تُخصّص المفكّرة – تونس في أعداد مجلّتها الفصليّة قسما لتقديم عدد من الكُتب المختارة، نراعي من خلالها تنوّع المواضيع ولغة الكتابة وجدّة الإصدار وراهنيّة الإشكاليات، وذلك بمساهمة من قرّاء وكتّاب متعاونين.

في الوقت الذي توارى فيه معظم مثقفي مصر عن الأنظار، في أعقاب “النكسة،” وقد شعروا أنهم جزء من الهزيمة، كانت أمّ كلثوم تحاول لملمة جراح أمّة بأسرها. بمنديل تمسح به عرقها ومصدح تخاطب عبره قلوبا انكسرت، انطلقت “الستّ” فيما وصفه الباحث المصري الشاب، كريم جمال، “سنوات المجهود الحربي”. 

الكتاب يجوب بنا شرقا وغربا، حيث جالت أمّ كلثوم، محمّلة بقضية وعائدة بما قد يعيد للمصريين الأمل. في معظم تلك الحفلات وجدت جمهورا يبحث بدوره عن شيء ينسيه الهزيمة وما بعدها. 

ستشعر، وأنت تنتقل بين صفحات الكتاب، بأنّ أمّ كلثوم كانت بمثابة أمّة. لم تكتف بالغناء، بل لعبت دورا هامّا في إذابة الجليد بين القاهرة وعدد من الدول، لعلّ من أبرزها تونس. وأسرّ لي الكاتب أنّه استمتع أيّ استمتاع وهو يكتب الجزء الخاص بليالي “الستّ” التونسية. 

ولنقف عند أهمية تلك السنوات، يذكر كريم جمال أنّ ما تقاضته أمّ كلثوم وفرقتها عن حفلتين في مدينة بعلبك اللبنانية كان يضاهي قيمة الصادرات المصرية من التفاح من لبنان. 

التوثيق في الكتاب كان مكثّفا. لكلّ تفصيل تأصيله، وبعض التفاصيل كانت شديدة الدقّة. الجهد البحثي كان خرافيا، حتّى تخال أنّك في سباق مع الزمن والمسافات. 

لم يفتْ الكاتب أن يعود بنا إلى ما كتبته صحف البلدان التي جالت بينها أمّ كلثوم، حتّى يرمي بنا إلى أصداء الحفلات وهوامشها وكواليسها. 

لكن، لم يكن قرار الغناء سهلا. بعد خطاب التنحي لجمال عبد الناصر، يذكر الكاتب أنّ أمّ كلثوم انسحبت في صمت لتفكّر. “كانت تحاول البحث عن دور قادم لها، ولكن هذه المرة وسط ضباب الهزيمة وقسوة الكابوس”. وفي غمرة الحفلات، كانت وفاة عبد الناصر. “فكانت سنواتها الأخيرة مجرد تشبث بعالم ينهار وتعلق بمرحلة تاريخية كاملة أغلقتها مصر بالدموع”. 

قد تتّهم أم كلثوم بتماهيها مع مختلف الأنظمة التي تعاقبت على حكم مصر وهي على قيد الحياة، انطلاقا من الملك فاروق، الذي فاجأ البورجوازية المصرية حين منح الفنّانة الفلاّحة الصاعدة نيشان الكمال. لكن، لا أحد ينكر فضلها على بلدها وهي تحاول إعادة الأمل بعد هزيمة نكراء أنهت نظاما وتيّارا سياسيين، حتّى رُفعت إلى “مصافّ أنبياء الوطن وبطلات السير الشعبية”. 

وأنت تكابد من أجل الإسراع بالانتهاء من الكتاب المشوّق، ستنتهي إلى أنّك قرأت ما أبعد من “سنوات المجهود الحربي” لأمّ كلثوم: أنت انتهيت للتوّ من الاطّلاع على مقاربة فريدة في قراءة تاريخ مصر والدول العربية في أحلك ظروفها. 

نشر هذا المقال في مجلة المفكرة القانونية- تونس العدد رقم 28
للاطّلاع على العدد بصيغة PDF