في مباريات الدخول إلى القضاء العدلي؛ وعليه، يحدّد رئيس مجلس الوزراء، بعد استطلاع رأي مجلس ديوان المحاسبة، عدد القضاة المُتدرّجين الماليّين المنوي تعيينهم. ويتبيّن أنّ القانون لم يُلزِم رئيس مجلس الوزراء بأيّ معايير أو ضوابط متّصلة بحجم الشغور الحاصل في ملاك ديوان المحاسبة أو الالتزام برأي مجلس الديوان، ما قد يدفع رئيس مجلس الوزراء إلى تقليص أعداد القضاة المنوي تعيينهم كلّما أراد تقليص قدرات الديوان على رقابة السلطة التنفيذية. وما يزيد هذا التساؤل إلحاحًا هو أنّ آخر مباراة لتعيين قضاة في الديوان جرت في العام 1998، أي منذ أكثر من ربع قرن، في ظلّ حديث مستمرّ عن نقصٍ في عدد قضاة الديوان.

يضع مجلس ديوان المحاسبة، المُكوَّن من قضاة حصرًا، نظامَ المباراة، ويحدّد الموادّ التي تجري بشأنها ومعدّل علامات النجاح فيها. ولا يُستفاد تاليًا من أيّ خبرات أكاديمية أو من مُختَصّين في الموارد البشرية في هذا الخصوص. وتكون للمجلس صلاحية استبعاد مُرشَّحين عن خوض المباراة، بما يمسّ بمبدأ المساواة في تولّي الوظيفة العامة عملًا بالقواعد المعمول بها في المادّة 76 وما يليها من قانون تنظيم القضاء العدلي. فضلًا عن ذلك، لا توجد آليّة أو إمكانيّة للطعن بنتائج المباريات، بحيث يمنع القانون أيّ طريق من طرق المراجعة، بما فيها الإبطال وتجاوُز حدّ السلطة.

وقد نُظِّمت هذه المباراة 4 مرّات فقط في الأعوام 1993 1995 و1996 و1998، وأسفرت تباعًا عن تعيين 22 قاضيًا مُتدرِّجًا في المعهد (القسم المالي). وتبعًا لإنهاء تدرُّجهم وإعلان أهليّتهم، عُيِّنوا مستشارين أو مُعاوني المدّعي العام لدى الديوان (واحد فقط هو القاضي بسّام وهبة) في ملاك الديوان بموجب المراسيم الصادرة تباعًا في الأعوام 1997 و1999 (مرسومان) و2001. وما يزال 19 من هؤلاء القضاة عاملين في الديوان. أمّا المُتبقّون فقد نُقِلوا إلى ملاك وزارة الداخلية والبلديات، وعُيِّنوا مُحافِظين للبنان الشمالي وبيروت تواليًا (رمزي نهرا ومروان عبّود)، في حين توفّي القاضي عمر الحلبي في العام 2005. حاليًّا، يشغل 5 منهم رئاسة 5 غرف، علمًا أنّ إحدى القضاة تتولّى رئاسة غرفة ثانية بالنيابة. وبمراجعة نتائج المباريات، نلحظ الأمور الآتية:

  • في العام 1993، أُعلِنَ نجاح امرأتَيْن مقابل 3 رجال. أمّا طائفيًّا، فانقسم هؤلاء على الوجه الآتي: مُسلمان اثنان مقابل 3 مسيحيّين.
  • في العام 1995، أُعلِنَ نجاح امرأة وحيدة مقابل 5 رجال. أمّا طائفيًّا، فانقسم هؤلاء على الوجه الآتي: مسلم وحيد مقابل 5 مسيحيّين.
  • في العام 1996، أُعلِنَ نجاح 3 نساء و3 رجال. أمّا طائفيًّا، فانقسم هؤلاء على الوجه الآتي: مسلمان اثنان مقابل 4 مسيحيّين.
  • في العام 1998، أُعلِنَ نجاح 3 نساء مقابل رجُلَين اثنَين: أمّا طائفيًّا، فانقسم هؤلاء على الوجه الآتي: مسلمان اثنان مقابل 3 مسيحيّين.

وفي المُحصّلة، أمكن القول إنّ 22 متباريًا، 9 نساء مقابل 13 رجلًا، 7 مسلمين مقابل 15 مسيحيًّا، اجتازوا هذه المباريات الأربع.

وعليه، يظهر بوضوح أنّ نتائج المباريات أُعلِنَت من دون التقيُّد بمبدأ المناصفة الطائفية، بحيث بلغ عدد المسيحيّين الناجحين نحو ضعف الناجحين من المسلمين، وذلك على غرار ما تقرَّرَ على صعيدَي القضاء العدلي والإداري [2].

ومن أهم الملاحظات على هذه المباريات:

  • إمكانيّة مكتب المجلس أن يستبعد عددًا كبيرًا من المُرشَّحين من خوض المباراة الخطِّية على أساس معايير غير موضوعية، أو على الأقلّ غير شفّافة، من دون أن يكون للمُرشَّحين المُستبعَدين أيّ مجال للطعن في هذه النتائج. وهنا نشهد اختلافًا في الممارسة. ففي حين لم يُستبعَد أيّ ترشيح في عامَي 1995 و1996، تمّ استبعاد نسبة من المُرشَّحين في سنوات أخرى بلغت 25% في العام 1993، لتصل إلى 30% في العام 1998؛
  • حصول عمليّة الانتقاء هذه، على أساس مقابلات شفهية وتقارير أمنية تُرفَق بملفّات المُرشَّحين، من دون أن يتسنّى لهؤلاء الاطّلاع عليها، وتاليًا مناقشة مدى صحّتها، وهذا ما لا يقلّ خطورة عن إمكانيّة الاستبعاد المذكورة. 

خلاصة

بخلاصة ما تقدّم، نلحظ أنّ تعدُّدية طرق الدخول إلى ديوان المحاسبة تعكس، في الواقع، مقاربات وتحدّيات مختلفة. ففيما يرتبط التعيين في المسؤوليات العليا من خارج الديوان باعتبارات سياسية وطائفية واضحة، يعكس تعيين قضاة بمباراة محصورة من المُراقِبين ومُدقِّقي الحسابات توجُّهًا نحو تعزيز التكامل بين العاملين في الديوان والمُحفِّزات المهنية لهم. في المقابل، يعكس التعيين من خلال المعهد توجُّهًا نحو استقطاب الطاقات الشبابية وتأهيلها لمقتضيات عمل القضاء المالي. واللافت أنّ السنوات الأخيرة شهدت تفعيلًا للتعيينات في المسؤوليات العليا، مراعاةً للاعتبارات السياسية والطائفية، فيما تعطّلت آليّات التعيين الأخرى، ومعها الاعتبارات المُؤسَّساتية والمهنية لفترة تتراوح بين 21 سنة (بالنسبة إلى المباريات المحصورة) و26 سنة (بالنسبة إلى مباريات الدخول إلى المعهد). وعليه يُنتظَر أن يذهب أيّ إصلاح لديوان المحاسبة مُستقبلًا في اتّجاهٍ مُعاكِس تمامًا، أي في اتِّجاه حصر الاعتبارات السياسية والطائفية، مقابل تفعيل المباريات المحصورة، كما المفتوحة، ضمن مُخطَّط تكاملي.  

نشر هذا المقال في الورقة البحثية: “ديوان المحاسبة المتعثرة”

لقراءة وتحميل الورقة البحثية بصيغة PDF

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم إدارية ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني