قَمع جمعيّات الدفاع عن المُهاجرين في تونس: جزء من تنفيذ سياسات اليمين الأوروبي


2024-10-31    |   

قَمع جمعيّات الدفاع عن المُهاجرين في تونس: جزء من تنفيذ سياسات اليمين الأوروبي

قبلَ وُصوله إلى السلطة قال الرئيس قيس سعيد في مقابلة صحافية: “لديّ مشروع لإيقاف دعم كل الجمعيات سواء من الداخل أو من الخارج لأنها مطية للتدخل في شؤوننا”. وفي غمرة وصوله المثير للجدل للحكم في سياقٍ لم يكن فيه مكاناً للرويّة، لم يأخذ أحد أقواله تلك على محمل الجدّ، لكنه كان يعني ما يقول. ذلك أن طبيعة نهجه الشعبوي تفترض ضرورةً تفكيك كل الأجسام الوسيطة، ومن بينها منظمات المجتمع المدني. وما التمويل الخارجي، سوى ذريعة لنزع الشرعية عنها. حيث سيطال هذا التفكيك المنهجي، النسيج المدني كله سواء كان تمويله خارجياً أو ذاتياً. 

لكن هذا الإستعداد الشخصي والفكري المعادي للجمعيات، ليس وحده من يحرّك اليوم سياسات النظام الحاكم في تونس، سيما تجاه الجمعيات التي تَعمل في مجال مساعدة المهاجرين. ذلك أن هذه السياسات القمعية، والتي تترواح بين اعتقال مسؤولي هذه الجمعيات وبين قطع مصادر تمويلها أو تجميد نشاطها بحكم الأمر الواقع، هي جزء من سياسة أوسع، تقودها الحكومات الأوروبية اليمينية واليمينية المتطرفة لوقف تدفقات الهجرة، ضمن مشروعٍ يجعل من دول الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسّط حُرّاساً للضفة الشمالية.

وعلى نحو أكثر شمولاً، يبدو التناقض بين المجتمع المدني و الأنظمة اليمينية الشعبوية، حاداً وواضحاً. حيث تعتمد العديد من المنظمات، وبخاصة تلك التي تركز على مسائل مثل حقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، على التمويل والشراكات الدولية، مما يجعلها أهدافًا سهلة للزعماء الشعبويين الذين يصورونها كقنوات للنفوذ أو القيم الأجنبية. وهذا يُغذي رواية مفادها أن المجتمع المدني يُمثل مصالح خارجية بدلاً من الأولويات الوطنية، مما يعزز الشكوك العامة أو العداء تجاهها. وفي كثير من الأحيان يحاول الزعماء الشعبويون احتكار السرد السياسي، وتأطير القضايا في إطار الاختيار الثنائي بينهم وبين ما يسمونهم “أعداء الشعب”. في المقابل تُقدم منظمات المجتمع المدني وجهات نظر وحلول معقدة تتحدى السرديات التبسيطية، وتقاوم السرديات الشعبوية وتسلط الضوء أحيانًا على جوانب أقل ملاءمة في حكمها. فضلاً عن ذلك فإن منظمات المجتمع المدني بحكم نشاطها المضاد، من خلال المناصرة والبحث والتعبئة، تُسلط الضوء في كثير من الأحيان على قضايا مثل الفساد، وعدم المساواة، أو التدهور البيئي. ولأن الزعماء الشعبويين يقدّمون أنفسهم في كثير من الأحيان باعتبارهم أبطال مكافحة الفساد والعدالة الاجتماعية، فإن الانتقادات من جانب منظمات المجتمع المدني يمكن اعتبارها تحديًا لسلطتهم وشرعيتهم. ورغم أن كل هذه الأسباب وغيرها حاضرة بقوة في النموذج التونسي، إلى جانب نماذج كارثية في المجتمع المدني نفسه شوّهت العمل المجتمعي على مدى أكثر من عقد، إلا أن التناقض القائم اليوم بين نظام قيس سعيد والمنظمات العاملة في مجال الدفاع عن المهاجرين يندرج ضمن بعد دولي يتساوق فيه النظام مع السياسات الأوروبية ضمن نموذج الإستفادة من ريوع موقع البلاد الجغرافي.

نموذج مِيلوني 

في مطلع الشهر الحالي ألقت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني خطاباً أمام مجلس الشيوخ قالت فيه بزهو :”أنا فخورة بأن إيطاليا أصبحت نمُوذجاً يحتذى به. لقد رحّبَت بارتياح كبير بالاهتمام الذي أولته، في الأسابيع الأخيرة، مختلف الحكومات الأوروبية من مختلف الألوان السياسية -فرنسا وألمانيا والسويد والمملكة المتحدة بسياساتنا، مما يدل على البراغماتية والفعالية التي مَيزَت عملنا في مكافحة الهجرة غير الشرعية”. مُشيرةً في الوقت نفسه إلى انخفاض نسبة وصول المهاجرين إلى السواحل الإيطالية في عام 2024 بــ 60% مقارنة بعام 2023، وبنسبة 30% مقارنة بعام 2022. دون أن تنسى أن “الفضل في ذلك يعود إلى  المذكرات التي تم توقيعها مع مع تونس ومصر”.  لكن اللاّفت في خطاب ميلوني هو الهجوم الذي شنته على منظمة “سي ووتش” غير الحكومية، فقالت :”من المخزي أن تقوم المنظمة بتعريف خفر السواحل بأنهم المتاجرين الحقيقيين بالبشر (…) فهم يريدون إعطاء الضوء الأخضر للمهربين الذين يصفونهم بالأبرياء (…) وهي تصريحات غير جديرة بالثقة وتَحجب الدور الذي تلعبه بعض المنظمات غير الحكومية ومسؤوليات من يموّلها”. 

هذا الخطاب التخويني لميلوني تجاه إحدى المنظمات العاملة في مجال الإنقاذ البحري، ينطوي على نهج كاملٍ يقوم على جعل مسألة التعاطي مع الهجرة مسألة دولتية، تُشرف عليها الحكومات وأجهزتها القمعية دون أي تدخلٍ من أي جهات غير حكومية، وهو نهج يقارب الهجرة ضمن مسألة أمنيةٍ وليست ظاهرة بشرية تدفعها تعقيدات جيوسياسية واقتصادية ومناخية أكثر اتساعاً من مجرد السيطرة على ضفتي البحر المتوسط. وهو خطاب شديد التطابق مع خطاب الرئيس قيس سعيد، الذي قال في ماي 2024، خلال جلسة لمجلس الأمن القومي: “لا مكان للجمعيات التي يمكن أن تحل محل الدولة”، واصفا قيادات هذه الجمعيات بـ “الخونة” و”العملاء”. 

قبل ذلك، كان البرلمان الإيطالي قد أقر في عام 2023، مرسوماً يضع مدونة سلوك لسفن جمعيات إنقاذ المهاجرين، على الرغم من انتقادات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية بأن ذلك سيُعرّض حياة المهاجرين للخطر. وبموجب القانون الجديد يتعين على السُّفُن طلب الوصول إلى الميناء والإبحار إليه دون تأخير بعد عملية الإنقاذ، بدلا من البقاء في البحر بحثا عن قوارب المهاجرين الأخرى المُعرّضة للخطر، والكشف عن معلومات مفصلة حول أنشطة الإنقاذ الخاصة بهم. في السابق، كانت السّفُن التي تديرها جمعيات خيرية أو منظمات غير حكومية تقضي في كثير من الأحيان عدة أيام في وسط البحر الأبيض المتوسط وتستكمل بانتظام عمليات إنقاذ متعددة قبل التوجه شمالًا نحو إيطاليا. وينص القانون على أن الربان الذي ينتهك القواعد الجديدة يواجه غرامات تصل إلى 50 ألف يورو، ويمكن أن تؤدي الانتهاكات المتكررة إلى احتجاز سُفنهم. وبعد ساعات من التصويت البرلماني، أعلنت منظمة أطباء بلا حدود الخيرية أن سفينتها جيو بارنتس تم احتجازها لمدة 20 يومًا وفُرِضَت على المنظمة غرامة قدرها 10 آلاف يورو، بعد نقل السفينة 48 مهاجراً إلى ميناء أنكونا. فضلاً عن ذلك تستعمل حكومة ميلوني الإجراءات البيروقراطية لتدمير قدرة هذه المنظمات على العمل. حيث تُجبر سفن إنقاذ المهاجرين على الرسو في أماكن أبعد إلى الشمال على طول ساحل إيطاليا مما يعني رحلات طويلة ترفع تكاليف تشغيلها وتضغط على قدرتها على مواصلة إنقاذ الأرواح. وقد أدانت منظمة أطباء بلا حدود و16 جمعية أخرى هذه القواعد ، وقالت إنها ستؤدي إلى غرق المزيد من الناس في البحر. 

تحالف الشعبويّات

لكن هذا التطابق في التوصيفات والتوجّهات ليس مجرد تطابق فكري بين الشعبويّات التي تَحكم ضفتي المتوسط، ولكنه جزء من سياسات اليمين الأوروبي المُتطرف لاستخدام أنظمة جنوب المتوسط في السيطرة على الحدود البحرية للاتحاد الأوروبي. وتتضمّن هذه السياسات، إلى جانب تصدير الحدود من خلال دعم حرس الحدود وصرف المساعدات المالية وتقديم الدعم السياسي وإضفاء الشرعية الدولية، تفكيك الأجسام المضادة، وهي منظمات المجتمع المدني التي تُساعد المهاجرين سواء في عرض البحر من خلال الإنقاذ أو عند الوصول بالدعم النفسي والطبي والقانوني.

وتَنطوي سياسات التفكيك على مروحة عريضة من العمليات تشمل التشويه ونزع الشرعية والقمع الأمني والقضائي والاعتقالات وقطع التمويل ونزع التراخيص القانونية وغيرها من وسائل المراقبة والعقاب. إلا أن تطبيق إجراءات شديدة القمع ضد المنظمات التي تعمل في المجال الأوروبي ينطوي على مخاطر، بحكم وجود مجالٍ معقول من استقلالية القضاء وكذلك التشريعات الأوروبية الحقوقية، ولذلك يعتمد اليمين الأوروبي على استراتجيات أكثر شدةً مثل التشويه والتخوين ونزع الشرعية. وقد ظهر هذا الاستعصاء الحقوقي الأوروبي في التقرير الأخير، الذي نشرته أمينة المظالم الأوروبية إيميلي أوريلي (هيئة رسمية أوروبية)، بشأن الاتفاق الذي وقّعه الأوروبيون مع الرئيس قيس سعيد حول الهجرة. والذي وردَ فيه أن المفوضية الأوروبية قد فشلت في الكشف عن النتائج التي توصلت إليها التحقيقات حول حقوق الإنسان في تونس قبل توقيع اتفاقية الحكومة التونسية. في المقابل تُعاني المنظمات التي تعمل في جنوب المتوسط ومنها تونس من إجراءات أكثر تشدداً بسبب غياب الحماية القضائية وتفكك نسيج الدعم الشعبي والحقوقي.

هذا النموذج الذي تقوده ميلوني، يبدو أنه صار مغرياً لطيف واسعٍ من قادة اليمين الأوروبي، ليس فقط المتطرف، بل حتى المحسوب على الوسط. حيث يسلك وزير الداخلية الفرنسي الجديد برونو ريتيو نهجاً قريباً لإحكام السيطرة على تدفق المهاجرين من خلال مزيدٍ من تشديد الإجراءات ومراقبة الحدود، وكذلك الهجوم على منظمات المجتمع المدني التي تساعد المهاجرين. حيث هاجَمَ في مقابلة مع مجلة فيغارو، الجمعيات التي تُساعد اللاجئين والمهاجرين في مراكز الاعتقال الإداري. كما استنكَرَ الدعم المالي الذي تتلقاه هذه المنظمات من الدولة. مشيراً إلى أن الدعم القانوني والاجتماعي الذي تُقدّمه هذه الجمعيات يجب أن يكون بيد الدولة فقط. وهي سياسة تُريد إعادة النظر في الدور الرقابي الذي تلعبه الجمعيات في أماكن الاحتجاز، تمهيداً لعمليات ترحيل واسعة النطاق، ربما ستَشمل حتى الذين يَكفل لهم القانون الفرنسي والأوروبي البقاء. بخاصة وأن الوزير الفرنسي قد أعلن عن رغبته في تمديد المدة القصوى للاحتجاز في المراكز الإدارية من 90 يومًا إلى 180 أو حتى 210 يومًا. 

فضلاً عن ذلك فإن هذا الهجوم يَستند على مشروع التقشف غير المسبوق، الذي تقوده حكومة ميشيل بارنييه في اتجاه خفض الميزانية بأكثر من 40 مليار دولار. لذلك يزعم ريتيو أن سحب الدعم العام عن الجمعيات يُمكن أن يجلب مليار يورو لخزينة الدولة. وهنا تظهر بوضوح أشكال تلازم السياسات الشعبوية العنصرية مع برنامج حكمها النيوليبرالي، القائم على التضحية بالفئات الأشد هشاشةً لحماية الفئات الأكثر هيمنةً. وهو تلازم إقتصادي وسياسي يكاد يكون معمّماً في جميع دول الكتلة الأوروبية، أين نشهد تصاعداً لسياسات كراهية الأجانب والعنصرية المؤسسية، وأين نشهد تحولاً في السياسات تجاه جنوب المتوسط حيث تتجه الحكومات الأوروبية إلى تأسيس سياستها المستقبلية ضمن اتفاقيات مع الحكومات، وذلك بعد عقود من المراوحة بين الحكومات والمجتمع المدني، لكن ضمن علاقات القوى المختلة دائماً لصالح شمال المتوسط. فمن خلال تقديمها الدعم المالي والشرعية السياسية لأنظمة الجنوب، تُحافظ الحكومات الأوروبية على الدور الوظيفي الذي تقوم به هذه الأنظمة من ضبط ومراقبة الحدود وإدارة فوائض المهاجرين.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني