لم تكن ثورة 1919، في مصر، مجرّد حدث ارتبط بسياق تاريخيّ بعينه وبهدف محدّد هو مجابهة الاستعمار البريطاني، بل كان بداية مسار طويل مضنٍ لتشكيل قوميّة وطنيّة.
في كتابه “1919 – حكايات الثورة والثوّار،” يُقدّم لنا المؤرّخ، عماد أبو غازي، سردا سلسا مبسّطا “لبعض الحكايات التي غيّرت وجه مصر إلى حين.”
فعليّا، يُجمع المؤرّخون على أنّ ثورة 1919 دامت 5 سنوات. لكنّ تداعياتها وآثارها ودروسها البليغة لا تزال قائمة إلى اليوم.
ولعلّ أبرز درس نستخلصه من المخاض العسير الذي أدّى إلى تشكيل “حكومة الشعب” بقيادة الزعيم، سعد زغلول، هو نواة الثوّار، في حدّ ذاتها، مثلما استعرض أبو غازي أبرز شخوصها.
نجد في الكتاب معادلة ذكيّة بين تعداد لحظات فارقة عبر الشخوص وتقديم الشخوص من خلال الأحداث. وبمجرّد طيّ آخر صفحة، تنتهي إلى مركزيّة فكرة الجبهة الوطنيّة. فقد اختار الكاتب بعناية أشخاصًا دون غيرهم لتبيان التنوّع الفكري والسياسي والعقائدي والاجتماعي الذي ميّز ثورة 1919 ليخلّدها التاريخ كشكل من أشكال قدرة المصريين – بل وحتميّة – الانصهار في كتلة واحدة من أجل الانعتاق من الاستعمار.
فعبر الشخوص، يرسم عماد أبو غازي خارطة تشكلّ الوعي بضرورة أن يثور الشعب، انطلاقا من عرّاب الثورة ومحرّكها، عبد الرحمن فهمي، وصولا إلى ابن القباقيبي، الطفل الذي “أردته رصاصة جنديّ انجليزي قتيلا وهو واقف فوق حصنه الذي بناه.” من دون أن يزعم تأريخ الثورة، يضيف أبو غازي الفنانين، السيد درويش ومحمود مختار، كإسميْن أثّرا بشكل عميق في مجريات الأحداث، بعد أن أشار إلى محمد صبري السوربوني، موثّق الثورة، وهدى شعراوي، كرمز لمشاركة المرأة.
لم ينسَ الكاتب الأقباط، كشريك حقيقيّ في الثورة، واختار فخري عبد النور كأيقونة للعمل السياسي في ظروف نفي قادة الوفد وترهيب الصفّ الثاني من قادته. وعلى عكس كثير من المؤرّخين، يتجاوز أبو غازي احتشام الكثير من المؤلّفات بتخصيص ركن لرئيس الحكومة، حسين رشدي، كداعم للثورة، إذ صامت أقلام كثيرة عن إبراز الدعم الأساسيّ الذي قدّمه رشدي.
“1919 – حكايات الثورة والثوّار” جاء مختصرا مفيدا. سيدفع بك حتما للبحث عن بيبليوغرافية أوسع عن أحد أبرز الأحداث في تاريخ المنطقة، خلال النصف الأول من القرن العشرين. حدث نستوعب منه أنّه كلّما كان المصريون في جبهة واحدة كلّما كان الإنجاز عظيما. شاهدنا ذلك في ثورة فبراير 2011، وقبلها في حركة كفاية. حتّى الأنظمة المتعاقبة على حكم مصر فهمت ذلك جيّدا. ولعلّ المعتقلات شاهدة على ذلك. (مراجعة بسام بونني)
____________________
Les damnées de la mer.
Femmes et frontières en Méditerranée.
Camille Schmoll
La Découverte, Paris, 2020
على مدار ثماني سنوات قامت كامي شمول عالمة الجغرافيا والأستاذة في جامعة باريس بتوثيق قصص مهاجرات غير نظاميات عبرْن المتوسط، ومتابعة مساراتهن ومشاهدة أماكن احتجازهن في مالطا وإيطاليا البلديْن اللذيْن يحتلان مكانة مركزية في سياسة أوروبا الرقابية والتجريمية للهجرة عبر المتوسط.
حصيلة هذا العمل الاستقصائي البحثي النادر جمعته في هذا الكتاب الذي هو عبارة عن إثنوغرافيا المهاجرات الناجيات من الموت اللاتي شققن الصحراء ثم المتوسط للوصول إلى أوروبا وعشنَ خلال رحلاتهن الطويلة التي قد تستغرق سنوات أشكالا متعددة من العنف والعذاب.
أهمية الكتاب تكمن في تأنيثه وتسييسه لمسألة الهجرة غير النظامية. والتأنيث هنا لا يحيل إلى المقولة الشائعة والخاطئة التي تدّعي أن تدفقات المهاجرين أصبح العنصر النسائي فيها حاضرا، ذلك أن هجرة النساء مهما كان شكلها معطى قار في تاريخ الهجرات. وإنما هو تأنيث يتماهى مع مقاربة عالم الاجتماع الجزائري عبد المالك صياد (1998-1933)، عبر التحقيق الاستقصائي الميداني حول التجارب الملموسة والخصوصية للمهاجرات والغائبة من السرديات المهيمنة حول الهجرة في عبور المتوسط ومواجهة الحدود، التي أمست فضاءات محكومة بنظام الاستثناء.
أما التسييس فيكمن في تشابك المؤلفة مع مقولة أخرى سائدة تختصر الهجرة النسائية في الصورة النمطية للمهاجرة ضحية الاستعباد والإتجار بالبشر، والتي تخدم في النهاية مساعي إغلاق الحدود الأوروبية وتكتفي بالمناداة “بإنقاذ الضحية” من براثن “المجموعات الإجرامية” وإرجاعها إلى أهلها من دون اكتراث بالعنف الذي يسبّبه إجهاض حقّها في التنقّل.
هذه المقاربة الإثنوغرافية طويلة المدى سمحت للباحثة بتناول الموضوع بأبعاده المعقدة ودحض العديد من الأفكار المسبقة الرائجة حوله. فهي تبيّن أن أسباب الهجرة متنوعة لكنها كلها بالمحصلة سياسية. فبعض اللاتي التقت بهن المؤلفة اخترن الهجرة هربا من الجوع أو الفقر أو الجفاف. البعض الآخر فررْنَ من النزاعات والحروب. لكن جميعهن تقريبا لم يكن لهن تصوّر مخطّط معدّ سلفا بكل تفاصيله لرحلتهن فتطوّرت أسبابها ضمن مسار طويل وشاقّ محفوف بالمخاطر واللا يقين، حسب أوضاع بلدان العبور والفرص المتاحة. وعليه، فإن تجربتهن الملموسة تفند التصنيفات المعمول بها والتي تسعى إلى خلق فروقات واضحة بين الهجرة الاقتصادية واللجوء، والهجرة الطوعية والهجرة القسرية، والهجرة الفردية والجماعية…
طبعا تجربة العنف الذي يتخلّل كامل أطوار الرحلة هي الأكثر وقعا على المهاجرات. تعذيب واغتصاب وخطف وتسخير للدعارة… خصوصا ضمن المرحلة الليبية وثقته العديد من الشهادات. ولا ينتهي العذاب بعد الوصول إلى مالطا أو إيطاليا إذ تجد الناجيات أنفسهن في مراكز احتجاز تزيد من تعكر صحّتهن النفسية خاضعات لعمليات فرز طويلة هدفها الحؤول دون بقائهن في أوروبا.
قصص هؤلاء الناجيات من الصومال والمغرب ونيجيريا وإثيوبيا وتونس… اللاتي أجبرن أو عزمن على ممارسة حقهن في التنقل تؤكد أن الحدود خطرة وقاتلة وأن أولى ضحاياها هن نساء الجنوب، وأن دعاوي الدّفاع عن تحرّرهن لا تستقيم حين يغفل ذلك. (مراجعة ألفة لملوم)
____________________
Ben Ali’s Tunisia.
Power and Contention in an Authoritarian Regime
Anne Wolf Oxford, 2023
يقدّم الكتاب قراءة مختلفة حول منظومة حكم بن علي وملابسات الصراع داخل النخبة الحاكمة وبالأخصّ حزب التجمع. وقد استند إلى عمل ميداني موسّع شمل عددا هامّا من اللقاءات مع العناصر الفاعلة في النظام قياديا وقاعديا.
اختارت صاحبة كتاب “الإسلام السياسي في تونس: تاريخ حركة النهضة” الصادر سنة 2017، أن تسلّط الضوء هذه المرّة على حزب التجمع الدستوري الديمقراطيّ، في تقصّيها لمراحل تطوّر منظومة حكم بن علي. وفي مفارقة طريفة، تشير وولف في مطلع الكتاب إلى أنّ ولاية سيدي بوزيد التي انطلقت منها الثورة، كانت أكثر الولايات التي تحتوي على شُعبٍ تجمعيّة. من هذه المفارقة تنطلق إحدى الأفكار المركزيّة للكتاب، وهو دور التناقضات التي تشقّ التجمّع في مسار منظومة حكم بن علي وصولا إلى سقوطه. حيث تعود الكاتبة إلى تفكير بن علي بدايةً في إنشاء حزب جديد، قبل أن يخيّر إعادة هيكلة الحزب الاشتراكي الدستوري. هذه الرسكلة سمحت بإزاحة القيادات البورقيبية القديمة بطريقة سلسة، وخلق وجاهة حزبيّة مختلفة، تتأسس على الرأسمال الاقتصادي عوضا عن الرأسمال الرمزي. ولم يكتف بن علي بذلك، وإنّما عوّل أيضا على نخبة من الأكاديميّين والحقوقيّين واليساريّين، الذين تقلّدوا مناصب وزاريّة هامّة.
لكنّ رسلكة الحزب اقترنت بسيطرة رئاسيّة عليه، عززت مع انتخابات 1989 التوجّه الاستبدادي للنظام الجديد. كما ركّزت وولف على النزعة الأمنيّة لنظام بن علي واستناده على شبكة هامّة من المخبرين المرتبطين بالحزب، سواء في الوظيفة العمومية أو الشعب المهنيّة والجامعات، فضلا عن أذرع جمعياتيّة في الخارج لتتبع المعارضين. ودرست التجائه المتزايد للتكنوقراط، وتعويله على حكومة موازية في القصر، وصولا إلى نفوذ العائلة والأصهار المتزايد وصراعهم على خلافته. هذا المناخ ساهم حسب الكاتبة في خلق مزاج معارض لبن علي حتى داخل التجمع وصولا إلى مشاركة بعض التجمعيّين في الثورة، حسب آخر أمين عامّ للتجمع محمد الغرياني.
ويمكن أن يعاب على وولف تركيزها في حواراتها على الشخصيّات المنتمية إلى النظام، وعدم مقارعتها بمعطيات مقابلة من المصادر المعارضة، بما أدّى إلى مبالغة في دور التجمع أثناء الثورة مثلا. وكذلك إهمالها عوامل أخرى كالتحالفات والصراعات ضمن الوزارات السياديّة، والانتماءات المناطقية أو المهنيّة للمسؤولين وتأثيرها في توزيع النفوذ، وعدم توسّعها في فهم العلاقة بين الحزب الحاكم والمنظمات الوطنية مثل اتحادي الشغالين والأعراف. انتقادات لا تنفي أهمّية الإشكاليات المطروحة في الكتاب، ومن أهمّها آليات ترسيخ منظومة استبداديّة جديدة، وما يمكن أن تقدّمه لنا من دروس مفيدة اليوم. (مراجعة خير الدين باشا)
Le mirage sahélien.
La France en guerre en Afrique. Serval, Barkhane et après?
Rémi Carayol
La Découverte, Paris, 2023.
تواترت في المدة الأخيرة أخبار الانقلابات العسكرية في بلدان إفريقيا الغربية التي أعلنت عزمها على انهاء الوجود العسكري الفرنسي على ترابها، فبعد مالي وبوركينا فاسو ها هو انقلاب النيجر يعلن عن رغبته في التخلص من 1500 جندي فرنسي قدموا في إطار ما سمي “بالحرب على الإرهاب” في منطقة الساحل الافريقي. كتاب ريمي كرايول الصحفي الفرنسي المستقل يقدم إضاءة مفيدة لفهم الديناميكيات السياسية المحلية والإقليمية التي أفرزت هذه التحولات. ويقترح تقييما موثقا للعشر سنوات الأخيرة من التدخل العسكري الفرنسي في بلدان الساحل الإفريقي في إطار “الحرب” على الجماعات الجهادية، التي بدأت رسميا مع عملية سرفال سنة 2013 التي أطلقها الرئيس فرانسوا هولاند وتواصلت مع عملية بركان التي تبعتها سنة 2014 وانتهت رسميا في 2022 على الرغم من تواصل الوجود العسكري الفرنسي في بلدان الساحل خارج أي إطار قانوني أو مساءلة ديموقراطية.
كارايول الصحفي الذي غطى على مدار العشر سنوات الأخيرة أهم الأحداث في بلدان الساحل الافريقي وحاور عديد الجامعيين والعسكريين والنشطاء ورجال دين من بوركينا فاسو والنيجر ومالي وفرنسا لم يكتف في كتابه بتوثيق والتشهير بالكلفة الإنسانية لهذه الحرب (أكثر من ألفي قتيل عشرات الآلاف من المشرّدين) وشرعت شتى الاعتداءات على حقوق الإنسان التي اقترفها الجيش الفرنسي وحلفائه وكذلك الميليشيات المسلحة… أهمية كتاب كارايول تكمن في تبيانه كيف أنّ هذه “الحرب على الإرهاب” وإن روج “لنجاحاتها” في بداية سرفال، ما لبثت أن خسرت المعركة ضد الجماعات الجهادية. لا بل أن التدخل العسكري الفرنسي منع تشكل حلول بديلة لسلام عادل وحقيقي في منطقة الساحل الإفريقي قادر على اجتثاث الأسباب الاقتصادية والاجتماعية العميقة لنمو وانتشار هذه الجماعات. سرفال كما بركان اكتفيا في المحصلة بإعادة تثبيت دور فرنسا الاستعماري كـ “جندرمي افريقيا”، حيث عزّزت التواجد العسكري الفرنسي في البلدان الإفريقيّة بشكل لافت.
ما يؤكّده هذا الكتاب أيضا أن السياسة الخارجية الفرنسية في إفريقيا بالأمس كما اليوم لا تديرها في الحقيقة وزارة الخارجية، بل وزارة الدفاع. وأنّ هذه المقاربة العسكرية الاستعمارية فيما تعتبره فرنسا “مربعها” الخاص تحكم كذلك سياسة الوكالة الفرنسية للتنمية AFD. (مراجعة ألفة لملوم)
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.