
كلمة نزار صاغية، محامي الجمعيات الممثلة لذوي المفقودين
(لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، وسوليد)
استلام تقرير التحقيقات في مصائر المفقودين: أي معنى؟ أي أبعاد؟ أي نتائج؟
اليوم، ومع استلام تقرير التحقيقات في مصائر المفقودين في لبنان، لا يمكننا الا أن ننوه بأهمية القرار الذي اتخذته لجان ذوي المفقودين في الاحتكام الى القضاء لتكريس حقوق هؤلاء في مواجهة سلطة حاكمة اختارت أن تتجاهل قضاياهم وأن تتقاعس عن إيجاد حلول لها. فبفضل هذا الرهان الذي بدأ في 2009، حقق ذوو المفقودين إنجازات عدة أبرزها طبعا قرار مجلس شورى الدولة الصادر في 4-3-2014 بتكريس حق المعرفة كحق طبيعي لا يقبل أي استثناء أو تقييد. وقد جاء اذعان رئيس الحكومة للقرار من خلال تنفيذه، ليكرس لحظة هامة، لحظة اعتراف بهذا الحق وما يرتبه من موجبات، ومن دون أي مبالغة لحظة انعطاف هامة في تاريخ لبنان: فهذا النظام الذي تأسس منذ انتهاء حرب 1975-1990 على تمجيد قادة الحرب ونكران ضحاياها بالكامل، هذا النظام الذي بني على تمجيد ابطال الحرب وطمس الذاكرة منعا لأي اضطراب ضميري، وجد نفسه مع هذا القرار أمام نقيضه تماما: حق ضحايا الحرب (ذوي المفقودين) بالمعرفة والعدالة مع ما يستتبعه من تذكر واضطراب ضميري لا بد منه للخروج من قيم الحرب. ومن هذه الزاوية، بدا الحكم القضائي وكأنه يعيد للبنانيين جزءا أساسيا من ذاكرة كان من المقرر أن تبقى محجوبة، وكأنه يمهد لإعادة كتابة التاريخ: فلا نرى الحرب فقط من خلال ابطالها الذين يطلب منا تمجيدهم والاذعان لهم، بل بالدرجة الأولى من خلال ضحاياها الذين يتوجب قبل كل شيء انصافهم وتضميد جراحهم. فلا تكون ذاكرتنا ذاكرة بطولات تسجل هنا وهنالك، ذاكرة انتقائية طائفية، فيزيد انقسامنا حدة، انما بالدرجة الأولى ذاكرة وجع، ذاكرة جماعية وطنية، ذاكرة أمهات وزوجات يجتمعن من كل حدب على خطوط التماس ضد التقاتل الطائفي، يجتمعن ويجمعننا في رؤية موحدة للمستقبل قوامها المساواة والعدالة. منذ انتهاء الحرب، بقي ذوو المفقودين، بفعل عذابهم ووجعهم، علامة الاستفهام الأكبر حول مشروعية نظام المحاصصة الذي كاد الجميع الا هم، يذعن له. وقد ظن، وربما راهن كثيرون على أن مقاومتهم ستضعف وتتلاشى مع مرور الوقت، مع وفاة كل أم وزوجة، كل شاهد على الماضي، فجاء الحكم، ليكرس قوة مقاومتهم المبنية على حق طبيعي وليلبس قضيتهم لباس قضية وطنية كبرى تعني كل انسان فتقوى مع كل مولود جديد، كل شاهد على المستقبل. وبذلك، شكل استلام الملف لحظة تاريخية، منعطفا تاريخيا، يشهد فيها النظام بداية تحول في جذوره وأسس مشروعيته، بمعزل عن مضمونه.
ولكن، وبمعزل عن أبعاد الحكم المعنوية والرمزية، من حق الرأي العام اليوم أن يسأل عن النتائج العملية لتنفيذ هذا الحكم وتسليم الملف؟ بم يسهم مضمون هذا الملف في ترسيخ حق المعرفة؟ وما هي المعلومات التي يمكن الاستفادة منها أو البناء عليها للمضي قدما في عملية البحث عن مصائر المفقودين؟ هذه هي الأسئلة التي يرتقب كثيرون اليوم الإجابة عليها. وما يزيد من الحاحها، أننا لسنا هنا بصدد ملف تحقيقات للجنة واحدة، انما بصدد ملف مجمل التحقيقات التي قامت بها مجمل حكومات ما بعد الحرب من خلال لجان عدة وفي أوقات مختلفة (2000، 2001، 2005). وتاليا، نحن اليوم أمام ملف يجسد سياسة الحكومات المتعاقبة برمتها وكيفية تعاطيها مع ملف ضحايا الحرب، مما يحول الملف الى اثبات دامغ وقاطع على طبيعة السياسات المتبعة على هذا الصعيد. وعلى سبيل التقييم، أسجل كوكيل لذوي المفقودين الملاحظات الآتية:
أولا: أن من يقرأ ملفات التحقيق، سرعان ما يتبين أن المعلومات الواردة فيها مجتزأة وقد بقيت، على أهميتها، في أحيان كثيرة معلومات خام. بمعنى أنها بقيت في مراحل التحقيق الأولى من دون أن تقوم اللجان المتعاقبة بواجبها في التدقيق فيها سعيا الى الوصول الى الحقيقة. وهكذا نجد أن الملف تضمن كما كبيرا من الاستمارات التي ملأها ذوو المفقودين وأودعوا فيها كل ما يعرفونه بخصوص خطف أحبائهم، تاريخ حصوله، أسبابه وظروفه، والجهات الخاطفة أو الأشخاص المشتبه بتوورطهم بالخطف. ومن هذه الناحية، وفر الملف للجان معلومات هامة وقيمة عن عائلات المفقودين وعن الجهات التي من الممكن أن تكون حائزة على المعلومات المطلوبة حول مصائر هؤلاء. ولكن، وللأسف، بقيت تحقيقات اللجان بعد تجميع هذه المعلومات سطحية ومجتزأة. فقد اقتصرت جهودها هنا على تصنيف ملفات المفقودين وفق الجهة الخاطفة المفترضة ومدى توفر أدلة: فهل هي تنظيم أم ميليشيا لبنانية؟ أم هي جهاز تابع للجمهورية السورية؟ أم هي إسرائيل؟ بخصوص الحالة الأولى، وجهت اللجنة طلب استعلام لجميع الأجهزة الأمنية (الأمن العام، أمن الدولة، الأمن الداخلي) عما لديها من معلومات فجاءتها إجابات شبه متطابقة: "أن النتيجة سلبية" أو "أن لا معلومات لدينا"، باستثناء حالات قليلة جدا حيث أوردت الأجهزة ما قد يكون لها من معلومات بقيت أشبه بالخبريات حول بعض الأشخاص. ويتضح أن اللجان اكتفت بهذا الحد، من دون أن تكلف خاطرها عناء مراجعة أي من الميليشيات أو التنظيمات التي نسب اليها ذوو المفقودين في استماراتهم مسؤولية في الخطف. أما في الحالة الثانية، (الأشخاص المحتمل تواجدهم في سورية) فقد وجه رئيس اللجنة المعينة في 2001 النائب فؤاد السعد طلب الاستعلام للواء الراحل غازي كنعان مسهلا إياه: "عطفا على الحديث الذي جرى بيننا.. وبناء لطلبكم" ولا نلقى في الملف أي جواب، وفي مرحلة ثانية للمجلس الأعلى السوري اللبناني، وفي الحالة الثالثة، وجهت اللجنة طلب الاستعلام من خلال البعثة الدولية للصليب الأحمر فجاءتها إجابات بشأن عدد من الأشخاص الذين اعترفت إسرائيل باحتجازهم لديها.
أما بخصوص المقابر الجماعية، فقد زعمت لجنة التحقيق في2000 عثورها على مقابر جماعية عدة، ذكرت بعضها وأبقت الكتمان على أخرى. وهنا، وباستثناء احدى المقابر الجماعية والتي تم فيها معاينة جثث، لم يتضمن التقرير المسلم الينا أي إشارة الى الأسناد أو المعلومات الاستخبارية التي ارتكزت عليها اللجنة في هذا الخصوص. والأهم من ذلك، وبدل أن يؤدي استكشاف المقابر الجماعية الى اتخاذ تدابير فورية لصونها وحمايتها تمهيدا للتعرف على هوية الأشخاص الذين رميت جثثهم فيها، للسماح لأهلهم بدفنهم وفق طقوسهم وبدء الحداد عليهم، فانها اعتبرت وجودها سببا لاغلاق الملف وانهاء القضية.
وبنتيجة ذلك، يظهر بوضوح كلي أن التحقيقات التي أجرتها اللجان المتعاقبة بقيت عموما في مراحلها الأولى (أي جمع المعلومات وتصنيفها) من دون أن تعمق اللجان تحقيقاتها للوصول الى نتائج واضحة عن المفقودين، فردا فردا.. بل بدت وكأنها تدفنهم جميعا في مقابر جماعية مفترضة تمهيدا لاغلاق الملف. وبذلك، بدت اللجان وكأـنها استعانت بأهالي المفقودين واستماراتهم، ليس لاستكشاف الحقائق، انما للايحاء بأن الدولة أنجزت كل ما عليها أن تفعله وأنه آن تاليا للأهالي ان يتخلوا عن مطالبهم وأن ينخرطوا كسواهم في لعبة التناسي والصمت. ومن هذه الزاوية، يشكل الملف الذي هو بحوزتنا اليوم دليلا قاطعا على تقاعس الحكومات السابقة في هذا المضمار، وهو تقاعس يعكس بشكل واضح سياستها المشار اليها أعلاه في التنكر للضحايا وطمس الذاكرة. ونحن اليوم، اذ نطالب الطبقة الحاكمة على هذا الصعيد باتخاذ مبادرات فورية لنقض هذه السياسة من خلال إجراءات اعتراف واضحة تشريعية وإدارية تحقيقا للتغيير المنشود واحقاقا للحق، في مقدمها إقرار اقتراح القانون حول حق المعرفة الذي تقدم به النائبان غسان مخيبر وزياد القادري وانشاء بنك ADN، فاننا نحتفظ طبعا بحقنا كاملا لجهة مطالبة الدولة بتعويضات نتيجة الإهمال المذكور، على أن تخصص مجمل هذه التعويضات بأكملها لانشاء بنك ADNيسهم في تحقيق حق المعرفة لا غير؛ كما نحتفظ بكامل حقوقنا لجهة مراجعة المراجع الأممية المختصة فضحا لهذه السياسة التي بات لدينا اثبات قاطع ودامغ على اتباعها.
أما السؤال الثاني الذي يطرحه الملف بشكل لا يقل الحاحا، فمفاده: كيف سيتصرف ذوو المفقودين اليوم بعدما باتت هذه المعلومات على اجتزائها ونقصانها، في حوزتهم؟ ما هي الإمكانات المتاحة لهم من خلالها للوصول الى حق المعرفة؟ بالطبع، تتحسس لجان الأهالي هنا مسؤولية فائقة: ففي الملف الذي بين أيديها معلومات هامة جدا، معلومات تحتاج الى استكمال للوصول بها الى خواتيمها. وإذا اختارت في لحظة اللجان المتعاقبة أن تنكفئ في لحظة معينة، فلجان الأهالي تجد نفسها محكومة وملزمة، باسم عذابات جميع الذين ما لبثوا ينتظرون، بالقيام بكل ما يلزم لاستكمال التحقيقات من المرحلة التي وصلت اللجان اليها من خلال خطوات قضائية وغير قضائية، بالقرب من الجهات الحكومية، الخارجية والداخلية المشتبه بها بانتهاج الخطف وممارسته، مذكرين مجددا وتكرارا أن ما نريده ليس معاقبة أحد، بل فقط، وقبل كل شيء تحقيق المعرفة انهاء لعذاب الانتظار. وبالطبع، ما يزيد تصميم الأهالي في هذا المجال هو كسبهم نتيجة حراك عقود حق معرفة الحقيقة وما يستتبعه من موجب بالبوح بها، وأيضا القضاء الذي أثبت من خلال الحكم الذي أوصلنا الى هنا، قدرته على أداء دور اجتماعي في نصرة الفئات الأكثر تعرضا للغبن في مواجهة النظام السياسي السائد.
بقي أن نعلن للأهالي أنه من منطلق حرصنا على المعلومات الشخصية الواردة في هذا الملف، فاننا سنحتفظ بعناية بوثائقه، مع الالتزام الكامل بحق ذوي المفقودين المعنيين بالمعرفة. كما سنودع البعثة الدولية للصليب الأحمر نسخة عن كامل الملف اسهاما منا في جهوده الحثيثة لكشف مصائر المفقودين والمخفيين قسرا في لبنان.
يمكنك الضغط على الرابط أدناه لتحميل النص كاملا
للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك الضغط هنا
متوفر من خلال: