كورونا يصيب الإعلام أيضاً ويرسم حدود أولوياته


2020-04-08    |   

كورونا يصيب الإعلام أيضاً ويرسم حدود أولوياته

لم يمرّ انتشار فيروس كورونا حول العالم من دون أن يؤثر على عمل الصحافيين أسوة بغيرهم من أصحاب المهن. فبرزت تحدّيات جديدة لديهم، على رأسها تأمين السلامة الذاتية لدى إجراء تغطيات أو تقارير ميدانية والمحافظة على جودة العمل الصحافي لا سيّما الميداني منه في ظل اضطرار معظم الصحافيين إلى إنتاج التقارير من منازلهم والتواصل عن بعد مع المعنيّين. وأدّى انتشار الوباء إلى تغيير أولويات الصحافيين حيث أخذت المواضيع المرتبطة بالوباء الاهتمام الأكبر، فدخل فيروس كورونا في معظم الملفات التي يتابعها الصحافيين، إن كان على الصعيد الصحي أو المعيشي أو الإقتصادي. وبرز تراجع ملحوظ في نزول الصحافيين إلى الأرض ما أضعف الجانب الحسّي في تقاريرهم في ظل الخوف من انتشار الفيروس.

وبالطّبع، أثّر توقّف الفعاليات الحيّة بينها الرياضية والثقافية وغيرها على عمل الصحافيين المتخصصين بهذه المجالات. ويبقى الهمّ الإقتصادي هو الأساس لدى الصحافيين والصحافيات في لبنان نظراً إلى أن انتشار كورونا من شأنه أن يضاعف الأزمة التي بدأت تعاني منها المؤسسات الإعلامية في لبنان والتي تجلّت حتى الآن بتخفيض رواتب وصرف موظفين وإغلاق مكاتب.  

طلبت بعض المؤسسات الإعلامية من موظفيها العمل من المنازل وقلّصت عدد المتواجدين في مكاتبها واتخذت إجراءات للتعقيم من خلال رش الوافدين إليها والطلب منهم غسل أيديهم جيّداً عند الوصول إلى مكاتبهم. ولكنّ بعض الصحافيين الذين تحدثت إليهم "المفكرة القانونية" أشاروا إلى أنّ مؤسساتهم لم تأخذ بعين الاعتبار أية تدابير وقائية سوى الطلب منهم العمل من المنازل، وهؤلاء تحفّظوا عن ذكر أسمائهم أو أسماء مؤسساتهم.  وأصبحت معظم التقارير الإخبارية التلفزيونية تُعدّ من منازل الصحافيين، وحين يضطر المراسل والمراسلة للنزول إلى الشارع يلتزم بالتباعد الاجتماعي ولبس الكمّامة والكفوف.

المعاينة الحسّية والتفاعل مع الناس أول ضحايا كورونا   

أثّر العمل من المنزل على نوعية التقارير الصحافية وجودتها حيث الإعتماد على الاتصالات الهاتفية أصبح هو الطريقة الأساسية لجمع المعلومات على حساب اللقاءات أو النزول إلى الشارع. فطرأ تغيير على نشرات الأخبار التي بدأت تعتمد في بعض أخبارها على فيديوهات تنتشر على الإعلام الإجتماعي بعد التحقق من صحّتها وفيديوهات يلتقطها مواطنون. وتقول الصحافية في "المدن" جنى الدّهيبي إنّ "على الصحافي أن يسعى إلى التأكد من صحة ما يتم تناقله ولا ينشر سوى المعلومات الدقيقة"، محذرة من الكمّ الهائل من الأخبار المضللة التي تنتشر في هذه الأيام والتي تتطلب جهوداً إضافية من الصحافيين للتدقيق فيها.

وطرأ تغيير أيضاً على طريقة إعداد التقارير إذ كان الصحافي في السابق يجري المقابلات مع الناس وجهاً لوجه ويجمع المعلومات على الأرض، أما اليوم فأصبح الإعتماد الأساسي على المقابلات الهاتفية وفيديوهات يصوّرها الأشخاص المعنيّون بالتقرير بهواتفهم ويردّون فيها على أسئلة الصحافي. ومن شأن ذلك أن يقلّص إمكانية التفاعل مع النّاس أثناء إجراء المقابلات وبالتالي إمكانية تكوّن انطباعات معيّنة لدى الصحافي والحصول على صورة كاملة عن الموضوع. أضف إلى ذلك تراجع الاعتماد على المعاينة الحسّية التي تصفها رئيسة قسم الصحافة في "المفكرة القانونية" سعدى علوه بعملية "تقنين الحواس، فالصحافي يعتمد على حاسّة النظر لأجل أنسنة مواضيعه وإغنائها، أما اليوم فهو يعتمد بشكل كبير على السمع والنطق لتأمين المعلومات عبر الهاتف". وتضيف، "اليوم رغم أنّه مسموح لنا التجوّل ولكن ثمّة أماكن لا يمكننا التجوّل فيها بأمان، مثل الأماكن الشعبية المكتظّة التي تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى متابعة صحافية ميدانية نظراً إلى ارتفاع حدّة الفقر وزيادة أعداد العاطلين عن العمل".

تعتبر الدهيبي أنّ تراجع تواجد الصحافي على الأرض أثّر على المواضيع التي تحتاج إلى عينه لوصف ما يحدث. ولكنها تؤكّد أنها تحاول قدر المستطاع أن تؤمن المشاهدات في المواضيع التي تطرحها بخاصة أنّ المعاينة الحسّية مطلوبة لأجل التدقيق في صحّة بعض المعلومات التي تنتشر. وتقول إنها قبل أيام اضطرّت للنزول إلى الشارع بعد انتشار معلومات بأنّ الأسواق في طرابلس تشهد اكتظاظاً. وتضيف "كان عليّ معاينة الأمر عن قرب عبر التجوّل في الشوارع. فلا يمكنني كتابة تقرير إذا لم أر بعيني"، وتطلّب ذلك منها اتخاذ أعلى درجات الحيطة والحذر مخافة تعريض نفسها لخطر الإصابة بالفيروس.

وبما أنّ الصحافة مهنة تحتاج إلى شغف فإنّ العمل من المنزل قد يؤثّر على هذا الجانب، وتوضح علوه أنّ "الصحافي كغيره موجود في منزله، يحاول قدر المستطاع الاستمرار بالإنتاج ولكن هذه المهنة غير روتينية مليئة بالشغف، وفي هذه الظروف خسر الصحافي الكثير من الأدوات التي تميّز عمله وتعطيه الحوافز على الإنتاج". كما أنّ العمل من المنزل ليس سهلاً لجميع الصحافيين فبحسب الدهيبي "ليست كل المنازل مهيئة لتكون بيئة مساعدة على العمل. ونحن نبذل مجهوداً إضافياً للتركيز، ولإيجاد بيئة مساعدة إن كان لإجراء الاتصالات أو لضمانة الجو المناسب للعمل".

ماذا عن المصوّرين؟

تركت بعض الوسائل الاعلامية للمصوّر الصحافي حرية اختيار النزول إلى الشارع للتصوير مع تأمين وسائل الحماية المطلوبة من كمامات ومعقمات وكفوف وكل ما يلزم لإتمام المهمة الصحافية، حتى أنّ هناك وسائل إعلام أخرى طلبت منهم عدم النزول نهائياً. ولكنّ الواقع أنّ المصوّر الصحافي ليس كالمراسل أو الصحافي، إذ لا يمكنه العمل من المنزل بل يحتاج إلى التجوّل في الشوارع لتأمين المادة الصحافية المطلوبة.

يتحدث المصوّر مروان طحطح عن النزول إلى الشارع في فترة انتشار فيروس كورونا قائلاً: "أشعر بحذر لا بدّ منه، لكن لا يمكنني البقاء في المنزل، أشعر بضرورة وجودي في الشارع لأنّي بتّ أرى المدينة بطريقة مختلفة، أصبحت أرى ما كان غير مرئي في الأوقات السابقة".

ويرى طحطح أنه "يجب على الصحافي أن يكون دائماً على الأرض حتى في الظروف الصعبة". في المقابل، فإن يتعين على الصحافي برأيه "ألا يجازف بالتصوير في الأماكن الحساسة إن لم يكن يتمتع بالاجراءات الحماية المطلوبة". ويلفت إلى أنه "لربما إن اشتدت الظروف أكثر عندها ربما سيقتصر الأمر على المحيط الذي أعيش فيه".

ويؤكد المصوّر الصحافي حسين بيضون بأن الجريدة التي يعمل فيها "طلبت منّا ألّا ننزل نهائياً إلى الشارع، إلّا أنّه يؤكد أنه لا يزال يشعر بضرورة النزول إلى الشارع والاستمرار بالتقاط الصّور. 

اليقظة والوعي مطلوبان لمواصلة المحاسبة

سرق انتشار فيروس كورونا الأضواء من قضايا أخرى كثيرة كانت تحظى بمتابعة من الصحافيين. وتوضح علوه أنّ "كورونا أثّر على نوعية القضايا التي يمكنك طرحها، فتجدين نفسك مسجونة بالقضايا التي لها علاقة بكورونا والتي تحصل على هامشه". وتشدد علوه على أهمية تحلّي الصحافي اليوم باليقظة لعدم جعل كورونا يحدّ من طريقة طرحنا للقضايا المرتبطة بالحقوق مثل الصّرف التعسّفي الذي يحصل اليوم من قبل مؤسسات كبيرة جنت أرباحاً طائلة على مرّ السنوات وهي اليوم تقوم بصرف موظّفيها بحجّة التوقف عن العمل بسبب كورونا. كما حذّرت من أنّ "معاييرنا للمحاسبة أصبحت تُقطّر فالدولة تقصّر وترتكب انتهاكات لحقوق الناس والحقوق الأساسية وتمرّر قضايا كثيرة وكبيرة بحجّة مكافحة كورونا" وبالتالي فالوعي ضروري أيضاً والأخلاقيات المهنيّة "لنعرف ما الذي يحقّ للدولة أن تقوم به اليوم وما الذي يعتبر انتهاكاً وألاّ نبرر لها أي انتهاك بحجّة مكافحة كورونا".

وتحذّر الدهيبي في السياق نفسه بأنّ "هناك من ينتهز الفرصة من الإعلاميين لإعادة تعويم السلطة والمصارف التي انتفض ضدها الشعب اللبناني، لذلك من الضروري أن تبقى قضايا الناس تحت عين الإعلام المسؤول".

الصحافة الاستقصائية تواجه صعوبة في الوصول إلى المعلومات

جانب آخر من الصحافة يواجه تحدّيات لتأمين استمرارية العمل، نتكلّم هنا عن الصحافة الإستقصائية التي شكّلت خلال انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 مادّة هامّة للرأي العام اللبناني. يؤكد رئيس وحدة التحقيقات الاستقصائية في تلفزيون الجديد رياض قبيسي أنّ الفقرات المرتبطة بالفساد التي اعتاد تقديمها برنامج "يسقط حكم الفاسد" انخفضت من ثلاث فقرات إلى فقرتين وأحياناً فقرة واحدة. وتم إعطاء مساحة لطرح قضايا تتضمّن جانباً مرتبطاً بالمساءلة ولكن على هامش كورونا، مثال الوضع المعيشي وعودة المغتربين ورواتب موظفي مستشفى رفيق الحريري.

اليوم بحسب قبيسي، التحدّي الذي تواجهه الصحافة الاستقصائية ذو وجهين:

الأوّل تقني، "وذلك بفعل تراجع توفّر المعلومات لتحقيق استقصائي والتي تعتمد على مصادر أساسية. أبرزها المستندات التي توثّق القضية المطروحة"، لافتاً إلى تعثّر الوصول للمستندات بسبب الإغلاق المستمر لبعض إدارات الدولة. ففقرة الكشف عن عقارات السياسيين توقّفت مؤقتاً، إلى حين إيجاد حل مع الدائرة المعنيّة لتؤمّن المستندات والتي تتطلّب أن يتوجّه أحد الموظفين إلى الدائرة ليحضّر المستندات. المصدر الثاني الذي يتحدث عنه قبيسي هم "كاشفو الفساد أو من يُعرفون بالـ  Whistle Blowers" (غالباً يكونون إما موظفين في الإدارات أم شهود على فساد)، هؤلاء "تراجعت بشكل كبير الاتصالات التي ترد منهم"، مشيراً إلى أنّ "المرحلة الراهنة غيّرت من أولويّاتهم".

 وبالطبع ولاستكمال التحقيق فإن ذلك يحتاج للتغطية الميدانية، والتي تعد أداة هامة لاستكمال التحقيق فهي غير متوفرة اليوم "لأنّ الحركة الميدانية شُلت بالكامل، ما يجعل إمكانية تأمين المعاينة الحسية أو التصوير السري الذي عادة ما يُستخدم في التحقيقات عملية غير قابلة للتحقّق في الوقت الراهن".

الشق الثاني الذي أثر على عرض التحقيقات الاستقصائية يرتبط بالرأي العام في البلاد، إذ تعيّن على البرنامج إرجاء بعض المواد لعدم تناسبها مع المزاج الشعبي اليوم كما كان الوضع أيام الانتفاضة. ويشرح أن "التحقيقات الاستقصائية هي مواد بذلت جهود لإنتاجها على مدى زمني طويل، قد يتخطى السنّة أحياناً. لذلك، ولإعطاء المعلومات حقّها وضمان وصولها للرأي العام يتعيّن إيجاد الوقت المناسب لعرضها".

كورونا يحوّل أولويات الصحافة الرياضية والثقافية

ثمة مبحث آخر لتأثيرات فيروس كورونا على الصحافة، وهو توقف التغطيات الصحافية المرتبطة بالأنشطة الحية، كالأنشطة الرياضية كما الثقافية. ويشرح رئيس تحرير مجلة Super 1 الصحافي الرياضي ابراهيم الدسوقي، بأنّ "انتشار الفيروس على نطاق واسع أدى إلى إلغاء معظم النشاطات الرياضية حول العالم إن كان محليّاً أو أوروبياً وآسيوياً، وهو ما حوّل أولويّات الصحافة الرياضية إلى كل ما هو خلف المشهد مثل مواضيع تتعلّق بالتحضيرات للأنشطة الرياضية المقبلة، أو أخرى تتعلّق بإدارة الأندية الرياضية، أو إصابة لاعب بفيروس كورونا".  

ويخشى الدسوقي من ارتدادات اقتصادية على الصحافة الرياضية كأن تلجأ المؤسسات الإعلامية إلى الاستغناء عن الأقسام الرياضية فيها وبالتالي خسارة صحافيين لوظائفهم. ويشير إلى أنه "جرت العادة عندما تلجأ المؤسسة إلى صرف موظفين بحجة الضائقة المالية، أن يكون الصحافيون في أقسام الرياضة هم أول المصروفين".

بموازاة الرياضية توقفت الأنشطة الثقافية مع إغلاق المسارح وصالات المعارض والمتاحف وغيرها من المؤسسات الثقافية. يقول الصحافي حسن الساحلي، بأنّ "توقّف الأحداث الثقافية ارتد تراجعاً في المواد الصحافية التي تغطّي هذه الأحداث". ولكنّه لفت إلى أنّ "مجال الثقافة واسع ويمكّن الصحافي من الاستمرار بالإنتاج المهني في مواضيع مختلفة". وهو أمر أيّدته الصحافية نبيلة غصين التي لفتت إلى أنّ "هناك العديد من المواضيع الثقافية التي يمكن الكتابة عنها". وتؤكّد أنّ "الثقافة تدخل في كل شيء في يومياتنا، وصحيح أنّ المجال تأثّر بسبب توقّف التغطيات للأنشطة الثقافية إنما دائماً هناك مجال للابتكار".

ويحذّر الساحلي بدوره من أنّ "المؤسّسات الفاعلة في مجال الفن المعاصر غالباً ما تتّكل على التمويل الخارجي أو التبرّعات، لذلك إذا ما استمرّ الوضع على حاله فإن المموّل قد يرى أنّ هناك أولويات أخرى لتمويلها، فالممول أيضاً قد تضررت مصالحه بسبب كورونا" بحسب تعبيره.

ماذا عن الصحافيين المستقلّين (Freelancers

يشكّل الصحافيون المستقلّون شريحة كبيرة من الصحافيين في لبنان لأسباب عديدة أبرزها إغلاق العديد من المؤسسات الإعلامية في السنوات الأخيرة وصرف مؤسسات أخرى لموظّفيها. هذه الشريحة يرتبط دخلها بما تنجزه من مواضيع. يواجه هؤلاء عدداً من المشاكل تفاقمت مع الأزمة الاقتصادية واليوم مع انتشار كورونا. المشكلة الأولى هي تقييد تحرّكاتهم على الأرض لإنجاز المواضيع وبالتالي تراجع مداخيلهم بشكل كبير. ولا يقتصر تقييد تحرّكاتهم بخوفهم فقط من التعرّض لخطر الإصابة بل نتيجة عدم حيازتهم البطاقة الصحافية التي تجعلهم قادرين على التجوّل أسوة بالصحافيين الآخرين الذين يستثنيهم قرار حظر التجوّل.  

المشكلة الثانية التي تلفت إليها الصحافية لارا بيطار هي أنّ "بعضاً من الصحافيين المستقلّين غير قادرين على تقاضي لقاء تعبهم لأنّهم يحصلون على شيكات مصرفية بسبب تعذّر حصول المؤسسات الإعلامية على السيولة". المشكلة الثالثة بحسب الساحلي، هي "عدم تمتّع الصحافيين المستقلّين بالتغطية الصحّية والأهم عدم تمتّعهم بالحماية القانونية في حال تعرّضهم لأي انتهاك لعدم انتمائهم إلى نقابة".

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، الحق في الصحة والتعليم ، حقوق العمال والنقابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني