قْلِيبيَة وحمَّام الغزاز: قراءة تاريخية و أنثروبولوجية في تحوّلات الممارسات الهجرية


2024-12-25    |   

قْلِيبيَة وحمَّام الغزاز: قراءة تاريخية و أنثروبولوجية في تحوّلات الممارسات الهجرية
بعدسة ياسين النابلي

لا يَكاد الحديث الرسمي عن البحر الأبيض المتوسّط، في عالمنا اليوم، يَتجاوز خطاب الأزمة وتِعداد المهاجرين غير النظامييّن الواصلين من إفريقيا إلى شواطئ أوروبا، عبر تَوظيف أي ارتفاع في الأرقام لتحقيق مكاسب سياسيّة وتبرير تَشديد سياسات التنقل. وبالرغم من تأكيد مُعطيات الهجرة العالمية أن 80% من المهاجرين الأفارقة يُهاجرون إلى دول إفريقية أوّلا وليس إلى أوروبا، وأن 86% من اللاجئين في العالم متواجدون في دول الجنوب العالمي، لا تُفوّت الدول الأوروبية فرصة في استصنَاع “أزمة هجرة” جديدة، وتَصديرها مع كلّ مَوجة يتوافَد فيها المهاجرون إلى أراضيها. وعلى النّقيض تمامًا من هذه الصورة السائدة، لطالَما كان تنقّل وهجرة الأفراد في حوض المتوسط عِماد وجوده التاريخي منذ عقود، حيث كان طريق التجار والمسافرين، ومسرحًا للتّبادل الثقافي والحضاري بين الشعوب المُطلّة عليه.

أمّا فيما يخصّ علاقات التنقل بين تونس وإيطاليا -أين تتركّز حركية الهجرة غير النظامية في السنوات الأخيرة- لا تَزال جُزر الجنوب الإيطالي ومدن الساحل التونسي شاهدَة على تاريخ ثري للتبادل الثقافي والتجاري بينَ الضّفتين الشمالية والجنوبية، يختلف عمّا نراه اليوم من عَسكرَة الحدود ولا عدالة  التنقّل. إذ أن جُزر صقلية و بنتلاريا[1] -وجهة مراكب المهاجرين اليوم- لا تَزال تَشهد على إرث التواجد العربي الإسلامي فيها، وتدلّ أيضا على هجرة التونسيين والأغالبة إليها من خلال المعمار والمعالم الأثرية وحضور اللغة العربية كرافد أساسي للّهجة الصقلية. وعلى الضفة الأخرى أيضا، مَثّلَت شبه جزيرة الوطن القبلي في تونس ومدن الساحل التونسي نقطة التقاء شعوب المتوسط. كما كانت أرضا لجأ إليها الإيطاليون المنفيون سياسيا أو الهاربون من المجاعات والأزمات، إذ تُعدّ الجالية الإيطالية من أكبر الجاليات الأجنبية المُقيمة في تونس.

ولَعلّ البحر والبحّارة من أهم بوّابات دراسة هذا المشترك الثقافي، وهو ما يُطلَق عليه في العلوم الاجتماعية المعاصرة؛ “أنثروبولوجيا المتوسط”، أي وجود أنساق ثقافية مُشتركة بين شعوب المتوسط عابرة للأقطَار والقارّات. وهو ما قامَ به الأنثروبولوجي التونسي عادل بالكحلة في كتابه: بَحّارة الساحل التونسي بين التهميش وفاعليات التأكيد. حيث تناولَ العلاقة الخاصة بين البحّارة الصقليين والمحليين، وإرث التّعايش والتفاعل الثقافي بين الجالية الإيطالية والتونسيين، الذي مازال موجودًا حتّى اليوم. يتجلّى هذا الإرث بشكل عامّ في الاشتراك في العادات والممارسات والأكلات. وعلى مستوى عالم البحر، في اقتباس البحّارة المحليين لتقنيات صيد جَلبَها الصقليّون إلى تونس، على غرار “اللّمبارة”. إضافة إلى الأصول الإيطالية لجزء هام من مُعجم البحر المستعمل اليوم، الذي يتجسّد أساسا في تسمية أنواع السمك.

نكاد لا نجِد أي صدى يُذكر لهذا التاريخ في النقاشات الحالية حَول الهجرة في المتوسط، نتيجة مسارات تاريخية مُركبة. حيث أنه بالتزامن مع إنشاء منظومة الحدود الأوروبية الخارجية في تسعينات القرن الماضي والسعي للاندماج ضمن هذا المسار، عَمدَت الدّولة الإيطالية الحديثة إلى إعادة إنتاج صقليّة على شاكلة أوروبا،[2] أي فصلها عن الضفة الجنوبية للمتوسط التي بات يُنظر إليها كخَطر مُحدق. إضافة إلى مسارات أخرى مرتبطة بمحاولات إضفاء المشروعيّة على الكيان الأوروبي الجديد وترسيخه عبر تأكيد اندماجه واختلافه عمّن حوله.

يُمثّل هذا الإطار مدخلاً أساسيّا لفهم السياق الهِجري المُعاصر الذي يشهَد توظيفا لـ “مشهديّة الحدود”، من خلال اعتبار تنقّل الأفراد من جنوب إلى شمال المتوسط مُشكلاً بحاجة إلى حلول، وبالتالي تدعيم السياسات الأمنية والتضييق على حقّ التنقّل. لا تتعامل هذه المقالة البحثية- الميدانية مع الهجرة غير النظامية كممارسة شاذة أو إجرامية يجب البحث عن أسبابها، بل تنطلق من المعادلة البسيطة التي تُفيد بأن الهجرة غير النظامية هي أساسا نتيجة مباشرة لإنشاء الحدود الأوروبية الحديثة ومنظومة شنغان، مهما تعدّدَت أسبابها وسياقاتها الراهنة.

سنُحاول تناول ديناميات هذه الظاهرة وتحوّلاتها، من زاوية تاريخية وانثروبولوجية، عبر المدخل المحلي. لذلك اخترنا مدينتي قليبية وحمّام الغزاز، المتجاورتين والواقعتَين بالشمال الشرقي التونسي، كنموذج لمُدن الهجرة في تونس. للمدينتين أهمية تاريخية بالغة، فقد انطلقت أولى قوارب الهجرة غير النظامية في تونس من شواطئ الوطن القبلي. كما ساهَم ميناء قليبية وقُرب المدينتين من جزيرة “بانتلاريا” الإيطالية في إثراء الثقافة البحرية والمتوسطية للجهة. وستركّز المقالة على الخصوصيات المحلية لهذه الظاهرة، اعتمادا على منهج كيفي تفهّمي، وبناءً على عمل ميدانيّ أساسه المحادثات البحثية وغير الرسمية بشكل فردي وجماعي. إضافة إلى المُلاحظات الميدانية التي استقيناها طيلة فترة تواجدنا في المنطقة.

شاركَ في هذا البحث فاعلون؛ هم أساسا من المهاجرين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 21 و 30 سنة، وأيضا البحّارة والمُنخرطون في ظاهرة الهجرة من أهالي الجهة، وعدد لا بأس به من الذين عبّروا عن اهتمامهم أو إلمامهم بالموضوع. وحفاظا على خصوصية المشاركين تمَّ إعتماد أسماء مُستعارة عند نقل شهاداتهم.

“الزّلاَّقة” كشاهد على حرية التنقل وإجهاضها

بالرغم من حداثة عهد اتّفاقية “شينغن” (1995) وإرساء منظومة مراقبة الحدود الخارجية  لأوروبا، إلا أن الأبحاث الحديثة التي تناولت الهجرة في المنطقة المغاربية، على غرار دراسة فريدة السويح، بيّنَت استبطان هذه الحدود كمعطى طبيعي موجود منذ الأزل[3]، وذلك بناءً على عملها الميداني مع مهاجرين غير نظاميّين في الجزائر. أشارَت الباحثة إلى محدودية الاطّلاع على تاريخ وذاكرة التنقل بين الجزائر وأوروبا، في الفترة التي سبقت فرض التأشيرة في الثمانينات والتسعينات. وهو استنتاج ينطبق أيضا على الحالة التونسية، من خلال ما لمِسناه من المقابلات التي أجريناها مع المهاجرين وطالبي التأشيرة في تونس في بحوث سابقة. 

يَعود هذا التطبيع مع فكرة الحدود والتّسليم بوجودها منذ القدم إلى مسارات سياسية وتاريخية متعدّدة أضفت عليها المشروعية وجعلَتها تبدو كمعطى طبيعي في أذهان كثيرين، ورسّخَت المشروع الأوروبي القائم على سردية مُتخيلة تُوحي بوجود كيان أوروبي موحّد منذ القدم، وله هويّة واحدة تَختَلف وتتفوّق ثقافيا وحضاريا عمّا حوله[4]، أو عبر هيمنَة النظرة الأمنية السائدة للآخر (خصوصا العربي والمسلم) كخطر داهم في الخطاب الغربي ما بعد سبتمبر 2001، وما سُمّيَ حينها بالحرب على الإرهاب. إضافة إلى القطيعة الجيلية التي رسّخَتها الحدود الحديثة ما بعد التسعينات، في التمثلات الجمعية، بين أجيال عاصرَت الحرية النسبية للتنقل بين ضفتي المتوسط، وأجيال أخرى وُلِدَت بعد إرساء التأشيرة ولا تعلَم الكثير عن أبعادها التاريخية. وفي إحدى أمسيات تواجدنا بمقهى البَحّارة بقليبية، وهو مقهى عتيق قرب الميناء يرتَاده البحّارة والعاملون بالميناء، أبدى أحد روّاد المقهى -أستاذ تعليم ثانوي- حماسًا خاصا بموضوع المقالة، مختصرا منعرج إرساء منظومة شنغن في الدور الذي لعبته في تعميق فجوة اللاعدالة بين الضفة الشمالية والجنوبية، قائلا: “هم يريدون حركة تنقل  السلع ويرفضون تنقل الأشخاص”.

تَزامنَت نهاية الصّيف الفارط مع تواجُد عدد من  المهاجرين العائدين من الخارج، ممّن عاصروا حِقبات مختلفة من تاريخ التنقل في الجهة وعلاقتها بالجنوب الإيطالي. ولعلّ من أهم مخرجات البحث الميداني في قليبية وحمّام الغزاز هو الدّراية المعمقة لمختلف الأجيال بتاريخ التنقل في الجهة والروابط التي تجمَعها بالضفّة الشمالية للمتوسط. ويعود هذا الوعي النوعي إلى خصوصية الهوية المحلية وأهمية ميناء قليبية ومركزية البحر في حياة عديد العائلات. إضافة إلى تقاليد التنقل والهجرة، حيث لا تكاد تَخلُو عائلة واحدة من فرد مهاجر أو عايَشَ تجربة الهجرة.

من الملفت للانتباه أيضا الحضور المركزي لـ”الزلّاقة”[5] في كل المُحادثات والنقاشات الجماعية حول الموضوع. و”الزّلاّقة” هي ناقلَة بحريّة سريعة أطلقَتها شركة إيطالية في أواخر الثمانينات، حيث كانت تُؤمّن ثلاث رحلات أسبوعية ذهابا وإيّابا بين ميناء قليبية وميناء مدينة تْرَابَاني الإيطالية غرب صقلية. كانت “الزلاّقة” مُتنفّسا لأهالي قليبية والمناطق المُجاورة في الوطن القبلي، وقد ساعدَتهم على التنقل إلى إيطاليا لغايات مختلفة؛ كالسياحة والتجارة (ما يعرف بتجارة الحقيبة)، وتحضيرات الزفاف أو العَمَالَة الموسميّة. ومن جهة أخرى شكّلَ أيضا قدوم المسافرين المغاربة وغيرهم من مختلف الجنسيات إلى قليبية بغاية السّفر، وكذلك القدوم العكسي للسياح الإيطاليين، مَصدر حركية اقتصادية وسياحية في الجهة.

للتدليل على سرعة الرحلة وبساطتها في ذلك الوقت، مقارنة بالقيود الحالية على الحقّ في التنقل التي يُواجِهها جيله، حدّثني أحد الشبان قائلاً: “قبل فَرض التأشيرة كانت إيطاليا بلدًا مفتوحًا على تونس، وبالأخصّ على قليبية. كانت “الزّلاّقة” بمثابة الحافلة، حيث لا يتطلّب الأمر سوَى دفع ثمن التذكرة وتغيير العملة، ثم الصعود في الناقلة. هناك الكثير من المتقدّمين في السنّ في الحيّ، حدّثوني عن رحلَات قصيرة ويومية قاموا بها إلى إيطاليا من أجل احتساء القهوة أو النبيذ. أما الآن، فإجراءات التأشيرة مُعقّدة، وتتطلّب الانتظار أشهرا عدة، وليس بالإمكان دائما الحصول على الموافقة بإسناد التأشيرة”.

لم تَدُم “الزلاّقة” إلا بضع سنوات، من بداية الثمانينات إلى مطلع التسعينات، وذلك بسبب فرض الدولة الإيطالية التأشيرة على التونسيين. لكن حضورها يتجاوز الزمن، إذ تتجسّد في أذهان مختلف الأجيال كأسطورة محلّية تتناقلها الحكاوي والتاريخ الشفوي، لتُمثّلَ مصدرا من مصادر تكوين الهوية المحلية في قليبية وحمّام الغزاز. وتكاد تَختزل هذه الناقلة البحرية صورة تاريخ طويل من التبادل الثقافي، والخطوط البحرية التي تربِط الموانئ التونسية والإيطالية، فصَارت بذلك رمزًا لحرية التنقل وتجسيدًا للجسور الممدودة بين الضفتين الشمالية والجنوبية للمتوسط، ومصدر حنين إلى “عصر ذهبي” فيه الواقعي والمُتخيَّل. كما أن لحظة إيقافها كمشروع سياحي وتجاري كانت شاهدة على نهاية العلاقة مع الضفة الشمالية، مِثلما عرفها سكان المنطقة طيلة عقود، وبداية زمن مختلف في طبيعة وأساليب التنقل ومَعانيه، وذلك تزامنا مع فرض التأشيرة. شكّلَ هذا التحوّل قطيعة جيلية بين أجيال كانت لديها إمكانية السفر واطلعت على الضفة الأخرى من المتوسط، وجيل لاحق وُلدَ بعد فرض التأشيرة وتشكّلَت أفكاره حول أوروبا من خلال ما يرويه كبار الجهة وما يُشاهِده عبر الوسائط الحديثة.

ينظر جزء هام من هذا الجيل إلى فكرة التنقل كبذَخ بعيد المنال، نتيجة آثار سياسات التشديد في منح التأشيرات ونُدرة فُرَص التنقل النظامي إلى أوروبا. كمَا لمِسنا آثارًا عكسية أخرى لسياسات التأشيرة عَبّرَ عنها حُسام،  أحد شباب حمام الغزاز، قائلا: “الضفة الأخرى للمتوسط لا تُغريني، طالما أنها محاصرة بالبوليس والوثائق والإجراءات. إذا توفّرَت أوضاعا أكثر انفتاحا، سأفكّر في الذهاب إليها بدَافع حب الاطلاع على  التاريخ والمعالم. ولمَ لا التفكير في إنهاء حياتي كرحّالة، شرط أن لا يتم تفتيشي أو التحقيق معي عن سبب تواجدي هناك. أما الآن، وطالما أن الحدود محاصرة، فلا أرغب في زيارة الضفة الشمالية”.

دفَعَ التباين الحاد بين ما عَرفه حسام عن تاريخ التنقل في الجهة ومَا عاصره كشاب وُلدَ في التسعينات، إلى اتخاذ هذا الموقف الجذري الرافض للتطبيع مع منظومة الحدود الحديثة والمرور بها. وهكذا تتعدّد آثار سياسات التأشيرة على تمثلات الأفراد للتنقل بين ضفتي المتوسّط. وهذا ما سنُحاول تسليط الضوء عليه في بقية المقالة.

فرض التأشيرة وظهور “الحرقة” في قليبية وحمّام الغزاز

“عِندما توقّفَت الزلاّقة وفُرضَت التأشيرة، اكتسَت إيطاليا قيمة أكبر في أعين الناس”؛ هكذَا لخّصَ أحد المستجوَبين علاقة أهالي قليبية وحمّام الأغزاز بالتنقل والهجرة في آخر عقدين. وفي هذا التعليق دلالة على أن إيطاليا أو أوروبا لم تكُن “الجنة الموعودة” في نظر سكّان المنطقة، عندما كان التنقّل إليها مُتاحًا. إذ لم تصبح كذلك لدى كثيرين إلاّ راهنًا، وذلك بعد عسكَرَة الحدود وفرض التأشيرة وتشديد القيود على منحِها، ممّا أشعل “الرغبة في الغرب” على حدّ وصف الباحث التونسي وائل القرناوي[6].

أدّى فرض الفيزا الإيطالية على التونسيين سنة 1990، تمهيدًا للإنضمام إلى المنظومة الحدودية الأوروبية الموحّدة التي تنظمها اتفاقيّة شنغن،[7] إلى روَاج أشكال التنقّل اللاّنظامية. فانطلقت أولى قوارب “الحَرقة” بشكلها الحديث من شواطئ الوطن القبلي، قبل أن تَنتقلَ الظاهرة إلى شواطئ المهدية والشابة وصفاقس[8]. ومن المُفارقات أن ميناء ترابَاني الذي كان يَقصده سكّان المنطقة في رحلات منَظّمة ويعودون منه إلى قليبية من دون هواجس تفكير في الاستقرار، أصبح نقطة الوصول المبتغاة لقوارب ذات اتجاه واحد ودُون رجعة.

تُعتبر هذه القطيعة مع تاريخ التبادل بين ضفتي المتوسط من الآثار اللاّمرئية لمنظومة شنغن، والتي وإن سَهّلت التنقل داخل الفضاء الأوروبي فقد عزَلَت بالمقابل الضفة الجنوبية للمتوسط عن محيطها التاريخي. حَصلت هذه القطيعة تدريجيّا عبر مسارات متوازية، قامت أساسا على فرض التأشيرة على مواطني دول الحوض الجنوبي، وتشديد المراقبة على حدود أوروبا الخارجية بالتعاون مع دول الانطلاق[9]. هكذا شَكّل منعرج التسعينات نقطة الانطلاق المركزية لدراسة وفهم جينيالوجيا منظومة الحدود المعاصرة في المتوسط والممارسات الهجرية داخله، بما فيها ظاهرة “الحَرقَة”.

من هذا المنطلق نسعى إلى الاقتراب في هذه المقالة من المُقاربات النقدية الحديثة في دراسات الهجرة والحدود، على غرار مقاربة “استقلالية الهجرة”، لدراسة آثار هذا التحوّل من وجهة نظر الضفة الأخرى،[10] أي الضفة الجنوبية. فعلى عكس النظريات الكلاسيكية للهجرة التي تَتَناول الظاهرة من زاوية نظر الدولة الحديثة وسياساتها وتَختزلها في “عوامل الشّد والجذب” بناءً على المؤشرات الديموغرافية والاقتصادية، أحدثت هذه المقاربة النقدية نُقلَة إبستيمولوجية، من خلال دراسة الهجرة كحركة اجتماعية مُستقلة بذاتها، وكديناميّة مُستمرة تتجاوز أجهزة المراقبة والحدود. مما يَفرض تغيير زاوية النظر نحو تمثّلات وممارسات الفاعلين أنفسهم، أي المهاجرين، للإلمام بتعقيد وحركية الظاهرة التي لم تنجَح منظومات الحدود في إيقافها. ولئن ساهمت النظريات الكلاسيكية في بلورة وإعادة إنتاج السياسات الهجرية الأوروبية عبر التعامل مع مسألة التنقل كمشكل بحاجة إلى حوكَمَة، فإن مقاربة “استقلالية الهجرة” Autonomy of Migration  تؤكّد على ضرورة تجاوز هذا الفخ النظري عبر التركيز على دراسة ذوات المهاجرين، رغباتهم، وقُدرتهم على تحدي منظومات الضبط والمراقبة، من خلال استراتيجيات المقاومة وتحدّي ممارسات التطويع واستعادة حق التنقل.

على هذا الأساس، فإنّ نموذج قليبية-حمّام الغزاز يُشير إلى انعكاس الهوية المحلية وخصائصها الجغرافية والأنثروبولوجية -كمدينة متوسطية- على تمثلاَت وممارسات أهاليها الهجرية وأشكال تَنظّمِها. هذا بالإضافة إلى أن ديناميات الهجرة، في المدينتين، ليست معزولة عن السياق الاجتماعي السياسي العام في البلاد والأزمة الاقتصادية، وما خلّفَته من شعور عام بانسداد الأفق، وهو ما كان له تأثير بالغ على القرار الهجري. إذ أكدت الشهادات الميدانية تحوّلات مُشتركة على مستوى وطني، سبق وأن رصدَتها أرقام الهجرة غير النظامية للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، على غرار ارتفاع نسبة النساء والقصّر من مجموع المهاجرين في آخر ثلاث سنوات[11] واتّساع رقعة الفئات العمرية والطبقية التي صارت معنية بالمشروع الهجري اللاّ نظامي.

مُعظم شهادات هذا العمل تحصّلنَا عليها في الفترة الفاصلة بين مُوفىَّ أوت ومطلع سبتمبر، وهي فترة يُطلق عليها الأهالي “موسم الهجرة إلى الشمال” والتفكير في “الحرقة”. حيث يُشير أغلب المهاجرين الذين تحدّثنا إليهم إلى مركزية فصل الصيف في حياتهم وعلاقتهم بالمدينة، وهو يُوجّه رؤيتهم للاقتصاد المحلي بالجهة. إذ يقترن الصيف بالحركيّة التجارية المرتبطة بقدوم المصطافين وانتعاش قطاعات ومهن عديدة.

“الصّيف بالنسبة إلينا مُتنفّس. في الشتاء يتحدّث الجميع عن الرّغبة في الحَرقة. ولكن بحُلول الصيف يتغير الوضع وتشهد المدينة حركيّة تجارية وتشغيلية، يختفي معها الحديث عن الحرقة. وبمجرّد انتهاء فصل الصيف يعود الجميع إلى التفكير في الهجرة”. هكذا وصف محمّد الهادي، أحد المهاجرين المُرَحَّلين من إيطاليا، علاقة شباب حمام الغزاز بالصيف. ,وهو يوضح أنّ هذه العلاقة الحياتية لا تقتصر على المردودية المادية لفرص العمل الصيفية فحسب، بل يُمثّل الصيف مصدر الترفيه الوحيد لشباب المنطقة على مدار السنة، من خلال ارتياد البحر وممارسة الرياضات الشاطئية والاستمتاع بالأجواء الاحتفالية العامة كالمهرجانات والمناسبات. هكذا تَرتبط نهاية الصيف وبداية الخريف، لدى الكثيرين من المُعطّلين عن العمل أو أصحاب المهن الموسمية والهشّة، بشبح نهاية فُسحة زمنية مُسَكِّنَة والعودة إلى الجدّ وواقع اللاّ يقين، مِمّا يُعيد إلى أذهانهم فكرة الهجرة .

وتُعتبر فكرة تحدّي الحدود قديمة في المدينة، حيث حَدّثنا رواد مقهى البّحارة عن مُهرّبي التبغ والسمك، وقد سبقَت ظاهرة التهريب والمسالك السرية الهجرة غير النظامية في شكلها الحديث. كما أشاروا إلى بعض الأسماء المعروفة من قدماء مُهربّي المهاجرين الذين ذاعَ صيتهم مع بدايات الهجرة غير النظامية وحققوا أرباحا طائلة. لكن عموما تُشير مختلف الشهادات إلى غلبة الطابع المحلي على ظاهرة “الحرقة” من شواطئ قليبية وحمّام الغزاز في السنوات الأخيرة، على عكس مدن انطلاق أخرى برزَ فيها دور شبكات المُهرّبين ووجود أعداد هامّة من المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء مؤخرا، كما هي الحال في مدينة صفاقس. لذلك يُمكن القول أنّ الرّحلات المحليّة التطوّعيّة هي الشكل الهجري الغالب في قليبية وحمّام الغزاز. حيث يُعوّل فيها المهاجرون على تنظيم وإنجاز ذاتيين مبنيين على الروابط الاجتماعية، كالقرابة والجوار والصداقة -الحاضرة بقوة في الجهة- وتقسيم الأدوار وتقاسم الأعباء المادية واللوجستية للرحلة. فتكون بذلك رحلات ذات عدد مصغّر لا تتجاوز العشرة أفراد في غالب الأحيان. كما تَلعَب التقاليد الهجرية والمعارف البحرية لأبناء الجهة، إضافة إلى قصر المسافة للوصول إلى جزيرة بنتلاريا والتي تبلغ 70 كيلومترا، دورًا أساسيا في تسهيل الرحلات، حيث بالإمكان الوصول إلى السواحل الإيطالية في ظرف 4 ساعات، اعتمادًا على معدّات بسيطة. على غرار الحادثة الشهيرة لحمزة الوراسي، لاعب نادي الرياضات البحرية بقليبية الذي وصل إلى الشواطئ الإيطالية بواسطة لَوحِه الشراعي في ظرف ثلاث ساعات وربع. ولم تكن قصة حمزة التي اشتهرت إعلاميا حادثة معزولة، إذ تكرّرت مع شبان آخرين اعتمدُوا على معدّات مختلفة تُستعمل في الرياضات البحرية أو في التنشيط السياحي الصيفي. في هذا السياق، وصف أحد الشبان المستجوَبين سهولة الهجرة غير النظامية قائلا: “الحرقة في قليبية مسألة سهلة، بإمكانك شراء “كاياك” (قارب بحري صغير) من أحد المحلات، ثم تُبحِر إلى إيطاليا”.

من جهة أخرى، أشار مهاجر آخر إلى أن الرحلة لا تَتطلّب أكثر من الحصول على محرّك قارب صغير وبعض الوقود، وذلك من دون الحاجة إلى وساطات أو ميزانية كبيرة. حيث وصف الرحلة قائلا: “إذا كان الطقس مناسبا لا شيء يدعو للخوف. يُمكنك أن ترى إيطاليا من هنا، وتاليا تتّبع طريق الضوء القادم من بنتلاريا”.

أبرزَت مختلف الشهادات أن ممارسات تحَدّي الحدود عبر القدرات الذاتيّة في تأمين رحلات مصغّرة إلى إيطاليا، في وقت وجيز، تُشكّل مصدر فخر للمهاجرين؛ فخر انتمائهم للجهة والبحر ومَعرفتهم بخفاياه. وعبر تعريف أنفسهم بـ”أولاد البحر”، يَعتزّ المهاجرون بهذا الانتماء الذي يُغنيهم عن الاستعانة بشبكة الوسطاء، ويُميّزهم عن بقية المهاجرين القادمين من مناطق أخرى، حيث يصعب على هؤلاء الوافدين تحقيق نفس النتائج رغم انطِلاقهم من نفس الشواطئ.

وبخصوص اللّجوء إلى هذا الخيار اللانظامي في التنقل، تُشير جلّ الشهادات إلى أن معظم المهاجرين على دراية بلا عدالة منظومة التنقّل الرسمية، ولديهم قناعة مُسبقة باستحالة حصولهم على التأشيرة، خصوصا في ظل الانتقائية المُفرطة لنظام شنغن وصعوبة النجاح في اختبار الفرز الاقتصادي والاجتماعي الذي يشكّل عماد هذا النظام. كما ركّزَ آخرون على التكلفة المادية الباهظة لهذا المسلك النظامي وتوظيفه من قبل الدول الأوروبية لغايات ربحية بحتة عبر نهب طالبي التأشيرة. لكن أتتْ إجابة محمد الهادي المقتضَبة وغير المنتظرة الأكثر لفتا للانتباه، عندما أشار إلى البحر وقال: “لماذَا أتحمّل مشقة الذهاب إلى السفارة. إن إيطاليا هنَا، وقريبة منّا”. وهنا يشير هذا التعليق إلى التعقيدات الإجرائية التي باعَدَت بين الضفتين، رغم قربهما الجغرافي.

تُساعدنا تصوّرات الفاعلين أنفسهم للهجرة غير النظامية على إدراكِها كظاهرة أعقَد من اختزالها في عملية اجتياز غير قانوني للبحر، وأكثر تركيبًا من وَصمِها بالجريمة. إذ تُضمر الممارسة أيضا رفضا للاستسلام للقيود المفروضة على الحركة، والمقاومة النشطة لمنظومة الحدود الأوروبية التي تُقصي فئات واسعة من حقها الإنساني في التنقّل. كما أن القُرب الجغرافي من الضفة الشمالية وتَرسُّخ ثقافة التنقُّل في أذهان أبناء قليبية وحمام الغزاز تَجعل من فكرة التأشيرة جهازا أمنيّا ضدّ الطبيعة وضدّ التاريخ، في نظرهم. لذلك يرفُض معظم المهاجرين المرور بأيّ وسائط نظامية كانت أم غير نظامية قصد الوصول إلى أوروبا، ويعبّرون من خلال فكرة “حَرق الحدود” بحريا عن استعادتهم الحق في التنقل، ولكن أيضا استردادهم الانتماء إلى البحر المتوسط ك “أولاد بحر”، مثلما يحلُو لهم دائما التذكير بذلك.

عَسكَرة الحدود وغياب سياسة عمومية للهجرة: إعادة تشكيل علاقة المواطن بالدولة

لئنْ اختلفَت المشاريع الهجريّة ودوافع المغادرة لجلّ من قابلنَاهم، سواء تلك المتعلقة بتأثير تردّي الأوضاع السياسية والاقتصادية على قرارهم أو التعبير البسيط عن رغبة شخصية في خوض تجربة حياتية جديدة، إلا أنهم يشتركون في التعبير عن ارتباط خاص بالجهة والشعور بالحسرة لمُغادرة محيطهم الاجتماعي. وقد ظهرَت صورة الدولة في سرديّاتهم كصورة متنازع عليها، إذ أكّدوا على أنّ وجودهم  المعيشي يرتبط أساسا بمواردهم وجُهودهم الذاتية، والمعطى الطبيعي المتمثل في البحر، وجودة الشواطئ وما تُوفرّه من حركية اقتصادية، أكثر مما يرتبط بمجهودات تنموية للدولة (خلق بُنَى تحتية، توفير فرص عمل).

كما أشاروا إلى وجود روابط عائلية وشبَكات علائقية صلبة في المجتمع المحلي، وهو مُعطى حاضر بقوة خصوصا في حمام الغزاز نظرا لصِغَر حجم المدينة وعدد سكّانها المحدود. تَلعب هذه البُنىَ التضامنية  دورًا تعديليّا في ظل ما وصفوه بغياب الدولة، مما حال دون توسّع “ثقافة الحرقة”، أي وجود موجات كبيرة من المغادرين إلى السواحل الإيطالية. لكن في المقابل، أكّدوا أن توفّر الحاجيات الأساسية، كالأكل والشرب ووجود حركية اقتصادية موسمية في فصل الصيف، لا يَكفي لتوفير جودة الحياة المنشودة أو تحقيق الانتظارات المرجوّة من المستقبل. وهو ما يتطلّب سياسة عموميّة شاملة لمسألة الهجرة، تأخذ بعين الاعتبار كل هذه العناصر الذاتية والموضوعية التي يُعبّر عنها المهاجرون.

حوّلت السيّاسات الأمنية، التي تُجَرّم الهجرة وتَتجاهل حقّ التنقل والإنقاذ، المتوسّط إلى “أكبر مقبرة في العالم”. حيث تُشير أرقام المنظمة الدولية للهجرة إلى أن عدد الضحايا والمفقودين من المهاجرين تجاوز 28 ألف ضحية ومفقود منذ سنة 2014[12]. كما فَشلَت الحملات التحسيسية وسياسات ضبط التنقل في تحقيق أيّ أثر ملموس على تراجع عدد المترشحين للمشروع الهجري اللاّنظامي، نظرا لإهمالها الأبعاد المُركّبة للظاهرة وأسبابها العميقة. يُقابل هذه التّرسانة المؤسساتية الأوروبية مُقاربة سلبية للدولة التونسية، تعتمد أساسا على انتظار ومُجارَاة مبادرات الجانب الأوروبي في التفاوض، ومحاولة استغلال المقابل الزهيد الذي يَطرحه مقابل التعاون في حراسة الحدود والترحيل القسري، على غرار المساعدات وبرامج تكوين إطارات الدولة في “إدارة شؤون الهجرة”. إضافة إلى الوعود بزيادة حِصَص التونسيين في برامج التبادل الطلابي والتكوين والعمل في أوروبا، والتي غالبا ما تكون هامشية مقارنة بالتنازلات المُقدّمَة.

رغم مساحات الفعل المتوفرة بعد الثورة، لم تُبادر الجهات الرسمية التونسيّة بطرح أيّ سياسة عمومية للهجرة، تُمكّنها من كسب المبادرة في التفاوض حسب مصالحها وحقوق مواطنيها في التنقّل[13]. كما أدى الانقسام بين دول المغرب الكبير وشمال إفريقيا إلى إضعاف مواقفها وتحمّلها تبعات المساومة الأوروبية، مثلما تجلّى ذلك في القرار الفرنسي الصادر في سبتمبر 2021 بالتخفيض في حصص تونس والجزائر والمغرب في عدد التأشيرات الممنوحة سنويا، كوسيلة ضغط على الحكومات للتعاون في ترحيل مُواطنيها المتواجدين بصفة غير نظامية في فرنسا[14].

عمومًا، لم يتجاوز التعاطي الرسميّ التونسي مع مسألة الهجرة إعادة إنتاج السياسات الأمنية الأوروبية والاستسلام لمنطق “الهجرة المُنتقَاة”، عبر التسليم الضمني بالسردية الأوروبية المُضَلّلَة التي تدّعي أن محاربة الهجرة غير النظامية سيُقَابلها تقديم تسهيلات في التنقل والهجرة النظامية. ورغم التعاون التونسي الكامل في هذا الصدد، الذي يُؤكده التطور اللافت لعدد المهاجرين من مختلف الجنسيات الذين تمّ منعهم من اجتياز السواحل التونسية، حيث ارتفع من 13 ألف مهاجر سنة 2020 إلى 38 ألف سنة 2022 و 72 ألف سنة 2023 إلى حدود موفى سبتمبر الفارط، فإنه لم يوازِه أي أثر ملموس في تيسير إجراءات التنقل النظامي للتونسيين. على العكس من ذلك، تتّجه الهجرة النظامية من تونس نحو دول الاتّحاد الأوروبي إلى مزيد التضييق والانتقائية، إذ تتبنّى مشاريع قوانين الهجرة الجديدة في كل من فرنسا وألمانيا بوضوح سياسة “الهجرة المُنتقَاة” التي تمنَح تسهيلات حصرية في تسريع انتداب عدد من الاختصاصات دون غيرها حسب حاجيات سوق العمل. في حين ينتظر مئات التونسيين يوميا في طوابير السّفارات الأوروبية والشركات الخاصة لطلب التأشيرة بتكاليف باهظة، في ظل ظروف سيّئة وانتهاكات متواصلة خَلّفَت سخطا شعبيّا واسعًا في الأشهر الماضية[15].

تُشير الشهادات التي تحصّلنَا عليها في قليبية وحمّام الغزاز إلى أن المنطقة ليسَت بمعزل عن مسار الأمنَنَة وعسكرة الحدود، إذ تمّ ملاحظة زيادَة الدوريات الأمنية والرقابة على شواطئ قليبية مقارنة بالسنوات الماضية. كما أفادنا نضال ذويب، المحامي بالمحكمة الابتدائية بنابل، أنه لاحظ تراجع المُرونة النسبية المعهودة في قضايا الهجرة غير النظامية، في الأشهر الأخيرة، نحو مزيد من الزّجر عبر تمسّك وكيل الجمهورية بالتتبع القضائي وتوجيه تهمة تكوين وفاق لبعض المُجتازين، والتي تتجاوز عقوبتها ما ينص عليه قانون 3 فيفري 2004. كما أشار أحد البحارة إلى صعوبة اقتناء مراكب الصّيد في الوقت الحالي في ظل تشديد المراقبة على الهجرة، إذ يتطلّب ذلك فتح بحث أمني في الغرض، قد يدوم ستة أشهر.

عموما، إن مسار الأمنَنَة والخضوع للسياسات الأوروبية ظلّ مهيمنا في إدارة مسألة الهجرة، نظرا لهشاشة السياسات الهجرية واستمرار طابعها القديم، وعَجز منظومات الحكم عن تطوير تصوّر سياسي شامل (حقوقي، سياسي، اقتصادي) يكون كفيلا بمواجهة الضغوطات الأوروبية المستمرة، وفي معظم الأحيان تم ترحيل ملف الهجرة لبعض المنظمات الدولية التي تَماهت مع سياسة تصدير الحدود نحو الضفة الجنوبية للمتوسط. وبعد الإجراءات الاستثنائية التي أعلنَها الرئيس سعيّد في 25 جويلية 2021، تسارع نسق التدخلات الأوروبية في ملف الهجرة، خاصة من طرف الجانب الإيطالي -في تناقض تام مع شعار السيادة الذي يرفعه الرئيس سعيد- وقد تُوجت هذه الضغوطات الأوروبية، بحصيلتين أساسيتين ستكون لهما تأثير على الهجرة والمهاجرين: تمثلت الأولى في الإعلان عن مُذكرة التفاهم مع الاتحاد الأوروبي في 16 جويلية 2023[16]. أما الثانية فقد تجسدت في إعلان تونس منطقة البحث والإنقاذ البحري[17] يوم 19 جوان 2024. وكلا القرارين وضعا البلاد ضمن جوهر السياسة الأوروبية والإيطالية الهجرية، التي تهدف إلى تصدير أعباء حراسة المتوسط. وحسب معطيات أفادنا بها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية فإن سواحل نابل (من ضمنها سواحل قليبية بالأساس) ظلّت منذ سنة 2023 تشهد عمليات إحباط أمني لرحلات هجرة غير نظامية، بلغت ذروتها 23،7 بالمائة من مجموع عمليات الاعتراض الجملية في أكتوبر 2023، لتنخفض النسبة إلى حدود 2.17 بالمائة في ماي 2024. 

أما بالنسبة للمهاجرين أنفسهم، ورغم تكرّر حوادث هجرة القُصّر ومحاولات اجتياز الحدود من قبل أعضاء نادي الرياضات البحرية بقليبية، فإنّ السلطات الجهوية والمركزية لم تتدخّل لمعالجة هذه الظاهرة. كما لم تُوفّر الجهات الرسمية أيّ شكل من أشكال المتابعة النفسية والاجتماعية لفئات هشة ومتضرّرة من الظاهرة، كالقُصّر الذين تمّ إنقاذهم في البحر أو إيقاف اجتيازهم، أو المهاجرين المُرَحَّلين من إيطاليا، والذين عانوا معاملة قاسية وظروفا غير إنسانية في مراكز الترحيل. في هذا السياق، أخبَرَنا أحد المهاجرين المُرحّلين تعرّضه لمحاولة استغلال من قبل أحد عناصر الأمن، في مطار طبرقة، حيث عرضَ عليه خدمة صرف العملة بطريقة غير قانونية. وفضلا عن أن هذا الإجراء يُشكل تجاوزا للقانون التونسي الحازم في هذه المسألة، فإنه يُشكّل أيضًا استغلالا لأوضاع المُرحَّلين لأنه عادة ما يكون تبادل العملة بقيمة أعلى من سعر التبادل الرسمي، مثلما أشارت إلى ذلك شهادة المهاجر المذكور سابقا. كما أخبرنا أيضا أنه تمّ إعلامه حال عودته إلى قليبية بصدور برقية تفتيش في حقه بتهمة اجتياز الحدود خلسة، فوجَد نفسه بمفرده في مواجهة الآثار الاجتماعية والنفسية الثقيلة للترحيل، إضافة إلى التتبّعات الأمنية.

لا تتَرك استقالة الدولة عن القيام بأدوارها الاجتماعية وغياب إستراتيجية شاملة لمعالجة الأسباب العميقة للظاهرة خيارات عديدة أمام المهاجرين القُصّر والممنوعين من الاجتياز والمُرَحّلين، سوَى الاستعداد لتكرار المحاولة في أغلب الأحيان. وهو ما يبيّن الدائرة المُفرغة لسياسات أمننَة الهجرة، وفشلها في تحقيق هدفها الكبير المعلن؛ أي القضاء على الظاهرة. في هذا السياق عبّر خالد عن سخطه تجاه دور الدولة، قائلا: “تتحصّل الدولة على أموال من أوروبا لمَنع  الأفراد من اجتياز الحدود. ولا ندري أين تذهب تلك الأموال. لا توجد مشاريع أو بنية تحتية.  السّبب الرئيسي في الحَرقَة هو الدّولة التونسية”.

لا يُمثّل هذا الخطاب المُشتبك مع سياسات الدولة وخياراتها استثناءً، إذ يلتقي مع مواقف مُشابهة عبَّرَ عنها فاعلون آخرون على غرار طالبي التأشيرة، في بحوث سابقة[18]. يُبرِز نَسق تسييس الهجرة دور التجربة الهجرية في تكوين صيرورات فردية للـ “تذويت السياسي”، ناتجَة عن تفاعل مباشر مع منظومة الحدود بمؤسساتها وأجهزتها المختلفة، كالسّفارات وشركات منح التأشيرة والحرس البحري، كلّ حسب موقعه وخصوصيات مشروعه الهجري. إذ تُحدِث هذه الصيرورة قَطيعة مع الخطاب السائد حول الهجرة ومع الأفكار المُسبقَة المتلقّاة حول التنقّل وحول “أوروبا” كمثال وردِي، وتُطلق ديناميات وفضاءات جديدة لإعادة تشكيل الذات وبناء المواقف والأفعال بناءً على التجارب المُكتَسبة. 

دَفعَ التفاعل المباشر مع التضييقات الحُدودية المتصاعدة المهاجرين إلى مساءلَة علاقة الدولة التونسية بالإرث الاستعماري، وثنائية الشمال والجنوب. كما حَثّهم على إعادة التفكير في دور الدولة وعلاقتهم بها. هناك من يَتّهمها بالتسبب في موجات “الحرقة” عبر الخضوع للهيمنة الأوروبية، أو من يُطالبها باتخاذ مواقف سيادية ملموسة بخصوص التأشيرة، عبر الدفاع عن حق التونسيين في التنقل أو فرض تأشيرة على الأوروبيين كردّ على اللا عدالة في التنقل بين الضفتين، وهناك أيضا من يُسلّم بضُعفها وحتمية خضوعها إلى دول الشمال “كدولة عالم ثالث”، وهو ما يَدفع نحو إيجاد حلول فردية للنجاة من خارج ما تَطرحه الدولة.

في السياق نفسه، عَبّرَ جزء هام من المُهاجرين في قليبية وحمّام الغزاز عن شعور عام بالخذلان من الدولة وفقدان الأمل في تحسين ظروف المعيشة، ممّا دَفعهم إلى التفكير أو الإقدام على الهجرة. في حين أكد البعض الآخر عزوفه عن أي انتظارات من طرف الدولة، وتركيزه على المهارات والموارد الذاتية، إما في خلق فرص عمل في الجهة والتعايش مع الموجود أو عبر توظيف الموارد المُدّخرة من أجل مُغادرة البلاد. عموما تلوح  الانتظارات بخصوص تغيير السياسات العمومية ضعيفة جدا، وهو ما يُفسر الإصرار على المشروع الهجري.

وهو ما يُمكن أن يُفسّر أيضا تَراجع حجم وديناميات الحركات الاجتماعية والمطلَبية في جلّ مناطق البلاد، مقارنة بالسنوات الأولى بعد الثورة، لصالح صعود الحلول الفردية كالهجرة بمختلف أشكالها المتاحة، كُلّ حسب موارده ومَوقِعه الاجتماعي. وإن لم تؤدّ صيرورات التسييس الفردي للمهاجرين إلى ديناميات سياسية جماعية بمفهومها الكلاسيكي، إلا أنّها أنتجَت استراتيجيات مقاومة يُكثّفها التشبث بحق التنقل. ويَبرز ذلك من خلال اجتياز البحر أو تطويع أنظمة المراقبة والتأشيرة والتّحايل على نواميسها، على غرار ظاهرة هجرة التونسيين إلى أوروبا عبر طريق البَلقان.

نستنتج من خلال تعدّد هذه الاستراتيجيات عجز الحدود عن إيقاف الهجرة رغم تشديد آليات العسكرة. إذ يؤدّي النظر إلى الهجرة، كحركة اجتماعية، إلى الإقرار بانتصار الحركة والتنقّل على قوّة الحدود. كما تُعبّر هذه الحركة الهجرية عن معاني سياسية مكثفة، كالتي عبّرت عنها مختلف الشهادات في البحث. واستئناسًا بالمدوّنة النقدية للمفكر الماركسي الإيطالي “ساندرو ميزَادرا” يُمكننا قراءة الهجرة غير النظامية في مدينتي قليبية وحمّام الغزاز، كإحدى تمظهرات المقاومة المادية للحدود الفاصلة بين ضفّتي المتوسط وللتقسيم العالمي للعمل، عبر إستعادة الحق في العبور والتنقّل.

على سبيل الخاتمة: بماذا تُخبرنا قليبية وحمّام الغزاز؟

تُشكّل قليبية وحمّام الغزاز نماذج للمُدن المُتوسطية، في الحوض الجنوبي، التي تُحاول الحدود الحديثة منذ التسعينات عَزلها عن محيطها التاريخي. وتُساعدنا دراسة التنقل من زاوية نظر “الضفة الأخرى” على تجاوز المركزية الأوروبية المُهيمنة في تناول الظواهر الهجرية إعلاميا وأكاديميا وسياسيا. كما تَدفعنا إلى مساءلة الحدود الحديثة ومسارات تكوينها وتَحدّي مشروعيتها.

قدّمَت هذه المقالة معطيات إمبيريقية محلية عن مدن الهجرة في تونس، بناءً على ملاحظات ميدانية ومقابلات مع فاعلين مُختلفين، وسعَت إلى إبراز الأبعاد المُركّبَة التاريخية والأنثروبولوجية والسياسية لظاهرة الهجرة غير النظامية. وهنا تكمُن أهميّة تناول الهجرة من زاوية نظر سرديات المهاجرين والأشخاص في وضع التنقّل، ودورها في  دحض الخطابات الأوروبيّة السائدة التي تعتبرهم أشخاص “مُغرّرا بهم”. ولئن يَختزل الخطاب الرسميّ الأوروبيّ ممارسة اجتياز الحدود في التجريم والربّط الميكانيكي بين الهجرة والمُهربين وشبكات الإتجار بالبشر، فإن الواقع يُعرّي باستمرار عُنف السياسات الحدودية الأوروبية ولا عدالتها. أبعد من ذلك، هي تعبّر أيضا عن مقاومة التفاوت في توزيع الثروة بين الشمال السياسي والجنوب وعدم الاستسلام لقواعد التقسيم العالمي للعمل المفروضة عبر التحكم في حركة الملايين من الأشخاص.

إن سياسات تَصدير الحدود الأوروبية عبر توسيعها الجغرافي والإداري وتحديد ما ومن يُمكنه العبور، سواء عبر سياسات التأشيرة أو مراقبة الشواطئ، هو تجسيد لاستمرارية الخضوع للمعادلة الاستعمارية. كما أنّ نظام الهجرة المُنتقاة المُعتمد في أوروبا، هو مواصلة للعلاقة الاستخراجية بين الشمال السياسي والجنوب القائمة على نهب الثروات والعقول[19]. يمكن بذلك أن تكون مسألة الهجرة مدخلا لإعادة النظر في الاقتصاد السياسي المُهيمن، الذي يقوده منطق “حرية تنقل السلع دون حرية تنقل الأفراد من جنوب المتوسط”، وهو عنوان غير معلن لما يُسمّى بالشراكة الأورو-متوسطية.

هكذا تَقودنا الهجرة إلى مسارات أوسع، وتُحيلنا إلى أسئلة أكبر تُخفيها “مشهدية الحدود” وخطاب الأزمة الذي يعزل التفكير في المربع الأمني والآني. فمن المُجدي أكاديميا وسياسيا تَعميق الدراسات في التمثلات والممارسات الهجرية، مع توسيع دائرة البحث إلى فئات جندرية وعمرية وطبقية مُختلفة، والانفتاح على مناهج واختصاصات متعدّدة للإلمام أكبر بتشكّل الظاهرة وأبعادها. وللمؤسّسَات البحثية العمومية أيضا دَور أساسي في هذا الجهد، عوض الاكتفاء بالمقاربة الأمنية. إذ أن الحركيّة الهجرية في المجتمع التونسي المعاصر هي في قلب عملية إعادة تشكيل علاقة المواطن بالدولة، ومن واجب صانعي السياسات الإصغاء إليها.

للاطلاع على الدراسة بصيغة PDF


[1] تعرف أيضا ب “بنت الرياح” أو “قوصرة” كما أطلق عليها المسلمون. وهي جزيرة تتوسط البحر الأبيض المتوسط وتقع بين تونس وصقلية إذ تبعد 70 كم شرق الوطن القبلي و100 كم جنوب غرب صقلية.

[2] Giglioli, Ilaria. 2017. “Producing Sicily as Europe: Migration, Colonialism and the Making of the Mediterranean Border between Italy and Tunisia.” Geopolitics 22 (2): 407–28. https://doi.org/10.1080/14650045.2016.1233529.

[3] Souiah, Farida. 2019. “‘My Visa Application Was Denied, I Decided to Go Anyway’: Interpreting, Experiencing, and Contesting Visa Policies and the (Im)Mobility Regime in Algeria.” Migration and Society 2 (1): 68–80. https://doi.org/10.3167/arms.2019.020107.

[4] قرم، جورج. 2011. تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب. بيروت. دار الفرابي. 

[5] حمدان, محمد. 2018. “قصة الزلاقة بين قليبية وتراباني الايطالية.” ذاكرة قليبية. http://memoiredekelibia.blogspot.com/2018/04/histoire-de-l-hydroglisseur-entre.html

[6] Garnaoui, Wael. 2022. Harga et Désir d’Occident. Nirvana Éditions.

[7] دخلت الإتفاقية رسميا حيز التنفيذ سنة 1995.

[8] Mabrouk, Mehdi. 2010. Voiles et sel: culture, foyers et organisation de la migration clandestine en Tunisie. Tunis. Sahar Éditions.

[9] Scheel, Stephan, and Martina Tazzioli. 2022. “Who is a Migrant? Abandoning the Statist Point of View in the Study of Migration.” Migration Politics 1 (1): 1–23. https://doi.org/10.21468/MigPol.1.1.001

[10] Khosravi, Shahram. 2019. “What Do We See If We Look at the Border from the Other Side?” Social Anthropology 27 (3): 409–24. https://doi.org/10.1111/1469-8676.12685

[11]   نظرا لظروف البحث الميداني لم نتمكن من مقابلة مهاجرين قصر أو مهاجرات. يمكن الإطلاع على الإحصائيات عبر هذا الرابط: “إحصائيات الهجرة غير النظامية 2023”. https://ftdes.net/ar/statistiques-migration-2023

[12] يمكن الإطلاع على الأرقام المحينة للمنظمة الدولية للهجرة عبر هذا الرابط https://missingmigrants.iom.int/region/mediterranean

[13] جماعة, أحمد. 2023. “رهانات البحث العلمي في موضوع الهجرة في تونس.” Revue de l’Institut des Belles Lettres Arabes (IBLA). Vol86 No 232 Frontières Mobilités Migration.

[14]على عكس الجزائر والمغرب إستجابت الدولة التونسية لهذه الضغوطات من خلال تسريع وتيرة الترحيل عبر مطار طبرقة في تعتيم كلي حول آليات الترحيل والإنتهاكات الحاصلة، مقابل ذلك أعلن وزير الداخلية الفرنسي في سبتمبر 2022 “التراجع التدريجي” على قرار خفض حصص التأشيرة.

[15] في الواقع تسبب القرار الفرنسي بتخفيض حصة التونسيين في التأشيرات الممنوحة بنسبة 30% في توسيع دائرة الرفض لتشمل فئات كانت تتمتع بتسهيلات نسبية في التنقل كالطلبة والأساتذة الجامعيين والأطباء، مما جعل ولأول مرة من مسألة التأشيرة موضوع نقاش عام في تونس أجبر الدبلوماسية الفرنسية على التدخل الإعلامي والتوضيح. ولئن مثل هذا التحول النقطة التي أفاضت الكأس لدى الرأي العام إلا أن تشديد شروط منح التأشيرات سياسة أوروبية عامة تتجاوز لهذا القرار.

[16] Tababi, Khaled. Le mémorandum entre la Tunisie et l’Union Européenne, : vers un renforcement de la dépendance, de l’autoritarisme et de l’Europe forteresse ? European Coucil of Refugees and Exiles working paper, 20 (2023).

[17] محمد رامي عبد المولى. منطقة البحث والإنقاذ البحرية: مسؤولية تونسية ومشاكل أوروبية. المفكرة القانونية، 24 جوان 2024.

[18] Jemaa, Ahmed. “The Schengen Visa Regime in Practice: Externalization and Uneven Mobilities in Post-2011 Tunisia, A Perspective from the Other Side,.” Master’s thesis, Central European University, 2022.  https://sierra.ceu.edu/record=b1441613

[19] M’charek, Amade. 2020. “Harraga: Burning Borders, Navigating Colonialism.” The Sociological Review 68 (2): 418–34.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني