التحرير، الاحتمالات السياسية، والثورة المضادة في مصر
عاطف شحات سعيد
Revolution Squared:
Tahrir, Political Possibilities, and Counterrevolution in Egypt
Durham: Duke University Press, 2024
كيف تتشكل الثورات ضمن سياقاتها المجالية والزمنية؟ لماذا اختزلت الثورة المصرية وارتبطت بالأساس بميدان التحرير في القاهرة؟ كيف أثر هذا التمثل في التطورات اللاحقة للثورة؟
تلك هي الأسئلة المدخليّة التي يقترح عاطف شحات سعيد الأستاذ المساعد في علم الاجتماع السياسي في جامعة إلينوي بشيكاغو الإجابة عليها في مؤلفه الصادر حديثا في الولايات المتحدة الأمريكية والذي هو تطوير لأطروحة دكتوراه نالها سنة 2014 وحصلت على جائزة أحسن رسالة من جامعة ميشيغان. تستند الصرامة الأكاديميّة للمؤلّف على عمل ميداني طويل ذي منهجية إثنوغرافية مباشرة بأثرٍ رجعيّ، كما على عشرات المقابلات التي أجراها سعيد مع الفاعلين إضافة إلى مرجعية بيبلوغرافية متنوّعة وغنيّة.
عاطف سعيد الذي استهلّ كتابه بتقديم لمحة تاريخية عن سياسات الاحتجاج والتعبئة في مصر خاصّة في العقد الذي سبق الثورة، كما تلك التي عرفها ميدان التحرير منذ ستينيات القرن الماضي، يرى الثورة كسيرورة معقّدة تختلط فيها الأبعاد الطوباوية والحركية والبراغماتية والمجالية. وهو يرفض المقاربات التي تختزلها في مآلاتها السياسية. لأن الثورة في نظره هي قبل كلّ شيء انفجار ضخم من الاحتمالات والفرص وأمل التغيير والصراع والاشتباك غير المسيطر عليه وغير المحتوم النتائج. لذلك فإن سعيد لا يزعم في مؤلفه تقديم سردية مكتملة للثورة جاهزة للاستهلاك، بقدر ما يقترح محاور وأفكارًا للنقاش على خلفية رصد للسيرورة الثورية بذاتها، أي عبر التركيز على الفاعلين الثوريّين وتجربتهم المعيشيّة للثورة في بعدها الإثنوغرافي، بمعنى الوقوف على شجاعتهم وتصميمهم وخوفهم وآمالهم وتناقضاتهم وارتباكاتهم وتراجعاتهم وتردّداتهم وانتصاراتهم الصغيرة. وهو يستند في ذلك على فكرة lived contingency المستوحاة من أدبيات علم الاجتماع السياسي، فيقارب الثورة “كحالة لا يقينية معاشة” تجسدها جملة من القرارات التي يتّخذها أو لا يتّخذها الفاعلون الثوريون فيما يخص أشكال تنظيمهم وحراكهم وفضاءات تشكيل مراكز سلطتهم البديلة عن الدولة…
كتاب عاطف سعيد يحكي عن قوة الفاعلين الثوريين زمن الثورة كما يحكي عن عدم قدرتهم على الاستفادة الكاملة من قوتهم وتأثيرهم بفعل التناقضات التي حكمتهم. فعند عاطف سعيد، يشتبك تحليل الثورة مع تحليل الثورة المضادة عملا بفكرة أصف البيات، عالم الاجتماع الإيراني، القائلة بأن “كل الثورات تحمل في داخلها بذور المكائد المضادة للثورة”. إذ أنّ الثورة تطلق العنان لمحاولاتٍ حثيثة مختلفة لتحجيمها وإفشالها والسيطرة عليها.
يحرص سعيّد في تحليله على إيجاد التوازن بين التسلسل الزمني لأحداث الثورة المصريّة والوقوف على ما أسماه العلامات الفارقة فيه. فهو يرصد العلامات الزمنية التي شكّلت انعطافات مرجعية، تحيل العلامة الأولى إلى ذروة الثورة يوم 28 جانفي 2011، حين هزم المتظاهرون جهاز الشرطة وأمر حسني مبارك الجيش بالتدخّل. وتحيل الثانية الى ذروة الثورة المضادة، يوم 26 جويلية 2013 حين خرجت مسيرات بدءًا من ميدان التحرير وأماكن أخرى من مصر لدعم الانقلاب العسكريّ. كما يرصد سعيد العلامات المكانية الفارقة بين 2011 و2013، وهي ساحة التحرير بوصفها المجال الذي تشكل كرمز للثورة ثم ساحة رابعة كفضاء لانتصار قيادة الثورة المضادة أي الجيش، في خضم تدخله يوم 16 أوت 2013 لفضّ الاعتصام وقتل ما يقارب 1200 معتصم من مؤيدي الإخوان المسلمين والرئيس محمد مرسي.
لا يتّسع المجال هنا لاستعراض كلّ التحاليل والاستنتاجات المحفزة للكتاب وخصوصا تلك التي استندت على البيانات الغنيّة التي جمعها حول المعارك والمسيرات في القاهرة والجيزة والإسكندرية خلال جمعة الغضب في 28 يناير2011، أو حول اللجان الشعبية التي أنشأها السكان المحليون خلال الأيام 18 للثورة فيما يقارب 152 حيّا في القاهرة الكبرى والإسكندرية ومراكز حضرية أصغر لحماية الممتلكات وتوفير الأمن أو بيانات مئات شهداء وجرحى الثورة المصنفة على أساس نشاطهم الاقتصادي ومناطق إقامتهم.
لقد كانت للثورة المصرية “روحان” كما أوضح سعيد، روح ديمقراطية وأخرى اجتماعية، لكن الأولوية التي أعطيَتْ للمسألة الديمقراطيّة بسبب قوة مرئياتها لدى الطبقات الوسطى خلق توتّرًا في صفوف الفاعلين الثوريين استعملته لاحقا الثورة المضادة، خلال ما عرف بالفترة الانتقالية، لكبح جماح الاستحقاقات الاجتماعية. فقد استخدمت الديمقراطية الإجرائية لخنق المطالب الاجتماعية والإصلاحات الديمقراطية الحقيقية. كما أن انتصاب ميدان التحرير كمركز للثورة كما أبرز سعيد كان له تأثير ملتبس. إذ أعطى من جهة صدى واسعا للثورة، لكنه في الآن نفسه حجب الاهتمام والتنسيق مع مراكز الاحتجاج والتنظيم الذاتي الأخرى مثل الإضرابات العمالية واللجان الشعبية في الأحياء. وبالمحصّلة، ساهم التركيز على ميدان التحرير، كما يخلص سعيد، في خنق الثورة لأن جزءًا من قوة الثورة كان في عدم مركزيتها.
انكسرت الثورة في مصر لكنها حققت كما كتب سعيد انتصاراتٍ صغيرة، وصنعت تجارب ملهمة، وأصابت النظام ببارانويا غائرة جعلته يرتعد إلى اليوم من أيّ تحرك احتجاجي… وهو لربما بالضبط مبعث وهنه الذي لن يتعافى منه.
هذه المراجعة نشرت في مجلة المفكرة القانونية – تونس العدد 32
لقراءة وتحميل العدد 32 بصيغة PDF