“اكتشف الثورة التشيلية” هو واحد من بين عديد العناوين الصادرة حديثا في فرنسا إحياء للذكرى الخمسين لانقلاب 11 سبتمبر 1973 العسكري في التشيلي بقيادة الجنرال أوغستو بينوشيه. في هذا المؤلف، يقترح فرانك قوديشو، عالم التاريخ الفرنسي المتخصص في دراسات أمريكا اللاتينية الحديثة، مدخلا قيما لفهم إحدى التجارب السياسية الأشدّ وقعا على اليسار الثوري في أمريكا اللاتينية كما في العالم. فالثورة التشيلية لم تشكل فقط محاولة غير مسبوقة “لانتقال سلمي ديموقراطي إلى الاشتراكية”. بل إن سحقها الدموي قد حول البلد إلى مهد ومخبر النيوليبرالية الصاعدة برعاية ما سمي حينها بالشيكاغو بويس Chicago Boys.
يعود الكاتب في المقدمة على تجربة الثورة التي دامت بالكاد ألف يوم مذكّرا بإنجازاتها والتباساتها وانكسارها. ففي نوفمبر 1970، انتصر سلفادور أليندي مرشّح “الوحدة الشعبية”، أي التحالف المكون أساسا من الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي، في الانتخابات الرئاسية. فأصبح بذلك أول رئيس أمريكي لاتيني منتخب ذي خلفية اشتراكية. غير هذا الانتصار الانتخابي ميزان القوى لصالح الطبقات الشعبية، وأعاد الاعتبار لمسألة توزيع الثروات، وتأميم الملك العامّ الطبيعي، كما حفز تجارب رائدة في التنظيم الذاتي للفلاحين الفقراء والعمال. وما لبث أن أضعف الإصلاح الزراعي سلطة كبار الملاكين، وضربت قرارات تأميم مؤسسات وبنوك كبرى مصالح البورجوازية، وأقلق تأميم النحاس رأس المال الأجنبي، وارتاعت الولايات المتحدة الأمريكية من إمكانية انتقال العدوى التشيلية إلى مراكز تأثيرها في بقية بلدان أمريكا اللاتينية. وفي صبيحة 11 سبتمبر 1973، وبدعم مباشر من إدارة نيكسون، انقلب العسكريون على الثورة. فأغلقوا البرلمان، ومنعوا الأحزاب، وقمعوا الحراك الفلاحي، وحاصروا الأحياء الشعبية وحولوا ملعب سانتياغو إلى مركز لتعذيب وقتل آلاف اليساريين والنقابيين… وعليه، أجهضت الثورة.
تكمن لا شك القيمة المضافة للكتاب في جزئه الثاني الذي جمع وناقش فيه غوديشو ثلاث عشرة وثيقة تاريخية توثق على مدار الألف يوم مواقف وأطروحات الفاعلين الرئيسيين في الثورة والثورة المضادة التشيلية: بدءا من برنامج “الوحدة الشعبية” لسنة 1969 الذي أقر استراتيجية التحول السلمي والمؤسساتي نحو الاشتراكية وحكم سياسة سلفادور أليندي وتحالفاته، وصولا إلى الخطاب الإذاعي الأخير “للرفيق الرئيس”، كما كان يطلق على أليندي، يوم 11 سبتمبر بعد أن حاصرته هو وقلة من رفاقه المخلصين دبابات الجيش بعد رفضهم الاستسلام، مرورا بمواقف حركة اليسار الثوري (Movimiento de Izquierda Revolucionaria,MIR) وهي أهم فصيل يساري خارج البرلمان ساند نقديا السلطة التنفيذية ودافع على خيار القطيعة مع البورجوازية والمؤسسة العسكرية.
تتيح قراءة الكتاب ملامسة بعض من شظايا هذه التجربة الثورية ومساءلة مأساة انكسارها. ليبقى السؤال الاستراتيجي المركزي قائما، تماما كما طرحته كل ثورات دول الجنوب العالمي: هل يمكن بناء بديل ديمقراطي-اجتماعي في قطيعة مع الإمبريالية من داخل مؤسسات جهاز الدولة البرجوازية؟
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.