في سياق العودة إلى حُكم الفرد وتجريم المعارضة، قد يبدو الاهتمام بالديمقراطيّة في كرة القدم في أحسن الحالات ترفا، وفي أسوئها هروبا. لكنّ اختيارنا تخصيص ملفّ العدد للديمقراطية والكرة نابع من قناعة بأنّ الدفاع عن الحدّ الأدنى الحقوقيّ، لا يجب أن يمنعنا من الدفاع في الوقت ذاته عن المثل الديمقراطيّة في راديكاليّتها وشموليّتها وأفقها التحرّري، لأنّ “كلّ شيء سياسيّ”. بل أنّ دفاعنا عن الديمقراطيّة يكون أقوى، كلما سعينا إلى “دمقرطة” تصوّرنا لها، واقتحمنا بها مجالات قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن المجال السياسيّ الصرف.
في تونس، كرة القدم مجال سياسيّ بامتياز. منذ الحركة الوطنية للتحرّر من الاستعمار، وصولا إلى الثورة والانتقال الديمقراطي المتعثّر ثمّ العودة إلى حُكم الفرد، مرورا بنظامي بورقيبة وبن علي. فالكرة منظار فريد ومفيد لتقصّي وفهم التحوّلات السياسيّة في البلاد. وما يهمّنا في هذا الملفّ هي بالذات قضيّة الديمقراطيّة. انطلاقا من مفارقة، وهي أنّ الكرة، لأنّها الرياضة الأكثر شعبيّة، فهي في الوقت ذاته الأقلّ ديمقراطيّة. إذ هي فريسة لتوظيف الأنظمة الاستبداديّة ورقابتها من جهة، ولتوسّع رأس المال والهجمة النيوليبرالية المعولمة من جهة أخرى. ولكن رغم ذلك، هي تحافظ على شعبيّتها، وتاليا، على إمكاناتها الاحتجاجيّة كفضاء مقاومة.
لذلك سنحاول في هذا الملفّ تفكيك علاقة الكرة بالديمقراطية، ليس فقط من خلال العودة إلى تاريخ التوظيف السياسي للكرة في سياق استبدادي للرقابة والدعاية والإلهاء. ولكن أيضا عبر الغوص في ما تفترضُه المتطلبات الديمقراطية في الكرة، عبر زوايا متعدّدة. من بينها تسيير مرفق الكرة، حيث عُدنا إلى عبث السلطة في الأشهر الماضية بانتخابات الجامعة التونسية لكرة القدم ومسألة استقلالية الهياكل التسييرية. وأيضا في تسيير الجمعيات الرياضية، حيث لم تستطع الجماهير، رغم محاولاتها وابتكاراتها، افتكاك سلطة القرار الذي يبقى رهين صاحب الأعمال الممول. كما تقصيّنا أثر سلعنة الكرة في العقود الأخيرة على اللامساواة الطبقيّة في حقّ الجماهير في الفرجة عليها ولكن أيضا في ممارستها داخل النوادي. وبحثنا عن الديمقراطيّة المجاليّة إزاء اللاعدالة القائمة بين الجهات، في التنافس الكروي وفي البنية التحتية. لنتوقّف أخيرا عند المدارج كفضاء للتعبير والاحتجاج، من خلال دور مجموعات الألتراس، ولمنطق العسكرة الذي تمارسه الأجهزة القمعيّة للسلطة. فإذا كانت الكرة نموذجا جيّدا لإبراز التهديد المضاعف للديمقراطيّة من السلطة السياسيّة والمنظومة النيوليبرالية، فذلك لا يعني تبخيس مكاسب ديمقراطيّة بحجّة عجزها عن تغيير موازين القوى الاجتماعية وعن القطع مع دولة البوليس. وإنما نسعى على العكس إلى مساهمة متواضعة في استخلاص بعض الدروس من التجارب التاريخية، بحثا عن المراكمة لصياغة مشروع ديمقراطي تحرّري شامل.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.