كلمة القاضي منير سليمان رئيس محكمة دوما، بمناسبة افتتاح مقرها الجديد في 12/8/2013: كلام غير مألوف، لكن هل يريد الناس الذين نحكم باسمهم الاستمرار بما هو مألوف؟


2013-08-26    |   

كلمة القاضي منير سليمان رئيس محكمة دوما، بمناسبة افتتاح مقرها الجديد في 12/8/2013: كلام غير مألوف، لكن هل يريد الناس الذين نحكم باسمهم الاستمرار بما هو مألوف؟

حدثان شغلا بالي في الفترة الاخيرة على الرغم من كثرة الاحداث المتلاحقة: اولهما انتقال السلطة في مصر الى القضاء ممثلاً برئيس المحكمة الدستورية، امّا الثاني فانتقال محكمة دوما من مأجور خاضعٍ للتمديد الى هذا المبنى الجديد، مع تمايزٍ يسجّل على المستوى الداخلي الا وهو انجاز الانتقال ورفض التمديد في عزّ موسم التمديد.
هذا الانجاز تحقق بفضل محبة الدومانيين واصالتهم واعلائهم لسيادة القانون, وقد انبروا وفي مقدمتهم رئيس البلدية والمجلس البلدي ولجنة الوقف، ليؤمّنوا مقرّاً لائقاً للعدالة من وسط البترون الى جردها العالي، وارادوه على مثال اصالتهم وتراثهم وعلى صورة إلفة حاراتهم ونظير مذبح كنيستهم المفعمة بالإيمان، ولا يسعني الا ان اشكر ابناء البترون عامةً والدومانيين خاصةً على سنوات خمس بلغت امضيتها بينهم اقضي باسمهم وباسم الشعب اللبناني وهم مثال المواطن الصالح الساعي دوماً الى اعلاء كلمة الحق وبناء دولة القانون والمؤسسات وعمادها القضاء على الرغم من الصعاب الراهنة ومن ذيول الماضي واثقاله،
واتوجّه بالشكر الى كلّ من ساهم وساعد وعمل وفكّر في تحقيق هذه النقلة، النقلة التي نأمل ان تشكّل فأل خير باتجاه تحقيق نقلة نوعية على مستوى السلطة القضائية عامةً حجراً وبشراً، فالشكل ايها السادة هو مفتاح الدخول الى المضمون وهو يتعلّق بهيئة العدالة وبمكان تلقّفها للساعين اليها ولطالبي حضنها وحصنها كما انه يشمل ايضاً هيكليتها والسبل الآيلة الى ضمان استقلاليتها انطلاقاً من نصوص الدستور لا سيما المقدّمة التي اكّدت على احترام الدولة لميثاق الامم المتحدة والمواثيق الدولية، تلك المواثيق حددت اسس الديمقراطية ومعاييرها واهمها على الاطلاق السلطة القضائية المستقلّة التي لا تتدخّل السلطة السياسية في تعيين القيّمين على ادارة وتدبير شؤونها.
ايها السادة ان الحديث عن استقلالية القضاء كسلطة يواجه دوماً بمبدأ استقلالية القاضي الشخصية فهذا المبدأ، على الرغم من أهميته، الا انه يستحيل تعميمه كقيمة مطلقة فعّالة ومنتجة ما لم يشعر القاضي هو اولاً بالحرية وبالعدالة. فالاستقلالية لا يمكن تجزئتها او تحديدها بمكان او بزمان او بظروف معيّنة، وانطلاقاً من هذه الاستقلالية التي تتلازم مع الشعور بالمسؤولية يلتزم القاضي بموجب التحفّظ عبر سلوك وأدبيات تؤمن تحقيق الغاية من هذا الموجب الا وهي المحافظة على هيبة السلطة التي يمثلها وعلى وقارها وعلى الثقة بها،
ومن المعلوم ايها السادة، أن يظهر في اوضاع متأزمة او غير مستقرة تراجع الثقة بالمؤسسات بصورة عامة الامر الذي ينسحب اليوم الى مجتمعات عريقة بالديمقراطية، فاذا كان صمت القاضي هو القاعدة للمحافظة على الثقة بالقضاء فما هي الحالة اذاً إذا كانت تلك الثقة مهتزّةً في ظلّ هذا الصمت؟
ويقول الدكتور انطوان مسرّة في منشورات المجلس الدستوري لعامي 2009-2010 ان موجب التحفّظ لا يشمل التعبير والكتابة بالمسائل العامة والعلمية والوطنية او الدولية والمشاركة في مؤتمرات وندوات شرط الا تكون ذات طابع سياسي او حزبي محدد، كما لا يعدّ مخالفاً لموجب التحفّظ الانتماء او ترؤس الجمعيات ذات الطابع الاجتماعي او العلمي البعيدة عن ممارسة السياسة او الدفاع عن موضوع حقوقي محدد يمكن ان يطرح امام القضاء،
اضافةً الى انه من واجب القاضي أن يبقى على تواصل مع الناس الذين يحكم باسمهم ولا يعدّ خرقاً لموجب التحفّظ المشاركة الاعلامية في برامج تثقيفية لا سيما متى كانت تتعلّق بالقانون،     
وقد قال أحد المفكرين الانكليز: العدالة لا يجب فقط ان تحقق بل يقتضي ان تشاهد كي يتمّ تحقيقها.
ايها السادة ان تحقيق العدالة اليوم لم يعد مرتبطاً بتطبيق القانون وحسب، بل من مستلزمات العدالة، خاصةً في الظروف التي نمرّ بها، المحافظة على اسس الدولة وعلى صون حقوق الناس وعلى تكييف القانون، بما يؤمّن مستلزمات بقاء الناس واستمرارهم وتقدّمهم، ان تلك الامور هي من صلب واجباتنا كقضاة، ومهمةٌ يقتضي ان نطلع بها ان كنّا نؤمن باستقلاليتنا وندرك تماماً اننا لسنا ولا يمكننا ان نكون موظّفين ننفّذ مآرب السلطة السياسية واقصى صلاحياتنا لفت النظر الى الخطأ دون التمكّن من الحؤول دونه او المحاسبة على ارتكابه،
كما لا يجوز الهروب او الانكفاء فهذا النمط من السلوك هو نوع من التخلّي عن الواجب، وهنا أعود الى القضاء المصري الذي لولا نادي القضاة لما تمكّن من الوقوف في وجه توظيفه كأداة للسلطة وهو كان اساس الثورتين الحاليتين وقد شهدنا على صلابة القضاء المصري بوجه الاقصاءات والاعفاءات والتعيينات، وها هم قضاة المغرب وتونس وليبيا ومصر واليمن يتجمّعون ويؤسسون نقاباتهم وانديتهم للدفاع عن استقلاليتهم بوجه ممارسات السلطة السياسية لتقويض سلطة واستقلالية القضاء سواء مباشرةً عبر قوانين تصدرها تجعل القاضي موظفاً مأموراً او بصورة غير مباشرة عن طريق ادوات تلك السلطة في القضاء من خلال التوسّع في تفسير موجب التحفّظ، وهذا التفسير الواسع يخفي عن طريق الاسناد اليه، ممارسة ضغوط مادية ومعنوية على القاضي او تواطؤاً او انتهازيةً او مساومة على مبادئ جوهرية، 
ندعو اليوم في هذه المناسبة الى يقظة والى استفاقة والى صرخة في اذن كلّ من يعنيه الامر للعمل لأجل دولة الحق والعدالة والقانون واعلاء سيادة القانون لأجل الديمقراطية الحقيقية حتى يكون عندنا وطن،
هذا الكلام ليس مألوفاً لأن يقوله قاض الّا انني لا أعلم ان كان الناس الذين نحكم باسمهم يريدون الاستمرار بما هو مألوف لكننا نعلم جميعاً بأن الشفافية هي معيار النزاهة ويعلم المسؤولون تماماً ان الاعوجاج مصدره الاول هو بعض الكبار بينهم قبل الصغار، ونعوّل في الوقت عينه على رحابة صدر المستقيمين وعلى روح الديمقراطية التي يتمتّعون بها وعلى احترامهم للحقوق وللحريات العامة لا سيما وان اهل البيت اولى به،
وقد قال السياسي الانكليزي ايريل تشيسترفيلد: ليس هناك اشدّ صمماً من أولئك الذين لا يريدون ان يسمعوا،
في الختام اتوجه بالشكر الى الرئيس الاول لمحاكم الشمال على دعمه المستمرّ والى رئيس المجلس الاعلى للقضاء على حضوره ومشاركته وعلى دعمه كما وعلى جهوده لأجل تحقيق ما نصبو اليه جميعاً واننا نمدّ له يد العون طالبين منه اشراكنا في كلّ عمل اصلاحيٍ وتطويريٍّ بما يصبّ في مصلحة المواطنين والقضاء فالوطن, واتوجه بالشكر ايضاً الى السيد  وزير العدل الذي سبق وان زار وعاين تحت الثلج محكمة دوما وبادر الى تبني مشروع المبنى الجديد الى ان تحقق، ويسجّل للوزير شكيب قرطباوي انّه مستشعرٌ للقضايا الاصلاحية والتطويرية المتعلّقة بالقضاء ومتابع للتحركات بشأنها وكان الاول الذي طالب القضاة بالالتفات الى القضاء المصري وما انجزه في وطنه.
اكرر شكري اليكم جميعاً والى الدومانيين ورئيس بلديتهم والمجلس البلدي والى لجنة الوقف واتمنّى لكم حياة سلام وهدوء وطمأنينة يظلّلها الحق والعدالة تلك العدالة التي لا سلطان لها على الارض إن لم تأت من فوق.
 
ودمتم شهوداً لكلمة الحق ودام لنا لبنانكم.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني