في 4 جانفي 2017، رفعت جماهير النادي الإفريقي في “تيفو” بمناسبة مباراة فريقها الودية ضدّ نادي باريس سان جرمان، برعاية شركة أوريدو المستشهر المشترك بين الفريقين، شعار: “صنعها الفقراء وسرقها الأغنياء” (Created by the poor, stolen by the rich). تحوّل هذا التيفو، بعد سنوات قليلة، إلى رمز للمعركة التي خاضتها جماهير النوادي الأوروبية ضدّ فكرة إنشاء مسابقة جديدة بعنوان “السوبر ليغ” التي خضعت بالأساس لمطامع رأسماليّة.
لكنّ الشعار، على أهميته، لم يكن دقيقًا. فكرة كرة القدم لم يصنعها الفقراء، وإنما تملّكوها وافتكّوها، قبل أن تُسلب منهم من جديد. فخلال قرنين من الزمن تقريبا، عرفت كرة القدم تغيّرات عدّة، بالتوازي مع تغيّر المنظومات السياسيّة والاقتصاديّة. فتحرّرت أوّلا من قبضة الأرستقراطية التي أرادت لهذه الرياضة أن تكون ممارسة تكرّس قيم الطّاعة واحترام السلطة، لتصبح ساحة لمعارك التّحرر الوطني، ورياضة تكرّس قيم التعاون والمساواة، بعد انتشارها ونبنّيها من قبل شرائح وشعوب مختلفة[1]. لكنّها في مرحلة ثانية، أصبحت ضحية انتشارها وشعبيّتها، فأضحتْ فريسة للرأسماليّة التي عملت على سلعنتها فجرّدتها من قيَمها ورموزها. بعد كلّ هذه التغيّرات ما الذي تبقّى من رياضة العمّال والفقراء والسكان الأصليين للأراضي المستعمرة؟ على الأقلّ ما الذي تبقّى من رياضة بطاحي الأحياء في تونس وكيف أصبحت كرة القدم التونسية خاضعة للاّمساواة والتّقسيم الطبقي؟
مشهد السيارات أمام مراكز تكوين نوادي العاصمة يذكّر بانتظار الأولياء أمام المدارس الخاصة
حواجز طبقية أمام الفرجة
لم تُستثنَ كرة القدم في تونس من تدخّل رأس المال واستغلاله ومنطقه الربحيّ، وإن بدرجات مختلفة. حملت العقود الأخيرة سلعنة تدريجيّة لهذه الرياضة في تونس، كغيرها من الدول. في ظلّ الارتفاع الضخم لميزانيات النوادي، واستقالة الدولة من مسؤولياتها وغياب حلول تمويليّة كافية، لم تصبح الأندية فقط رهينة لأصحاب الأعمال المموّلين، بل رسمت أيضا مسافة عن جماهيرها ومحبّيها من الطبقة المهمّشة، بحثا عن موارد إضافيّة. فارتفعت أسعار التذاكر وفُرض تقسيم طبقي على الجماهير في الملاعب، حيث يتمّ تحديد مواقع كلّ فئة من الجمهور في المدارج حسب قيمة التذكرة أو قيمة الاشتراك السنوي الذي تدفعه. على سبيل المثال، يخضع الاشتراك السنوي لحضور مباريات الترجي الرياضي التونسي لخمسة أصناف، تتراوح بين 150 دينار و800 دينار، وترتبط كلّ تسعيرة منها بمكان محدّد بالمدارج. كما ارتفعت في السنوات الأخيرة أثمان الأزياء الرسميّة للنوادي التي تتجدّد ويتغيّر تصميمها كلّ موسم، لدفع المشجّعين إلى الاقتناء المستمرّ واستهلاك منتجات الفريق مستغلّين في ذلك ما تعبّر عنه من رمزية هويّاتيّة وما تعزّزه من شعور بالانتماء للمجموعة.
كما أنّ البنية التحتيّة تساهم في ارتفاع كُلفة “الفرجة”. فقد عزل بناء ملعب رادس الجمعيات الكبرى للعاصمة عن جزء كبير من جماهيرها، نظرا لابتعاده النسبيّ عن مركز ثقلها الديمغرافي، وبالأخصّ، لعدم ربطه بشبكات النقل العمومي. كذلك الأمر بخصوص التنقّلات داخل البلاد، التي تحتاج مصاريف هامّة، بالنظر إلى تراجع مرفق النقل العموميّ بين المدن عبر القطارات، وتخلّي الشركات العموميّة للنقل عن كراء حافلاتها للجماهير، في ظلّ تدهور أسطولها. ولئن حرمت القرارات الأمنيّة في السنوات الأخيرة الجماهير من إمكانيّة متابعة نواديها حين تلعب في مدن أخرى، فإنّ عودة الجماهير الزائرة، إذا ما حصلت، ستخضع هي الأخرى إلى اللامساواة الاقتصاديّة بين الجماهير. هذا من دون الحديث عن التنقلات خارج البلاد، حين تشارك “الجمعية” في مسابقة عربيّة أو قارّية أو حتى دولية، إذ يقلّ حضور المشجّعون الأفقر في المدارج، مقابل حضور كبير للمشجعين من الطبقات المرفّهة. طالت سلعنة كرة القدم الفرجة في كلّ أشكالها فامتدّ الإقصاء أيضا للبثّ التلفزي للمقابلات. فمتابعة بعض اللقاءات للمنتخب الوطني أو للأندية التونسية بالمنافسات القارية أو العالمية تحتكرها في جلّ الأحيان القنوات المدفوعة. ورغم أنّ هذا الاحتكار الرأسمالي خلق فضاءات أخرى موازية توفّر البثّ بكلفة أقلّ، إلاّ أنّ ذلك لم يخرج عن المنطق الرأسمالي، بل خلق “سلعة” أقلّ ثمنا وجودة، لبيعها لمن لا يقدرون على اقتناء الاشتراك في القنوات الرياضيّة العالمية (وهم الأغلبية الساحقة). حتى مقابلات البطولة الوطنية، لم تكن دائما متاحة على التلفزة العموميّة، التي عجزت في بعض الأحيان أو تأخرت في إنهاء مفاوضات اقتناء حقوق البثّ مع الجامعة التونسية لكرة القدم. فكانت مباريات البطولة هي الأخرى متاحة فقط على منصّات مدفوعة. لكنّ هذه المنصّات حقّقت على الأقلّ، بالتزامن مع إقصائها من لا يملكون المال، عدالة بين جماهير مختلف الجمعيات حيث سمحت لأوّل مرّة بنقل كلّ مباريات الرابطة الأولى تلفزيّا، وهو ما لم يكن الإعلام العمومي المتدهور يسمح به.
فرصة اللعب والصعود في الجمعيات الكبرى تخضع لرأس المال الاجتماعي أكثر من الموهبة
سلعنة ممارسة الكرة: لا مكان للفقراء في مراكز التكوين
ممارسة الرياضة، عموما، لا تخلو من طبقيّة، حيث أصبحتْ “سلعة” تباع في قاعات الرياضة، في ظلّ تراجع الخدمات التي توفّرها دور الشباب والمراكز العموميّة، والنقص الكبير في المساحات العموميّة التي يتوفّر فيها مجانا تجهيزات حديديّة تسمح بممارسة الرياضة، كما نجدها في الحدائق العموميّة في بلدان كثيرة، رغم أنّ كلفتها ضعيفة جدّا بالمقارنة مع منافعها في جودة حياة المتساكنين.
أمّا في كرة القدم، فلا توفّر الدولة والبلديات ملاعب كافية متاحة لممارسة الكرة بالحدّ الأدنى، لتنتشر بالمقابل الملاعب الخاصّة المُكلفة. كما حرمت السياسات العمرانية (أو بالأحرى غيابها) الأحياء الشعبية والمفقّرة من البطاحي والفضاءات المفتوحة لممارسة كرة القدم التي كانت خزّانا تنتدب منه الأندية أفضل المواهب.
ويتبلور منطق السوق والسلعنة أكثر فيما يخصّ ممارسة كرة القدم بالنوادي الرياضية وأكاديميّاتها التي تهدف لتكوين المحترفين المستقبليّين. ينتج عن ذلك تمييز اقتصادي واجتماعي ضدّ أبناء الطبقات الفقيرة، الذين ينظر الكثير منهم إلى الكرة كأحد أهمّ المصاعد الاجتماعيّة المتبقيّة. إذ لم يعدْ ممكنا الانتماء لأكاديميّات الأندية الكبرى واللعب مع فرق الأصاغر دون تقديم مقابل مادّي مرتفع. فالانضمام مثلا إلى أكاديمية النادي الإفريقي، بالنسبة لطفل يبلغ 7 سنوات من العمر، يحتاج إلى مقابل ماديّ بقيمة 100 دينار شهريا، من أجل أن يشارك في 3 حصص تمرينية أسبوعيا. كما يجب إضافة قيمة التأمين (20 دينار)، فضلا عن اشتراط تحمّل مسؤولية وكلفة تنقّله خلال المقابلات التي سيشارك بها خارج العاصمة. قد يبدو الثمن للبعض غير مشطّ، مقابل فرصة الصعود والاحتراف في نوادٍ كبرى وشَرفِ الانتماء لها، لكنّه يمثّل تقريبا ربع الأجر الأدنى المضمون، وهو أعلى من قدرة العائلات ضعيفة ومتوسطة الدخل. فضلا عن أنّ ما يرافقه من التزامات يجعل من هذه الأكاديميّات فضاءات انتقائيّة وإقصائيّة، تتحوّل تدريجيّا إلى حكر على أبناء الطبقة المرفّهة. إذ أنّ انضمام الطفل لمثل هذه الأكاديميّات لا يعني فقط الالتزام المادي بل ينجرّ عنه التزام بتحمّل أعباء تنقّله لمكان التمرين في أوقات مختلفة قد تتداخل مع أوقات العمل وحتى أوقات دراسته. وهو ما يتطلّب تفرّغ أحد الوالديْن أو توفّر أشخاص آخرين يمكنهم تقديم المساعدة ثلاث مرات بالأسبوع كامل السنة. إضافة إلى ضرورة توفير الملابس ومستلزمات التّمرين التي يجب اقتناؤها من متاجر النادي المخصّصة لذلك.
يكفي المرور أمام مراكز تمرين الأطفال لأحد نوادي العاصمة، لملاحظة سيارات الأولياء الذين ينتظرون نهاية التمرين ويعرقلون السير بتكدّسهم، في مشهد شبيه بما يحصل يوميّا أمام المدارس الخاصة. فنكاد لا نجد أولياء بملابس عاديّة يقفون متّكئين على الحائط في حلقات نقاش لانتظار أبنائهم الذين سيعودون لمنازلهم سيرا على الأقدام، كما في مشاهد انتظار الأولياء أمام المدارس العمومية، بل نجد أولياء مرفّهين ينتظرون أبنائهم فرادى، كلّ في سيّارته، مرتديِن ملابس مكاتب العمل.
أمّا الصعود والتقدّم في مسار الاحتراف، فيخضع نظريّا للاختبار والقدرة الفنيّة، وعمليّا لرأس المال الاجتماعي والاقتصادي. إذ تتعدّد الشهادات حول الممارسات الرائجة في أكبر الجمعيات الرياضية، حول مواهب كروية ظُلمت وأقصيت ليحلّ مكانها أبناء عائلات مرفّهة أو لديها علاقات اجتماعية مهمّة. فمجرّد اللعب في جمعية كبرى هو شرف و”سلعة” تخضع لقانون العرض والطلب، وهي متاحة في كثير من الأحيان لمن يدفع أكثر أو من عنده علاقات أكبر. وهو ما يساهم مباشرة في أزمة تكوين المحترفين وبناء على ذلك في نتائج ولعب النوادي ككلّ. وعليه، أصبحت النوادي الكبرى تعتمد إلى حدّ كبير في أقسام الأكابر على الانتدابات التي تجريها من خزانات التكوين في النوادي الصغرى، التي يقلّ فيها التنافس الاجتماعي والمالي على اللعب، فتجد المواهب فرصة للبروز فيها.
أشكال التمييز تأخذ بعدا آخر إذا ما توجّهنا نحو جهات أخرى غير العاصمة. فأكاديميات نوادي العاصمة، التي تنتشر جماهيرها في جلّ الولايات، ليست متواجدة بصفة متساوية بالجهات، وإنما تتمركز فقط في العاصمة. وفي ظلّ تنامي هذا التوجه التجاري والربحي لكرة القدم، ظهرت أكاديميات التكوين الخاصة في المدن الكبرى وحتى الجهات الداخلية، ليقدّر عددها حاليّا بـ 86 أكاديمية لكرة القدم و8 أكاديميات لاختصاصات أخرى[2]. ولئن كان ثمن الانخراط بهذه الأكاديميات أضعف ممّا تفرضه أندية العاصمة، إلاّ أنّ هذا المقابل المادي يبقى وسيلة للتقسيم الاجتماعي وجعل ممارسة كرة القدم حكرا على المرفّهين في كلّ جهة. أمّا عن البعد الجندري فهو حتما عنصر يعمّق التمييز ويكثّف اللاّمساواة في كرة القدم. فلا أكاديميات لممارسة كرة القدم للبنات ناهيك إن كانت هذه الفتيات من الطبقة الفقيرة أو من الطبقات الفقيرة المنتمية للجهات المهمّشة أصلا.
بذلك تصبح كرة القدم والرياضة ككلّ أداة لإعادة الإنتاج الاجتماعي، أي وسيلة للإبقاء والمحافظة على المواقع الاجتماعية من جيل إلى آخر (في حين أنّها من أهمّ وسائل الصعود الاجتماعي وأسرعها في المخيال المجتمعي لأبناء الطبقات الفقيرة). إذ أنّ ممارسة كرة القدم بالأندية بعد سلعنتها أصبحت أكثر إقصاءً للفئات الاجتماعية المهمّشة. من خلال عملهما البحثي الميداني فيما يخص ممارسة الرياضة بالنسبة للأطفال بفرنسا، بيّن باحثان في علم الاجتماع طريقة إعادة إنتاج اللاّمساواة والطبقية من خلال ممارسة كرة القدم[3]. فاستخلصا بأنّ هذه الممارسة في نسختها التجارية متبنّاة أساسا من الطبقة البرجوازية الصغيرة وتحديدا أبناء الإطارات (خصوصا من القطاع الخاص). فكُرة القدم أصبحت بالنسبة إلى هذه الفئة وسيلة لمزيد تحصيل رأس المال المادي وبالتالي تقوية صعودهم الاجتماعي من دون المرور ضرورة بالمسارات التقليدية المضنية (خصوصا في ظلّ ضخامة سوق كرة القدم وقيمتها الربحيّة وتدهور الاقتصاد في المقابل). هذا بالإضافة لما تعكسه من قيم رأسمالية يحملونها كالمنافسة والسعي لتحقيق الربح. أمّا بالنسبة للطبقة البرجوازية القديمة فهذه الفئة تفضّل الرياضات الفرديّة أو الأنشطة الثقافية لأبنائها لأنّها أوّلا تمثّل أو تعكس قيم التفوّق والتفرّد والتمايز عن الآخرين (رياضة التنس، الرسم، البيانو على سبيل المثال)، كما تحقق الرأس المال الثقافي الذي تهتمّ به هذه الطبقة في ظلّ تحصيلها للرأس المال المادي. تبقى هذه الدراسة متعلقة بالمجتمع الفرنسي وخصوصياته وهو ما لا ينطبق ضرورة على المجتمع التونسي خصوصا في ظلّ غياب دراسات تؤكّد أو تنفي مثل هذه الخلاصات، وهو ما يؤكد مجدّدا الحاجة الماسّة إلى اهتمام أكبر للعلوم الاجتماعية في تونس بعالم الرياضة.
في ظلّ استقالة الدولة من مسؤوليّاتها وتقاعسها عن الحفاظ على حقوق مواطنيها في النفاذ للأنشطة الرياضية وتهرّبها أمام غزو منطق السوق والسّلعنة، ابتعدت كرة القدم عمّا كانت تمثّله وتشوّهت قِيَمها. فتلك الرياضة التي كانت ملجأ للفقراء والعمّال ضحايا التمييز الطبقي لتخفيف المعاناة، أصبحت نشاطا نخبويا متاحا للذكور من الطبقات المرفّهة أكثر بكثير من غيرهم. لقد تحوّلت كرة القدم تدريجيّا من رياضة تعبّر عن المسحوقين الذين يكرّسون قيم التضامن والتعاون لتحقيق الانتصار، إلى رياضة النجوم الذين يبجّلون اللعب المنفرد ويقدّسون الربح المادّي منه والرمزي. مع ذلك تبقى كرة القدم الرياضة الأكثر شعبية والفضاء الأكثر تعبيرا عن واقع الناس وأفكارهم وقضاياهم، خصوصا في المدارج. فهي فضاء استغلال وإقصاء… ولكنّها مع ذلك وفي الوقت نفسه، فضاء مقاومة رمزيّة.
نشر هذا المقال في الملف الخاص للعدد 30 المفكرة القانونية-تونس
لقراءة وتحميل العدد 30 بصيغة PDF
لقراءة وتحميل الملف بصيغة PDF
[1] Mickael Correia, Une histoire populaire du football, La découverte, 2020.
[2] أكاديميات كرة القدم الخاصة بتونس.. صناعة النجوم أم الأوهام؟، الجزيرة 2016.
[3] Christine Mennesson, Samuel Julhe, L’art (tout) contre le sport ? La socialisation culturelle des enfants des milieux favorisés Dans Politix 2012/3 (n° 99), pages 109 à 128.