بتاريخ 17-10-2018، عمد عدد من سكان حي عامر من مدينة المحمدية التونسية[1] إلى هدم جانب من المعلم الأثري الحنايا[2] الذي يقع قبالة محلات سكنهم. وفي تناغم تام مع هذه الخطوة، نُشر بيان بالصفحة الرسمية للمكتب المحلي لحركة النهضة بالمحمدية[3] تضمن “طلبا ملحا لوزارة التراث لهدم الحنايا لما أصبحت تمثله من خطر حقيقي لحياة المتساكنين”[4]. كان تبرير الهدم والدعوة له أن الحنايا تشكل حاجزا يمنع انسياب مياه الأمطار نحو مجاريها الطبيعية بما يؤدي لتعرض أحياء المدينة المقابلة لها للفيضانات ومنها تلك التي عرفتها يوم 16-10-2018 والتي ألحقت ضررا بعدد من المساكن.
لم ينتبه المعتدون إلى أن الحنايا التي يتهمونها بكونها مصدر الضرر الذي لحق بمساكنهم يعود تاريخها للقرن الثاني ميلادي بما يعني أنها أقدم بعشرات القرون من حيهم الذي لم يحترم في مثال تهيئته حرمة المعلم الأثري ولا ضرورة ضمان سيلان مياه الأمطار في اتجاه مجاريها الطبيعية في ظل افتقاره لنظام صرف خاص بها. وبدا ما عدّ في حينه مساندة لهم في موقفهم من الحزب الذي يحوز الأغلبية في المجلس البلدي[5] مؤشرا ينذر بمخاطر أكبر تهدد التراث المادي التونسي. لم يكن إعلان وزارة الثقافة تشكيها جزائيا ضد المعتدين كافيا لمنع المخاوف منها. وقد دفعت هذه المخاوف جانبا من الإعلام التونسي ومن ناشطي المجتمع المدني للتشهير بالاعتداء الحاصل وتحميل حركة النهضة في شخص مكتبها المحلي بالمحمدية مسؤوليته. وكان من أثر هذه الإدانة أن أصدر هذا المكتب بتاريخ 19-10-2018 بلاغا ورد فيه “أن البيان الذي تم تنزيله في صفحته” في الموضوع “هي مطالب أهالي ومتساكني حي عامر المتضرر الأول في الفيضانات الأخيرة ولا دخل لحركة النهضة فيها” ليضيف “أن الأهالي أكدوا على ضرورة هدم الجزء المقابل لمنازلهم وهو جزء صغير وتغييره بقنوات تصريف تحت الأرض وليس هدم الحنايا ككل”. وقد دفع هذا الموقف لأن يصدر لاحقا بتاريخ 21-10-2018 بيان من المكتب الإعلامي لحركة النهضة مفاده “أن الحركة تعتبر رعاية الآثار والمعالم التَّاريخية التي تزخر بها ولاية بن عروس ومعتمديّة المحمديّة خاصّة من أهم مطالب أبناء الجهة، وقد كان هذا المطلب على رأس برامج حركة النهضة خلال كل المحطّات الانتخابية”[6].
وبقطع النظر عن محاولة تصحيح الصورة التي صدرت عن قيادة حزب حركة النهضة، فقد كشف تعاطي جانب من النخبة السياسية بالمحمدية تتمتع بسلطة القرار المحلي مع فيضانات حي عامر عن توجه في إدارة أزمة التهيئة العمرانية بالمحمدية للحلول السهلة المتمثلة في الاعتداء على التراث الأثري مع تسويق لهذا الاعتداء يقوم على الادعاء أنه سيكون محدودا. ويذكر هذا التوجه بما سجل من اعتداءات في ستينات وسبعينات القرن العشرين على الموروث الثقافي بدعوى مسايرة متطلبات التطور الحضاري والذي كان من أثره ما تم من طمس للخصوصية المعمارية لعدد من المدن والقرى التونسية، وما يشاهد اليوم من غياب لقيم الجمال المعماري في التخطيط المدني. ويفرض منع تكرار تلك التجربة التنبه لكونها نهضت على تقديم الحلول السهلة المتمثلة في الهدم ولم تتّجه للبحث عن الحلول الحقيقية للمشاكل العمرانية: تلك المشاكل التي لا يمكن معالجتها جذريا إلا بالإصلاح والبناء. ويتعين هنا تحقيقا لهذا الإصلاح المنشود الاعتراف لسكان حي عامر وغيره من الأحياء السكنية التي شيدت من دون دراسات عمرانية بحقهم في حماية حقيقية من الفيضانات من خلال إرساء نظام صرف لمياه الأمطار يضمن سلامتهم في ذات الوقت الذي يحافظ على موروث بلدهم الحضاري.
كما يجب التنبه لكون الوعي المجتمعي بأهمية الموروث الحضاري كان في هذه التجربة صمام الأمان الذي حمى حنايا المحمدية من تفاقم الاعتداءات التي تتعرض لها، بما يوجب العمل على نشر ثقافة تعميرية تعطي لهذا الموروث مكانته المستحقة.
[1] إحدى بلديات ولاية بن عروس – من ضواحي العاصمة تونس –
[2] شيدت الحنايا خلال القرن الثاني الميلادي وتتمثل في منشأة نقل ماء من منابعه في زغوان إلى قرطاج على مسافة تتجاوز 130 كلم . وتعد من أهم المنشآت المائية في الامبراطورية الرومانية . تولى خلال القرن 13 الخليفة الحفصي ” الممستنصر بالله الحفصي إعادة تشييدها. لازالت إلى اليوم أعمدتها بارزة على مساحات ممتدة ويعد الجزء الموجود منها بالمحمدية الأهم من جهة امتداده و دلالته على أهميتها.
[3] بالفايسبوك
[4] للاطلاع على نص البيان يراجع مقال “النهضة تطالب بهدم الحنايا ” صحيفة الشارع المغاربي 19-10-2018 .
[5] يمثل حركة النهضة بالمجلس البلدي لبلدية المحمدية المكون من 30 عضوا 18 عضوا بما يعني انها تحتكم بمفردها على الأغلبية التي تخول اتخاذ القرارات .
[6] ورد في البيان الذي صدر بتاريخ 21-10-2018 عن المكتب الإعلامي لحركة النهضة ” على إثر ما تمّ تداوله على بعض المواقع الإعلامية وصفحات التَّواصل الإجتماعيّ من أخبار حول دعوة المكتب المحلي لحركة النهضة بالمحمديّة إلى إزالة معلم “الحنايا” وفي إطار إنارة الرأي العام يُهمّ حركة النّهضة توضيح ما يلِي : 1.إعتزاز الحركة ومناضليها وأنصارها بالموروث التَّاريخي بما يمثلهُ من ثروة رمزيّة وماديّة تعكس عراقة وحضارة تونس وشعبها. 2..تنفي الحركة صدور أي بيان رسمي عن المكتب المحلي بالمحمدية يدعو إلى إزالة هذا المعلم التَّاريخي الوطني 3..تعتبر الحركة أن رعاية الآثار والمعالم التَّاريخية التي تزخر بها ولاية بن عروس ومعتمديّة المحمديّة خاصّة من أهم مطالب أبناء الجهة، وقد كان هذا المطلب على رأس برامج حركة النهضة خلال كل المحطّات الانتخابية. 4. .تبذل النائبة بمجلس نواب الشعب عن ولاية بن عروس ورئيسة اللجنة الجهويّة للثقافة هالة الحامّي وبقية نوّاب الحركة عن الجهة مجهودات كبيرة بالتنسيق مع وزارة الثقافة والمعهد الوطني للمحافظة على التراث والولاية وبلديّة المحمديّة والمُجتمع المدني من أجل تسجيل المعالم التاريخيّة غير المسجلة للحدّ من عمليّات السطو والسرقة والبحث عن التمويلات الضروريّة لترميمها وصيانتها وادراجها ضمن الدّورة الثقافية والاقتصاديّة. 5.تثمّن حركة النهضة مجهودات الهياكل الثقافية بالجهة التي وفقت في ترميم معالم تاريخيّة هامّة منها موقع أذُونة الأثري بمعبده ومسرحه، والمساعي الحثيثة لإيجاد حلول لإنقاذ دار الباي بحمام الأنف وسرايا الباي بدهليزه وحمَّامه بالمحمديّة.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.