يكمن جوهر مشكلة القوانين الدينية في صعوبة إخضاع أحكامها للنقاش العام وتعديلها، لا بل إستحالة الأمر أحياناً. وبينما لا يشي الواقع الراهن بوجود توجه جدي لدى السلطات المدنية لتغيير واقع قوانين الأحوال الشخصية، يصبح ضغط الجمعيات الدينية باتجاه تخطي المحظور وفتح نقاش عام حول محاكمهم الشرعية، غاية في الأهمية. وهو أمر لا بد من الوقوف عنده، ومراقبة مفاعيله.
"لا مشكلة في تعديل قانون حقوق العائلة العثماني". هذا ما يقوله قاضي المحكمة الشرعية السنية في المنية عبد العزيز الشافعي خلال جلسة حوارية نظمها قسم الأسرة في "جمعية الإرشاد والإصلاح الخيرية الإسلامية"، تحت عنوان "كيف أحوالكم". فقانون حقوق العائلة العثماني، الذي تخضع له الطائفة السنية في أحوالها الشخصية، ذو طابع مزدوج: ديني ومدني. هو ديني نسبة لمصادر أحكامه الإسلامية، بشكل خاص مذهب أبي حنيفة. وهو مدني، نسبة لصدوره عن سلطة مدنية كانت وقتها السلطنة العثمانية. لا يتطرق القاضي الى هذه الطبيعة المزدوجة، ليوضح أسباب سهولة التعديل فيه. الا أن النقاش الذي دار بين منظمي الندوة والقاضي والحضور، يوضح حدود التعديل الممكنة.
يضيف الشافعي على صعيد موقفه من إمكانية تعديل القانون "يجب أن يكون التعديل بناءً على عمل ميداني". فلا يستسيغ القاضي التعديلات المبنية على قراءة قوانين أخرى، بل يفضل دراسة الواقع للقيام بتعديلات تلائم حاجاته. هذا على الصعيد النظري، أما عملياً، فالحاجة هي "للقيام بعمل كبير عندما تتوفر النية لإصلاح القانون". لا سيما أن هناك سابقة مع "تعديل سن الحضانة" لدى الطائفة السنية.
هذا الموقف على أهميته، يزداد قيمةً في الإطار الذي ورد فيه. توضح مسؤولة قسم الإعلام في الجمعية عزيزة ياسين لـ "المفكرة القانونية" أن "هذه الندوة تأتي كتتمة لدورات نفسية وإجتماعية نظمتها الجمعية، شارك فيها شابات وشبان مقدمين على الزواج". ويأتي هذا العمل إنطلاقاً من ملاحظة الجمعية أن "المشاكل الأكثر تعقيداً التي يطلعون عليها في المحكمة الشرعية، تتعلق بأشخاص ليس لديهم المعرفة بقانونهم". الأمر الذي يجعل "توعية الناس الى القانون الذي يخضعون له لا سيما بالنسبة للزواج مسألة جوهرية". والأهم أن هذه المعرفة لا تأتي منفصلة عن العمل على الإصلاح داخل المحاكم الشرعية، أو كما تفضل ياسين أن تصفه "تطوير أداء المحاكم الشرعية لمواكبة العصر".
إذن، هذه التوجهات الإيجابية المعززة بالعمل على أرض الواقع تشكل مبدئياً، نواة لنقطة تحوّل مهمة على صعيد الأحوال الشخصية الطائفية. الا أن أي من هذه التحولات لا يمكن أن يؤدي الى إصلاح جذري من دون مبادرات تشريعية مدنية لوضع ضوابط عامة يتساوى في إطارها المواطنون. أمر تثبته محطات عديدة في النقاش.
أولى الإيجابيات، بعد قبول مبدأ التعديل والتطوير، هي الإنتقال من التعامل مع القاضي والفقيه على أنه شخص يتخطى الطبيعة الإنسانية، الى التعامل معه على أنه انسان. لا سيما أن المبالغة في رسم الصورة المثالية لشخص القاضي لا يتعلق حصراً بالمحاكم الدينية. يقول الشافعي في هذا الصدد أن "الفقيه إبن عصره". فتنعكس "أفكار المجتمع وأعرافه في أحكامه". هكذا يبرر القاضي موقع المرأة بالنسبة للمحكمة والفقهاء. فهي "ليست ضعيفة بل مستضعفة". بالتالي، ينسحب استضعافها الإجتماعي على الآراء الفقهية والمحاكم الشرعية وفقاً للشافعي. ويتلاقى هذ التوجه مع تأكيد ياسين ضرورة "إعادة النظر بالقانون وتطويره، لا سيما في ظل وجود قضاة مناصرين للمرأة وحقوقها".
الارتكاز الى هذه المعادلة يعني أن مناصرة حقوق المرأة داخل المحكمة الشرعية لا يحتاج الا الى إعادة تصويب للأمور. ولكن كيف يستوي هذا الأمر على أرض الواقع؟ أي كيف يؤدي تقبل التغيير الى إحداثه، وضمن أي حدود؟
تستعيد ياسين واحدة من النقاط التي دار حولها جدال خلال الجلسة، وهي الضرب في إطار الآية 34 من سورة النساء: }واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن {. لا تجد ياسين تفسير واضح لما سمّاه الشافعي "ضرب غير مهين". تتكهن أن يكون مصدر عدم الإهانة بالنسبة للشافعي أن الضرب هنا وارد في النص القرآني، بالتالي لا إهانة فيه. ولكن بغض النظر عما أراده القاضي، فإن "هذه الوسيلة مشروعة للزوج لأنها مذكورة بالقرآن" تقول ياسين.
يظهر هذا الجدال الحدود القصوة التي يمكن أن تصل اليها الإصلاحات داخل المحاكم الشرعية، أي حد النص القرآني، حيث لا مكان للتوسع بالاجتهاد. فالشافعي يرفض "الضرب المؤذي والعنيف" بالمطلق، لكنه لا يملك أن يرفض الآية فيعمل على تفسيرها في الحد الأقرب الى المفاهيم الحقوقية الحديثة من دون أن يتمكن من مطابقتها معها. كذلك الأمر بالنسبة للنشوز الذي ينطبق بالنسبة للشافعي على الرجل والمرأة على حد سواء، وينحصر برفض الوقوف على رغبات الآخر واشباعها على كافة الأصعدة. غير أن تعداد حالات النشوز من قبله تتمحور في النهاية حول المرأة. وهو امر يتطابق مع الآية نفسها، التي تربط النشوز بإمتناع النساء عن الطاعة. هذا الشكل من المحاولات الاصلاحية ينسحب الى باقي الشؤون الحقوقية، من دون أن تؤدي بالضرورة الى اصلاح فعلي على أرض الواقع.
"الإغتصاب الزوجي" إحدى هذه الجدليات أيضاً. فـ "مجرد ان تتزوج المرأة تكون قد رضيت بالعلاقة الجنسية مع الرجل، وذلك لتلبيته شرعاً ولمدى الحياة". هذه هي المعادلة التي يحسم فيها الشافعي موقفه من الإغتصاب الزوجي، أي ان لا إغتصاب في اطار الزواج. الإستثناء الوحيد على هذه القاعدة العامة حالة "ارغام الزوجة بالضرب أو العنف". بالمقابل لا يمكن القبول بأن ما تعرضت له الزوجة هو اغتصاب في حال كان وجه الضغط الممارس "مادي أو معنوي". لا بل، يعتبر الشافعي أن التكامل المفترض في اطار الزواج الإسلامي والذي يتجلى بتحميل الرجل مسؤولية النفقة، يعطيه الحق بحجب المال والإهتمام عن الزوجة التي ترفض "تلبية رغبات زوجها الجنسية". كذلك الأمر بالنسبة للقوامة التي تبقى "نظرياً" للرجل مهما تحملت الزوجة من أعباء مالية. والأمر سيّان بالنسبة للشروط الواردة في عقد الزواج. فإن اشترطت الزوجة على زوجها عدم تعدد الزوجات يبقى شرطها غير ملزم للرجل، كون الأمر يرتبط بحق من حقوقه التي ينص عليها النص القرآني. أما اشتراط الزوجة على زوجها ان تعمل، فلا يمنع الزوج من التراجع عنه، سيما وأن النص القرآني لم يكرس العمل كحق للمرأة، ولا الإنفاق كواجب عليها.
تبقى هذه القضايا مجرد أمثلة عن أخرى عديدة طرحت خلال الندوة. ترسم جميعها في النهاية سمة عامة لطبيعة العمل الإصلاحي وحاجاته. بشكل عام، هي محاولات لاعادة بناء النصوص من خلال تفسيرها بما يتناسب والتطور المحرز على صعيد حقوق الانسان. وحدود هذه المحاولة هي وضوح النص نفسه. بالمقابل، تحتاج الى التخلص من آثار المفاهيم الإجتماعية لا سيما الذكورية منها، إنطلاقاً من التوزيع النمطي لدور المرأة والرجل، دون الانتهاء عند الربط بين الضرب او العنف والسلوك الاستفزازي المؤدي له. على أن العمل في هذه الحدود يبقى غير كاف لتحصين حقوق المرأة خصوصاً، وتحريرها من موجبات الطاعة، فالحاجة الفعلية اليوم هي اعادة النظر بطبيعة العلاقة الزوجية والأسرية الحديثة.