[كتب مختارة، العدد 31] هزيمة غربية: حول الموافقة على تحطيم غزة


2024-11-28    |   

[كتب مختارة، العدد 31] هزيمة غربية: حول الموافقة على تحطيم غزة

ديدِي فَاسَان

اختار الأنثروبولوجي الفرنسي والأستاذ في الكوليج دو فرانس ديدي فاسان عنوان “هزيمة غريبة: حول الموافقة على تحطيم غزّة” لكتابه الصادر حديثا عن حرب الإبادة المستمرّة في فلسطين منذ عمليّة طوفان الأقصى. يذكّرنا هذا الاختيار بكتاب آخر بنفس العنوان كتبهُ المؤرّخ مارك بلوك إبّان الحرب العالميّة الثانية، وإن كانت الهزيمة آنذاك سياسيّة في المقام الأوّل، فإنّ الهزيمة الحاليّة هي أخلاقيّة بامتياز كما يحاجج فاسان. فأن يتحوّل مجرّد المطالبة بوقف إطلاق النار أو  إدانة استهداف الأطفال والمدنيين إلى سببٕ للاتّهام بمعاداة السامية أو التحريض على الكراهيّة لهو دليل على مدى التحيّز التام لإسرائيل والازدراء الكامل لقيمة حياة الفلسطينيّين. 

فبالإضافة إلى الدعم العسكري والمالي الذي تحظى به إسرائيل من قبل حكومات الولايات المتحّدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا، فإنّ خطاب حكومات هذه الدول يتبنّى حدّ التطابق التصريحات الإسرائيلية والتي ينعتها فاسان ببلاغة الإنكار (Rhétorique du déni)  والقائمة على تأكيد حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، اتّهام حماس باتّخاذ المدنيّين كدروع بشرية، واعتبار الجيش الإسرائيلي الأكثر أخلاقيّة في العالم بتعلة إنذاره للمدنيين قبل القصف أو توجيههم لمناطق يدّعي أنّها آمنة.

لمحاولة فهم جذور الهزيمة التاريخيّة، يعود المؤلّف إلى حدث السابع من أكتوبر. فمع تأكيده على إدانة قتل المدنيين، يستعرض فاسان جملة الأكاذيب والفظاعات التي وقع اختلاقها من قبل الإسرائيليين لاستجلاب التعاطف الدولي ولخلق رأي عام داخلي وعالميّ مساند للهجمة المضادّة الإسرائيلية ويذكّر بأنّ إسرائيل هي من رفضت التعاون مع هيئة مستقلّة أمميّة للتحقيق في مزاعم الاغتصاب. أمّا في ما يخصّ مختلف ردود الأفعال على طوفان الأقصى،  فقد اختصرها الكاتب ضمن فئتيْن رئيسيتيْن. ففي حين تمحو المجموعة الأولى كلّ تاريخ الاضطهاد الذي تعرّض له الفلسطينيون على مدى عقود من الاحتلال والتهجير والقتل والتمييز وتعتبر أن حادث السابع من أكتوبر هو بداية التاريخ وهو جريمة لاساميّة بل وتصل الجرأة ببعضهم لاعتباره جريمة إبادة ارتكبت ضدّ اليهود كيهود في محاولة لربطه بذكرى المحرقة النازية. أمّا المجموعة الثانية فترفض القفز على التاريخ وتصرّ على فهم السابع من أكتوبر في سياق عقود من الاحتلال و الإذلال والقهر الذي تعرّض له الفلسطينيّون. ينحاز فاسان في عرضه للمجموعة الثانية ويذكّر بالسياق الذي حدث فيه طوفان الأقصى (حصار غزّة، مسيرات العودة، الحصيلة الدامية من الضحايا الفلسطينيين في السنوات السابقة). كما يذكّر بأنّ تهمة الإرهاب أو شبهة القيام بجرائم حرب لا يمكن أن تلغي شرعيّة الحقّ في المقاومة، مذكّرا بجملة من التنظيمات التي كانت توصف بالإرهاب وتحوّلت إلى جزء من النخب الحاكمة في بلدانها مثل الحزب الجمهوري الإيرلندي والمؤتمر الوطني الإفريقي بل وحتّى حركة فتح وياسر عرفات من ناحية، وعصابة الإيرغون ومناحيم بيغن من ناحية أخرى.

ومع تتابع الجرائم الإسرائيلية في غزّة،  آتّخذ النقاش حول مصطلح الإبادة الجماعيّة منحى جديدا مع لجوء جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدوليّة نظرا لخرق إسرائيل اتفاقيّة منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. يقدّم فاسان عرضا مختصرًا لجملة الانتهاكات الإسرائيلية التي قامت عليها دعوى جنوب إفريقيا مثل القصف العشوائي على مناطق مدنية، استهداف الطواقم الصحيّة و الصحفيين وحتى المنظمات الأمميّة مثل الاونروا. كما يستعرض جملة من القرائن على توافر نيّة الإبادة من خلال خطابات المسؤولين الإسرائيليين المختلفة. وعلى رغم من تواتر الدلائل على همجية الحرب الإسرائلية، وعلى الرغم من إقرار محكمة العدل الدولية باحتمال حدوث إبادة جماعية في غزّة ومطالبتها إسرائيل بجملة من الإجراءات لتجنب خطر وقوعها، فإنّ الدول الغربية واصلت دعمها اللامحدود لإسرائيل وتبنّي سرديّتها من خلال الخلط بين معاداة الصهيونية ومعاداة الساميّة. وعلى نقيض ذلك، صار التضييق والمنع والإلغاء من نصيب كلّ من يتبنّى موقفا داعما لفلسطين ورافضا لحرب الإبادة،  فشمل ذلك إلغاء محاضرات وطرد ورفض تسجيل طلاب وقمعا بوليسيا للمظاهرات وحملات سحل إعلاميّة للنشطاء والمفكرين الذين اتّخذوا مواقف علانية مثل غسان الحاج وغريتا تونبرغ ونانسي فرايزر وغيرهم. هذا التضييق بتعلّة مكافحة معاداة السامية يرافقه، كما يلاحظ فاسان، تجاهلٌ تامّ لحملات الإسلاموفوبيا وكراهيّة العرب والفلسطينيين في الغرب والتي كانت قاتلة في حالات معيّنة كما حدث في الولايات المتحدة.  

بعد هذا العرض المفصّل ، يخلص المؤلّف إلى  أنّ هذا التواطؤ المطلق مع السردية الإسرائيلية، هو اللّامساوة والمفاضلة في قيمة الحياة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وهذا ما يبرز بوضوح في إحصائيات القتلى من المدنيين في كل الحروب الأخيرة على غزّة لجهة مقدار اللاتكافؤ بين الجانبين. وهذا ما يستمر حاليّا: فالطفل الفلسطيني على سبيل المثال أكثر عرضة 1850 مرّة للقتل من نظيره الإسرائيلي. وبعيدا عن هذه المقاربة الإحصائية التي تجعل من الفلسطينيين مجّرد أرقام، يشيد فاسان بمجموعات مثل “نحن لسنا أرقاما”‘ والتي تروي حيوات فلسطينيين قضت عليها آلة القتل الإسرائيلية. هذه الأنسنة للضحايا هي صورة أخرى من صور المقاومة لما سمّاه الكاتب بالتعاطف الانتقائيّ الذي يفرضه الخطاب الغربي رسميا وإعلاميا. ففي حين لا تحظى مجزرة النصيرات أو مجزرة الطحين بأكثر من بعض ثوان من التغطية الإعلامية، ترسم وسائل الإعلام عبر تقارير مطوّلة وجها انسانيّا للجنود أو للرهائن الإسرائيليين. ولا يقتصر اللاتكافؤ على مستوى الحياة، بل يشمل كذلك طقوس الدفن والحداد: ففي حين تُنظّم مراسم تشييع رسميّة وأهليّة للضحايا الإسرائيليين، تُدفن جثامين الفلسطينيين أو ما تبقّى منها من أشلاء، إن لم يحتجزها الجيش الإسرائيلي على عجل في مقابر جماعيّة.

ويلاحظ المؤلّف أنّ تصوير الفلسطينيين كمناصرين لحماس التي تُصوّر على أنها الشرّ المطلق، لا يأخذ في الاعتبار تعقيدات المشهد وتطوّرات حماس منذ ميثاق نشأتها في 1988 إلى حين تعديله في 2017 والذي قبلت فيه بحلّ الدولتين. في المقابل، لا تُسمع أي أصوات ناقدة لحزب الليكود والذي ما انفكّ منذ 1977 يؤكد رفض قيام دولة فلسطينية ويواصل دعمه للاستيطان وصولا إلى ضمان بسط سيادة إسرائيل على كامل فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر. وتشكل حرب الإبادة هذه خطوة إضافية نحو هذا الهدف، إذ أن استهداف الجامعات مثلا هو استهداف للمستقبل في حين يشكّل التدمير المُمنهج للبنية التحتية نسفا لأيّ احتمال لحياة مستقبليّة كريمة في غزّة. ولا يغيب عن فاسان ملاحظة الصمت الذي يطبق على الأوساط الأكاديمية أمام هذا التدمير وغياب أي حركة تضامن وازنة مع الجامعات الفلسطينينة. بل على العكس من ذلك يقع التركيز على قمع التحركات الطلابية داخل الجامعات الغربية أو على ممارسة نوع من الوصاية الفكرية لصنصرة المواقف الرافضة للحرب.

بعد هذا العرض المفصّل لمختلف وجوه هذه الهزيمة الأخلاقية، يحاول فاسان فهم الأسباب الكامنة وراء هذا التواطؤ المطلق مع السياسات الإسرائيلية. فإن كان من بينها محاولة التكفير عن الذنب فيما يتعلق بالهولوكست و شراء نوع من الراحة الأخلاقية عبر دعم سليلي الضحايا مع التجاهل التامّ لأثرها المدمر على الفلسطينيين، فإنّ المصالح الجيوسياسية والاقتصادية للدول الغربية وبعض الدول العربية تجعل من تصفية القضية الفلسطينية أولويّة لها. كذلك، يشكّل اقتصاد الحرب فرصة مهمة للمجمع العسكري الصناعي الأمريكي. إذ أنّ كلّ المساعدات الأمريكية لإسرائيل مشروطة بضرورة شراء أسلحة أمريكية مما يجعلها أشبه بنوع من الدعم المقنّع للصناعات العسكرية الأمريكية. هذا فضلا عن أن حرب غزّة تشكّل فرصة لتجريب مختلف الأسلحة الجديدة والمبتكرة في الميدان من أجل تسويقها في مناطق الصراع الأخرى. وأخيرا، يضيف فاسان تنامي كراهيّة العرب والإسلاموفوبيا في الغرب كسبب رئيسي للتواطؤ مع إسرائيل في حربها. وهذا ما جعل اليمين المتطرف في أوروبا وهو تاريخيا معادٍ للسامية، ينضمّ بحماسة كبيرة لجوقة الداعمين التقليديين لإسرائيل. 

ختاما، يمكن القول أن ديدي فاسان نجح في تقديم شهادة تاريخية قيّمة ترصد تفاصيل الهزيمة الأخلاقية التي شهدها العالم وبالأخص الغرب، والذي تخلّى عن كل خطاب حقوق الإنسان الكونية وقيمة المساواة ومبادئ القانون الإنساني الدولي، ليقف مساهما ومتواطئا في حرب إبادة جماعيّة تخاض مباشرة على القنوات التلفزية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي في حدود ما يسمح به الرقيب. 

(مراجعة حمدي قزارة)

انشر المقال

متوفر من خلال:

تونس ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني