“كنّا غير مرئيين نعيش رعبنا وحدنا”: شهادات سكّان لم يُغادروا الضاحية الجنوبيّة خلال الحرب 


2025-03-24    |   

“كنّا غير مرئيين نعيش رعبنا وحدنا”: شهادات سكّان لم يُغادروا الضاحية الجنوبيّة خلال الحرب 

في السابع والعشرين من شهر أيلول الماضي، وتحديدًا عند الساعة الحادية عشرة وست دقائق، كان سكّان الضاحية الجنوبيّة لبيروت على موعد مع أوّل إنذار لهم بالإخلاء. إنذار جاء بعد ساعات من غارات إسرائيليّة عنيفة اغتالت أمين عام حزب الله حسن نصرالله. كانت الدقائق التي تلت ذلك الإنذار – الذي لحقه أيضًا بعد ساعات (الساعة 3 من صباح يوم 28 أيلول) إنذار آخر -، مفصليّة بالنسبة لسكّان الضاحية، فحينها شعر هؤلاء، مع من قصدوها من نازحين من الجنوب والبقاع، بأنّهم ما عادوا بأمان، فغادر معظمهم بيوتهم، حتى قيل يومها إنّ الضاحية الجنوبية فرغت من سكّانها.

شعور الأهالي بعدم الأمان جاء بداية من أنّ الإنذارات وما تلاها من غارات استهدفت مناطق لم تستهدف في الحروب السابقة مثل أحياء في منطقة الليلكي والحدث وبرج البراجنة، ومن أنّ الغارات التي تلت هذين الإنذارين استهدفت مبانٍ ومناطق تجاوزت حدود المنطقة المحدّدة فيهما. وعلى الرغم من ذلك لم يكن قرار مغادرة الضاحية الجنوبيّة في ذلك اليوم قرارًا بالنزوح لحين انتهاء الحرب بالنسبة لعدد من العائلات، فبعضهم عاد إلى منزله في اليوم التالي مع خطّة للتعامل مع الإنذارات تمامًا كما فعل أبو محمد الذي بقي في حي السلّم مع زوجته، ليعتادا بعدها إلى اعتماد كورنيش الرملة البيضاء ملاذًا لهما مع كلّ إنذار أو تصاعد في حدّة الضربات. كانا يجلسان في السيّارة لساعات ومن ثمّ يعودان إلى منزلهما في حيّ السلم “فهو ابن الـ 60 عامًا والمولود في الحي، يفضّل أن يبقى في بيته”. ومنهم من لم يتمكّن من الاستمرار بالنزوح فعاد مجبورًا إلى الضاحية بسبب عدم وجود خيار آخر، تمامًا كمريم التي قصدت بيت إحدى قريباتها لأيام بعد 27 أيلول لتعود بعدها إلى بيتها “البيت الذي قصدته صغير وفيه أكثر من ثلاث عائلات، والقعدة عند الناس صعبة، وأنا لا أستطيع تحمّل بدل الإيجار” تقول.

65 يومًا من الحرب الإسرائيليّة على لبنان استهدف خلالها الطيران الحربي الإسرائيلي الضاحية الجنوبيّة بمئات الغارات. غارات هزّت منزل مريم وأبو محمد كما هزّت منازل عائلات بقيت في الضاحية التقت بهم “المفكرة القانونيّة”. عائلات أخبرتنا عن معنى أن تكون لا تُجيد قراءة خرائط قد يكون منزلك ضمنها، وأن تغفو قليلًا وتصحو بعدها على إنذار وصل لمبنى ملاصق لبيتك لتبدأ تحسب فرص النجاة وتبحث عن أدواته. عائلات أخبرتنا عن ترتيبات لأيام الحرب كالجلوس في غرفة يحسبونها أكثر أمانًا، ووضع الوسائد على الشباك خوفًا من تطاير الزجاج، وعن هدير طيران وصواريخ لن يُمحى من ذاكرتهم السمعيّة، والأهم عن شعورهم بأنّهم غير مرئيين خصوصًا بعد إفراغ الضاحية من معظم سكّانها. كلّ ذلك وسط غياب لأيّ نوع من الدعم من قبل الجهات المعنيّة لتظهر تلقائيًّا أنواع من التضافر الاجتماعي، كأن يجلس من بقي في الحي سوية لقراءة الخرائط أو تقرّر إحدى الدكاكين فتح حسابات دين لمن بقي لأجل غير مسمّى، أو أن يخرج من بقي من السكّان بعد الغارات للاطمئنان على بعضهم البعض صارخين بـ “فرح” “نجونا!”.

بلغ عدد الضربات المعلنة (غير الضربات غير المعلنة) التي استهدفت الضاحية بحسب “مختبر المدن”  279 وذلك منذ 27 أيلول 2024 حتى دخول إعلان وقف إطلاق النار في 27  تشرين الثاني حيّز التنفيذ. ودمّرت هذه الضربات  حوالي 361 مبنى على الأقل. وبلغ متوسّط هذه الضربات، حسب المصدر نفسه،  4,5 ضربات يوميًا، وكان أعنفها ليل إعلان وقف إطلاق النار إذ شهدت الضاحية في ذلك اليوم 34 ضربة معلنة.  

“كنّا تحت الضرب، فكيف لا أخاف، إذا لم أخف على نفسي فعلى حفيديّ الصغيرين، كانا يُكرّرا أفيخاي يا تاتا، سيضربون يا تاتا، ضربوا يا تاتا”

على مدخل إحدى دكاكين حيّ الهباريّة في حي السلم، التقينا مريم بينما كانت تشرب القهوة مع جيرانها، وما أن سألناها عن الأيام التي قضتها في هذا الحي خلال الحرب، حتى نظرت، وربما من غير قصد، إلى السماء حيث لا تزال المسيّرة الإسرائيليّة تُحلّق. تصمت قليلًا، نظنّ أنّها تحاول استذكار تلك الفترة ولكنّها سرعان ما تُجيب في ما يبدو لها اختصارًا لقصّتها “حطّيت جاطات اليوم، تحسبًا للعاصفة غدًا، سقف بيتي وحيطانه تشقّقت، فقد اهتزّت كثيرًا خلال الحرب واهتزّينا معها”.

في 27 أيلول وفي المكان نفسه الذي تجلس فيه مريم كان الحي يزفّ عروسًا ألغت حفل زفافها بسبب الحرب التي كانت توسّعت منذ أيام واكتفت بزفّة لم تكتمل. فأصوات الغارات غطّت يومها على كلّ فرح، وفجأة تحوّل المشهد من زفّة إلى عائلات تركض هربًا وزحمة ناس ودرّاجات نارية وصراخ وبكاء أطفال. غادر الناس الحيّ، ومعهم غادرت مريم. 

“غادرنا على وجه السرعة ركضًا، لم نأخذ معنا شيئًا، قصدت بيت إحدى قريباتي، كان البيت صغيرًا وفيه أكثر من ثلاث عائلات، والبقاء عند الناس صعب جدًا، فعدت إلى منزلي بعد أيّام، وبقيت أنا وبيت عمّي وابنتي وحفيدي في هذا الحي”، تقول.

تصف مريم الأيّام التي قضتها في الضاحية خلال الحرب بالصعبة جدًا، ولاسيّما مع وجود حفيديها (أربع وتسع سنوات)، واللذين كانت تُحاول وأمهما حمايتهما ضمن المُتاح مع شعور يُرافقها بأنّ لا أحد يرى أنّ هناك أناس باقون في الضاحية. مع كلّ إنذار لمنطقة تعتبرها قريبة، كانت مريم تجمع عائلتها في الغرفة التي عدد شبابيكها أقل، تحرص على ابتعاد العائلة ولاسيّما الحفيدين عن الزجاج. تُحاول إلهاء الصغيرين بينما تعدّ الضربات وتقارنها بالإنذارات. لم تكن تنجح دائمًا في إلهاء حفيديها، فالأمر كان مستحيلًا مع صوت الصواريخ والطيران، يُضاف إليهما صوت الغارة في بعض الأحيان، كما بات مفهومًا للطفلين أنّ دخول الغرفة يعني ضربات قريبة. “ماذا أتذكّر لأتذكّر، أتذكّر الخوف، كنّا تحت الضرب كيف لا أخاف، إذا لم أخف على نفسي فعلى حفيديّ الصغيرين اللذين كانا يُكرّرا أفيخاي يا تاتا، سيضربون يا تاتا، ضربوا يا تاتا” تقول.

لم يكن هذا الخوف الذي تستذكره مريم اليوم، مؤقتًا، أي يرتبط بوقت الإنذارات والغارات التي تليها، بل كان حال دائمة تهدأ للحظات تصفها مريم بلحظات أخذ النفس “كنّا نأخذ نفسًا للحظات بعد انتهاء غارات الإنذارات وتطابقها، نخرج على الشرفات نصرخ للجيران الباقين، لم نتجاوز 5 أو 6 عائلات، نطمئنّ على بعضنا البعض، كنّا نبدوا سعيدين لأنّ الضربة خلصت ونحن على قيد الحياة، فرحة تُشبه الشعور بالأمان المتاح حينها، كنّا ناخد روح بفكرة نجاتنا معًا”.

ليس الخوف وحده ما جعل تلك الأيام صعبة على مريم وعائلتها فضيق الحال نفسه الذي لم يُمكّنها وعائلتها من الحصول على مأوى آمن، كان عبئًا ثقيلًا ولاسيّما أنّ “الحرب أشدّ قساوة على الفقراء، وعلى المنسيين أصلًا أيام السلم”. توقف زوج مريم، وهو موظف أمن في إحدى الشركات، عن العمل خلال الحرب، فالطريق إلى مكان عمله لم يكن آمنًا، ولا مواصلات وهو لا يملك سيّارة، فكان يتقاضى نصف الراتب الذي كامله بالكاد يكفي للاحتياجات الرئيسيّة. كان من تبقّى في الحي يؤمّن الاحتياجات الرئيسيّة من دكّان كان يفتح لبعض ساعات نهارًا أو من سوق حيّ السلّم الذي كان يُبسّط فيه ولساعات أيضًا في بعض الأيام باعة خضار. ولكنّ الاعتماد الأكبر كان على المعلّبات وبعض مؤنة البيت من عدس ومعكرونة. فحتّى لو وجدت محال قريبة “لا أحد يعرف متى تنتهي الحرب، وتدبير الأمور يجب أن يكون بالحدّ الأدنى”. كانت مريم تعتمد وكما تُخبرنا على “الحواضر، الحمدالله مرّت الأيام على خير، كان في برغل ومعكرونة مرّات بلحمة ومرات أكثر بلا لحمة، معلّبات، وإذا مرض أحدنا وبخاصّة الأطفال يُعطى من الموجود كالبنادول مثلًا” تقول. 

في 27 تشرين الأوّل تاريخ بدء سريان إعلان وقف إطلاق النار، انتظرت مريم جيرانها الذين عادوا في ساعات الصباح الأولى فردّوا للحي ولها الروح، الروح التي ظنّت ليلًا بأنّها لن تنجو أبدًا. فتلك الليلة شهدت فيها الضاحية الجنوبية أعنف الغارات وأكثرها رعبًا “كنّا نصلّي حتى لا نموت في الليلة الأخيرة، لم نعد نعرف أين الضربات ولا عددها”. 

“يبدو أنّه كان شيئًا مخيفًا، الآن وبعد مرور أشهر على انتهاء الحرب أسأل نفسي كيف كنت أنام في منزلي، كيف كنت أفتح المحل هنا في حي السلّم، صوت الطيران لا يفارقني” 

“كنت أقف على الشرفة أراقب الحي فارغًا إلّا من مئات القطط. كانت تنتظرني كلّ يوم لأطعمها وأضع لها المياه على مدخل المبنى. عندما كنت أرى دخانًا كنت أعرف أنّ الضربة استهدفت الشيّاح أو حارة حريك، وإذا سمعت صوت الضربة فهي بالتأكيد على الكفاءات أو المريجة أو برج البراجنة. صوت الطيران حين يدخل ليُغير كان مرعبًا، غير قابل للوصف، مخيف يحبس الأنفاس، نجونا ولا أعرف كيف نجونا”.

هكذا يُلخّص فادي صولي ابن الضاحية الجنوبيّة الذي لم يُغادرها طوال فترة الاعتداءات الإسرائيليّة، المشاهد العالقة برأسه من تلك الفترة. الفترة التي قضاها بين منزله القائم في حي الأجنحة الخمسة وبين حي السلّم حيث محلّ بيع الألبسة الذي يملكه، وحيث لم يبق في السوق خلال الحرب غير 3 أشخاص: هو وبائع أحذية وصاحب مقهى (إكسبرس)، وفي بعض الأحيان شخصان يبسّطان لبيع الخضار. 

خلال كلامه عن يومياته في الضاحية خلال الاعتداءات الإسرائيليّة، يتوقّف صولي فجأة عن الحديث، وكأنّه يستعيد للمرّة الأولى تلك الأحداث: “يبدو أنّه كان شيئًا مخيفًا” يقول ويُضيف: “الآن وبعد مرور أشهر على انتهاء الحرب أسأل نفسي كيف كنت أنام في منزلي، كيف كنت أفتح المحل هنا في حي السلّم، صوت الطيران لا يفارقني”.

يروي صولي كيف نجا من غارة سبقها إنذار لم يعرف به لأنّه كان نائمًا. فقد استيقظ من نومه عند حوالي الثانية والنصف ليلًا ليرى الإنذار قد وصل قبل نصف ساعة لمبنى لا يبعد أكثر من 150 مترًا عن المبنى حيث يسكن. لا يعرف وكما يُخبرنا، كيف كان مقتنعًا أنّه لا يزال أمامه 10 دقائق “لم أكن أحسب سابقًا المدّة الفاصلة بين الإنذار والضربة، ولكنّني كنت على يقين أنّني لا زلت أملك 10 دقائق و10 دقائق فقط كي أنجو” يقول.

نزل صولي سريعًا الدرج وكان الشارع فارغًا كليَّا والظلام دامس، حدّد سريعًا في رأسه الطريق والوجهة اللذين اعتبرهما الأكثر أمانًاـ إلّا أنّ مسألة واحدة لم يحسمها: هل يضيء مصابيح السيّارة أم سيعرّضه ذلك للخطر. “حين دخلت السيّارة ارتبكت، هل أضيء المصابيح أم لا، هل إضاءتها ستعرّضني إلى الخطر والاستهداف، ولكن كيف سأتبيّن الطريق، أضأتها في النهاية وتوجّهت إلى جسر خلدة حيث تنفسّت الصعداء”.

كانت وجهته حينها البيت الذي نزحت إليه عائلته في منطقة الدبيّة إلّا أنّه خاف أن يُقلقهم، فعاد أدراجه إلى الشويفات حيث ركن السيّارة تحت شجرة، وأقفل أبوابها لينام حتى الخامسة والنصف صباحًا. “لم أسمع الضربة ولكن حين عدت إلى المنزل رأيت المبنى الملاصق متضرّرًا بشكل كبير، ولا باب خارجيًا لبيتي، والزجاج متطاير في كل مكان وجدار قد سقط على الأرض، وهذه الليلة الوحيدة التي هربت فيها لأنجو وعدت من جديد”.

صحيح أنّ صولي هو من اختار البقاء في الضاحية إلّا أنّه كان مضطرًا أيضًا، فالبيت المستأجر حيث كانت عائلته كان يستضيف أكثر من عائلة وتحديدًا أطفالًا ونساء “فكان من الأنسب ألّا يبقى هناك” كما أنّه أراد أن يفتح محلّه أملًا في عدم توقف الدخل ليسند عائلته. “السوق في حيّ السلّم كان شبه فارغ، ولكنّ بعض الزبائن كانوا يقصدونه ظنًّا منهم أنّه لم يقفل، وكانت بعض العائلات المعتادة على شراء حاجاتها من الضاحية تقصد السوق، فهو الأكثر أمانًا بين أسواق الضاحية، بخاصّة العائلات التي لم تستطع إخراج ثيابها وثياب أولادها من المنزل” يقول.

يخبرنا عن حال السوق أيام الحرب، كيف أقفلت المحال تدريجيًّا حتى بات فارغًا إلا من 3 محال بعد 27 أيلول. “سكتت أصوات الباعة، توقّفت حركة المتسوّقين، وهدأ السوق الذي لم يهدأ، وحدها أصوات الطيران وإطلاق الصواريخ والغارات كانت عالية” يقول.

كان صولي يفتح أبواب محلّه من الثامنة صباحًا حتى الثالثة بعد الظهر، إذ عادة ما كانت فترة قبل الظهر الأكثر هدوءًا، إلّا أنّ هذا لا يعني أنّه لم يضطرّ مرّات إلى إقفال المحل على عجل، مثلما حصل معه خلال إحدى الضربات التي استهدفت منطقة تحويطة الغدير: “شعرت أنّ المحلّ خرج من مكانه وعاد، كان هناك زبون في المحل ركضنا إلى الخارج أقفلت المحلّ، كان الأمر مرعبًا”.

في ذلك اليوم عاد صولي إلى منزله حيث كانت الساعات تمرّ بطيئة وقاسية “كان في كهربا، بس ما في ستالايت، ما كنت دوّر التلفزيون، كنت أتفقّد منازل أقاربي وجيراني الذين تركوا معي مفاتيح منازلهم، أحمل من بعضها أغراضًا أوصوني أن أحضرها لهم، ثمّ أطعم القطط التي باتت تلحقني إلى المنزل، أقفل الباب وأنام من الساعة السابعة، أنام في غرفة أطفالي لأنني ظننتها الأكثر أمانًا وللمفارقة هي التي تضرّرت يوم ضربوا المبنى المجاور، أصحو مرّات على صوت القصف ومرّات أصحو لأجد أنّني نجوت من قلق كان سيسببه إنذار في منطقة قريبة، انتهت الحرب ولا أعرف إن نجونا فعلًا”.

“الوقت كان يمرّ على مهل، محمّل بأثقال الخوف ووطأة تأمين الاحتياجات وما يلزم للعيش وفي المقابل عليك أن تفعل كلّ شيء بسرعة، تأكل بسرعة تُصلّي بسرعة، وتركض بسرعة حين تسمع الضربة وكأنّ السرعة ستنجّيك”.

على بعد أمتار قليلة من محل فادي، يستذكر حسن حرب الذي لم يترك سوق حيّ السلّم حيث يملك مقهى “إكسبرس” ومحل بيع أدوات تنظيف تحت منزله، لحظات كثيرة من الحرب. ولكنّ اللحظات التي لا تُنسى بالنسبة له هي لحظات كانت ترتفع فيها أصوات الصواريخ. “صوت الصواريخ أقوى من صوت الغارات، حين ينطلق الصاروخ يخرج صوتًا ترتجف معه المباني، تهتز كلّها، تشعر أنّه يمرّ فوق رأسك ويسحبك، صوت الصاروخ والطيران أقوى من صوت الغارات، أصوات أقلّ ما يُقال عنها إنّها مرعبة”.

لم يترك حسن لا هو ولا عائلته حيّ السلّم إلّا لأيّام قليلة بداية الحرب، استأجر خلالها في منطقة عرمون إلّا أنّ ارتفاع بدل الإيجار (500 دولار) وكلفة تأمين المياه، فضلًا عن بعض المضايقات التي تعرّضت لها عائلته، أجبرتها على العودة. “وحده البقاء في منزلنا يضمن لنا كرامتنا، في حرب تموز نزحنا خارج الضاحية، بعد أيام أخرج صاحب المنزل عائلتي وعائلة أخي بحجّة أنّه لا يسمح بوجود أكثر من عائلة، حينها كان عمر ابني الصغير سنة، اليوم استأجرت أيضًا، وأيضًا المضايقات نفسها أعادتنا وعمر ابني 19 عامًا هذه المرّة” يقول. 

يصف حسن أيّام الحرب بالبطيئة الرازحة تحت أثقال الخوف ووطأة تأمين الاحتياجات وما يلزم للعيش و”في المقابل عليك أن تفعل كلّ شيء بسرعة، تأكل بسرعة، تُصلّي بسرعة، وتركض بسرعة حين تسمع الضربة، وكأنّ السرعة ستنجيّك” يقول. ويُكمل ليمرّ سريعًا على ليال ونهارات كثيرة بدت وكأنّها لن تمر، ويتوقّف بعدها عند ليلة اغتيال الأمين العام السابق لحزب الله هاشم صفي الدين فالأصوات التي سمعها كانت الأكثر رعبًا واهتزاز بيته جعله يشعر بأنّه وعائلته لن ينجوا. “اهتز المبنى وكأنّه غربال، نزلنا مسرعين على الدرج وهو يهتز أيضًا، لا أعرف كيف التقطت ملابسي ووضعتها على الدرج، لا أعرف كيف وصلت إلى المدخل، كيف لم ينهَر المبنى، هذه أكثر الليالي رعبًا”. ما إن يُنهي حسن الحديث عن تلك الليلة حتى يقول بما يُشبه الاستدراك “أيضًا الليلة التي ضربوا فيها مؤسسة القرض الحسن، هنا بالقرب من موقف حي السلّم، كانت مرعبة”. فحوالي التاسعة من مساء 20 تشرين الأول وجهت إسرائيل إنذارات إلى أفرع مؤسسة القرض الحسن من دون أن تُحدّد منطقة معيّنة، ومنزل حسن يبعد 170 مترًا عن أحدها. جلس وعائلته ينتظر الضربة وفجأة سمع أصوات أناس في الشارع فأطلّ من الشباك ليخبر المارين أنّ هناك تهديدًا ولكنّه سرعان ما فوجئ بعصف حمله إلى الداخل ورماه أرضًا “هرّ جزء من بلاط جدران المطبخ،  فتح باب البيت الأساسي، ولكننا نجونا”. 

مع مرور الأسابيع الأولى للحرب، وكما يُخبرنا حسن، بات هناك ما يُشبه الروتين، هدوء نسبي قبل الظهر وإذا ما بدأت الغارات، ركض إلى أقرب مكان أو حائط “نلطي فيه” أمّا ليلًا فغالبًا ما كان يصحو وعائلته على صوت رصاص تحذيري، فيتفقّد مكان الإنذارات وعددها وبعدها “إمّا ننام خاصة إذا بعيدة، أو نسهر نعدّ الضربات وعند انتهائها نعود للنوم”.

حرص حسن على فتح “الإكسبرس” بشكل يومي وهو ما كان يُساعده على تأمين مصروف عائلته “لا أعلم كيف كان الله يدبرها، كان هناك الكثير من الشبّان ولاسيّما قبل الظهر يأتون ويأخذون القهوة، حتّى أنّي حين انقطعت من دوائي وأنا أعاني من السكري وأمراض بالقلب، تكفّل أحد الشبّان من الزبائن بتأمينها، أحضرها لي من خارج الضاحية، مضت على خير، الله يسّرها” يقول. 

“يبدو الأمر كأنّه اجتماع عاجل، يتجمّعون يفتحون الخريطة يقتنعون بقراءة أحدهم لها، بالقراءة التي تبدو بالنسبة لهم الأقرب إلى المنطق، وبعدها يحدّدون المسافة التي تبعد عنهم، دونما أن يكون لأحد منهم خبرة أو معرفة في قراءة الخرائط”. 

في دكّانها، دكّان حبيبة، كما يعرفه أهالي الحي في الرمل العالي في برج البراجنة حيث أمضت معظم وقتها طيلة أيّام الحرب، تقف حبيبة تستلم بضائع من التجّار وتلبّي احتياجات زبائنها. تضع نظّاراتها الطبيّة وتدوّن على دفتر كل خارج وداخل للدكّان. “هذا الدفتر شاهد على من بقي من عائلات قليلة في الحيّ خلال الحرب” تقول. وتُكمل لتخبرنا أنّ من بقي في الحي خلال الحرب تمامًا كما هي، تُركوا وحيدين وغير مرئيين، فأعمالهم توقّفت ولا مساعدات كانت تصلهم، فقرّرت أن تفتح على هذا الدفتر حسابات دين إلى أجل غير محدّد، ربما لما بعد الحرب أو حتّى يعود هؤلاء إلى أعمالهم. “كنت أفتح مجالًا للدين للاحتياجات الأساسيّة مثل زيت عدس وشاي ومعلّبات كالسردين والفول، بعضهم دفع لي بعد أسابيع من انتهاء الحرب وبعضهم لم يدفع حتّى اليوم، وتراوحت قيمة حسابات الدين بين مليونين وخمسة ملايين ليرة”.

خلال الحرب وعلى الرغم من وجود خيارات من أقارب تستطيع النزوح إلى منازلهم، اختارت حبيبة أن تبقى في منزلها فوق دكّانها، فبالنسبة لها “لا يرتاح المرء إلّا في بيته والحي الذي اعتاد عليه” وإذا أرادت يومًا ترك الضاحية “فبالتأكيد إلى قريتها في الجنوب”. 

تذكر حبيبة من أيّام الحرب الجلسات اليوميّة الطويلة حيث كان من بقوا في الحي يجتمعون في دكّانها. يستمعون إلى الأخبار ويشربون القهوة. كما تذكر كيف كانوا يطمئنّون على بعضهم البعض بعد كلّ ضربة “كنّا نصرخ لبعضنا البعض بعد الضربات ونطمئن، وكأنّنا كنا نقول نجونا هذه المرة، كنّا نعدّ الضربات نقارنها مع الإنذارات من حيث العدد، لنقول انتهينا الآن بانتظار جولة أخرى”. ولعلّ شرّ البليّة وما يُضحك هي اجتماعات هؤلاء وقت الإنذارات ولاسيّما تلك التي تبدو قريبة. إذ تروي حبيبة كيف كان يبدو الأمر كأنّه اجتماع عاجل، يتجمّعون يفتحون الخريطة، يقتنعون بقراءة أحدهم لها، بالقراءة التي تبدو بالنسبة لهم الأقرب إلى المنطق، وبعدها يحدّدون المسافة التي تبعد عنهم، دونما أن يكون لأحد منهم خبرة أو معرفة في قراءة الخرائط. 

وما كان يزيد الطين بلّة، حسب حبيبة، هو استخدام العدو الإسرائيلي أسماء للأحياء تختلف في بعض الأحيان عن الأسماء المعروفة لدى سكّانها “نحن نحفظ هذا الحي والمنطقة، وعشنا فيه لسنوات، وحين وضع العدو اسم شارع خديجة همدر لم نعرف أي شارع يقصد، وهو هنا  قريب منّا نحن نعرفه بحي جامع العرب” تقول.

صحيح أنّ حبيبة كانت تعتبر أنّ مسافة 600 متر هي الحدّ الفاصل بين ضرورة ترك منزلها من عدمه لساعات فقط، إلّا أنّ هذا المعيار لم يكن يصلح في حال للإنذارات الليليّة “زوج أختي هو الشخص الوحيد الذي يجيد القيادة من أفراد عائلتي التي لم تترك المنطقة، ونظره لا يُساعده ليلًا، فكنّا نفضل البقاء على الموت في حادث سير” تقول وهي تبتسم.

كانت الأوزاعي وجهة لشراء الاحتياجات الأساسيّة لمن بقي في الرّمل العالي فضلًا عمّن كان متواجدًا في الدكّان، أمّا الكهرباء فكانت لا تنقطع والماء مؤمّنة من البئر “في هذه الحالة فقط كنّا نقول ‘دولة’ فكهرباء الدولة لم تنقطع، وبعد انتهاء الحرب عادت الكهرباء لتنقطع”. أمّا خدمة الإنترنت فكانت معطّلة في المنطقة بسبب تضرّر الكابلات وكانت حبيبة تشرّج هاتفها وخدمة الإنترنت عن طريق أحد معارفها خارج الضاحية والذي أتى “وسكّر حسابه بعد الحرب”.

حين تتحدّث حبيبة عن تلك الفترة تعود إليها رائحة الدخان والاحتراق، الرائحتان اللتان لم تُفارقا من بقي في الحيّ بسبب الضربات القريبة، وكذلك تتذكّر صعوبة التنفّس بعد كلّ ضربة وحين يعبق الجو بالدخان وغبار المباني المدمّرة. ولكن أكثر ما تذكره  وما يوجعها هو مشهد الناس وهم خارجون من المنطقة ولاسيّما بعد أوّل إنذار للضاحية الجنوبيّة متّجهين صوب طريق المطار “لا أجد كلمات تصف ذلك المشهد، أمهات تجرّ أطفالها، كبار في السنّ يمشون متعبين، عائلات تحمل بعض الملابس أو حتى لحافًا أو فرشة، درّاجات ناريّة تحمل عائلات، بكاء الأطفال، الصراخ، هذا المشهد قد يكون الأقسى بعد مشاهد الإبادة في لبنان وغزّة، وربما الأكثر إيلامًا بعد مشهد الأمهات اللواتي يبحثن عن أشلاء أبنائهنّ بعد عودتهنّ إلى قراهنّ” تقول.

بعد أشهر من انتهاء الحرب، لا تزال حبيبة تحاول العودة إلى حياتها الطبيعيّة وتعويض خسارتها في دكانها الذي سرق خلال الحرب ولم يُحاسب السارق، ولا تزال تجتمع مع جيرانها في الدكّان ولا تزال الحرب موضوع الساعة.

على بعد أمتار من دكّان حبيبة يسكن أحمد العزير ابن شمسطار المولود في حيّ الرمل في برج البراجنة وهو من الأشخاص الذين لم يتركوا الضاحية لا خلال حرب تموز ولا خلال الحرب الأخيرة، وممّن كانوا يجتمعون مع من بقي في الحي في دكّان حبيبة لقراءة الخرائط. تركت عائلة أحمد الضاحية بعد أسبوع على توسّع الحرب أمّا هو فبقي في بيته.

أكثر ما يذكره أحمد من الحرب هو ضربة بجانب صيدلية تبعد حوالي 500 متر عن منزله، فبعد الإنذار نزل إلى الشارع، ابتعد قليلًا عن منزله ليضمن مسافة اعتبرها آمنة وعاد بعد الضربة إلى منزله ليراه تضرّر من جرّاء الضربة “رجعت لأجد بلاط الحمّام مقبّع، وأضرار على الشرفة” يقول.

موضوع الدَّين الذي تتحدّث عنه حبيبة هو جزء من نمط تعاضد اجتماعي حاول من بقي في هذا الحيّ من أفراد لا يتجاوزن عدد أصابع اليدين اعتماده أو ترسيخه، إذ يخبرنا بعض من بقي في الحي كيف كانوا يوصون بعضهم البعض على الاحتياجات الأساسيّة، كيف كانوا يطمئنّون على بعضهم بشكل مستمرّ وكيف كانوا يصبّرون بعضهم البعض. “كأنّنا بتنا نعرف في أيّ أوقات نخرج لنحضر احتياجاتنا، وكان من يخرج يسأل الآخرين عمّاذا يحضر لهم على طريقه”، يقول أحمد هو الذي لا يملك سيّارة.

يحكي أحمد كيف تُرك من بقوا في الضاحية من دون أي دعم إذ إنّ أهالي حي الرّمل مثلًا كانوا يرفعون الأحجار والردم المتطاير من أمام أبوابهم، وكانوا يحرقون النفايات خوفًا من تكدّسها. يحكي كيف سُرقت بعض البيوت والمحلّات التجارية. ويختم قائلًا: “انتهت الحرب ونحن بخير، ولكن أكثر ما يؤلمني هو تضرّر قبريّ أمي وأبي في الرادوف، كانت أبشع لحظات الحرب، استهدفت إسرائيل مكانًا قريبًا من المقبرة، وما أن انتهت الغارات حتى نزلت مسرعًا فوجدت قبريهما متضرّرين، حتّى اللحظة لم أصلح القبرين وهذا يؤلمني كثيرًا” 

“كنت أجمع الوسائد وأضعها الواحدة فوق الأخرى لتغطّي زجاج الشبّاك، كنت أنام في هذه الغرفة لأنّها الأقرب إلى الباب الخارجي، لم أكن أقفل باب البيت ليلًا حتّى أتمكّن من الهرب سريعًا أو خوفًا من أن يصرخ الجيران محذرين ولا أسمعهم”.

تبدأ ديما التي التقيناها في أحد أحياء حيّ السلّم، من يوم 27 أيلول: “كنّا نجلس أمام البيت نشرب القهوة مع بعض جيراننا، سمعنا صوت الانفجارات وهزّت بيوتنا، وبلحظات انقلب المشهد، بدا وكأنّ الجميع يركض من دون وجهة محدّدة، ونحن أيضًا خرجنا من الضاحية، وبقينا في السيّارة طوال تلك الليلة” تقول.

في اليوم التالي عادت ديما مع أحد أشقّائها إلى المنزل فبقاؤهما مع عائلتهما في المنزل الذي استأجرته في عكّار يعني توقّفها عن العمل، وتوقّف مصدر رزق عائلة بكاملها في وقت فرض فيه النزوح مصاريف إضافيّة.

تُشير ديما إلى شبّاك كبير في الغرفة حيث نجلس وإلى باب المدخل من دون أن تقوى على حبس دموعها، تخبرنا بأنّها كانت تجمع الوسائد وتضعها الواحدة فوق الأخرى لتغطي زجاج الشبّاك، وأنّها كانت تنام في هذه الغرفة لأنّها الأقرب إلى الباب الخارجي، وأنّها لم تكن تقفل باب البيت ليلًا حتّى تتمكّن من الهرب سريعًا أو خوفًا من أن يصرخ لها الجيران محذرين ولا تسمعهم. وكيف كانت تتأكّد من إقفال قارورة الغاز وكيف كانت تسهر مع جارتها القريبة وهما تتحدّثان عبر “واتساب” عن الضربات وأماكنها، وعن توافق الإنذارات مع عدد الضربات، عن حالتهما النفسيّة وعن إمكانيّة انتهاء الحرب.

كانت ليالي الحرب طويلة جدًا قضت ديما معظمها مستيقظة، وكانت الليالي الأصعب تلك التي كانت تعرف فيها أنّ العدو نشر عددًا من الإنذارات نهارًا ولم ينفّذها جميعها “كنت أعرف بأنّه سينفذها ليلًا، فأجد نفسي أنتظرها لأخذ نفس تحضيرًا لجولة أخرى” تقول. كما تذكر الليلة التي انتشر فيها خبر إمكانيّة استهداف المطار “أخي يعمل في المطار وهو أصلًا مُصاب في انفجار المرفأ، لم يغمض لي جفن في تلك الليلة، دعوت كثيرًا ليحميه الله، ما أكثر مصائبنا في هذا البلد”.

كما يُخبرنا جميع من التقيناهم ممّن لم يتركوا الضاحية تخبرنا ديما بأنّ الكهرباء “كانت أربع وعشرين على أربع وعشرين لأوّل مرة في الحي” ولكنّ مشكلتها الأساسيّة كانت في تأمين مياه الخدمة التي لم تعد قادرة على شرائها بسبب توقّف أصحاب الصهاريج عن العمل في الضاحية. فكانت تنتظر أخاها ليأتي وتذهب معه على الدراجة النارية لإحضار غالونات ماء يستخدمانها للخدمة.

تقول ديما إنّ كلّ لحظة خوف أو قلق عاشتها خلال الحرب قد ترافقها العمر بكامله، ولكن ما هو مؤكّد أنّ مشاهد الناس وهم يركضون وأصوات الأطفال النائمين على الأرصفة على مداخل الضاحية ليل السابع والعشرين من أيلول هو المشهد الأكثر قسوة وإيلامًا بالنسبة لها ولا يُفارقها أبدًا.

انشر المقال

متوفر من خلال:

فئات مهمشة ، لبنان ، جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني