قوى أوروبية رفعتْ لواء فلسطين


2023-11-18    |   

قوى أوروبية رفعتْ لواء فلسطين

“يوجد ثلاث كتل اليوم: اليمين، واليمين المتطرف، ونحن”.
(جان-لوك ميلونشون خلال ندوة في 12/10/2023)

اصطفّت القوى والحكومات اليمينية في دول أوروبا والشمال عموما إلى جانب إسرائيل متبنيّةً سرديّة “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”[1]. في المقابل، تمايز موقف حكومتي أسبانيا وإيرلندا في دعوتهما إلى وقف إطلاق النار، وبرزت مواقف مناصرة للحقّ الفلسطيني أغلبها من قوى وأحزاب اليسار، تمّ التعبير عنها من خلال سلسلة تظاهرات أخذتْ منحى تصاعديا من حيث الحشد. وفي موازاة ذلك، تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي إلى ساحة مبارزة بين قوى اليمين وقوى اليسار. ونقل عدد من نواب الجدل إلى داخل برلمانات أوروبية، وهو جدل نقلته العديد من وسائل التواصل.  وإزاء توسّع هذا الحراك، يدور التساؤل اليوم حول مدى فعاليّته في وقف العدوان المستمرّ على غزّة أو في المحاسبة مستقبلاً على جرائم الحرب، أو حتّى حول مدى عمق تأثيره على المدى الطويل على السياسات الخارجيّة لدول الشمال.

ونظراً لأهميّة هذا الجدل، تفنّد هذه المقالة أبرز مضامين خطاب اليسار الأوروبي، ولعلّ أبرزها الخطاب المعتمد من قبل أحزاب وحركات سياسية مثل “حركة الديمقراطية في أوروبا 2025” (Diem 25) الذي يعبّر عن موقفها مؤسّسها وزير مالية اليونان السابق يانس فاروفاكس (Yanis Varoufakis)، وحزب “نحن قادرون” (Podemos) الإسباني الممثل بأمينته العامة يوني بِلارّا (Ione Belarra) وهي وزيرة في الحكومة الإسبانية الحالية، والرئيس السابق لحزب العمال في المملكة المتحدة جيرمي كوربن (Jeremy Corbyn)، وحزب “فرنسا غير-الخاضعة” (La France Insoumise-LFI) الممثّل بالمرشّح السابق للرئاسة جان -لوك ميلونشون (Jean-Luc Mélenchon). وكان هؤلاء في الأسابيع الماضية في طليعة التظاهرات الداعية لوقف العدوان. كما تسلّط المقالة الضوء على بعض الحراكات البرلمانية بخاصّة برلمانات دول الاتّحاد الأوروبي.

بِلارا تحثّ حكومتها والاتّحاد الأوروبي على محاكمة نتنياهو

قبل الكلام عن دور “Podemos” في مناصرة فلسطين، نتوقّف في إيجاز مختصر لنشأته، الشبيهة لتجربة إئتلاف “تسيبراس” عقب الأزمة المالية في اليونان أواخر عام 2009[2]، كتجمّع لمعارضي التقشّف والارتهان للدين الخارجي. وإذ عانت إسبانيا من أزمة اقتصاديّة في الفترة نفسها، ظهر إئتلاف “Podemos” على يد مفكرين وناشطين بهدف “تحويل النقمة إلى وسيلة تغيير سياسي”، بتأثير من ثورتيْ تونس ومصر الحاصلتين في 2011. وتحوّل الائتلاف من ثمّ إلى حزبا عام 2014، ليصبح ثاني الأحزاب الإسبانية من حيث عدد المنتسبين. وهو يشارك اليوم في الحكومة ضمن تحالف بزعامة حزب “اشتراكي” يرأسه بيدرو سانشيز.

ومنذ  7 تشرين الأول، كان ملفتاً، تأكيد صفحة الحزب على منصة “إكس” ، على سياق تطوّر الأحداث في الأراضي المحتلّة، حيث جاء أن الهجوم على غلاف غزة إنما حصل “في العام الذي شهد مقتل أكبر عدد من الفلسطينيين؛ والعملية العسكرية واسعة النطاق في جنين واستمرار العنف ضد السكان الفلسطينيين في المستوطنات والضفة الغربية”. وإذ أشار الحزب إلى أن “المجتمع الدولي والاتحاد الأوروبي يدينان العنف بشكل انتقائي، بينما يتسامحان مع الإفلات من العقاب الذي تتمتع به إسرائيل”، أضاف أنهما “يشجعان عنف المستوطنين ويعززان الاحتلال والفصل العنصري” لينتهي بعبارة “كفى معايير مزدوجة”.. ومنذ بداية العدوان على غزّة، تحوّلت صفحة الحزب إلى ناقل لأبرز مستجداته والجرائم المرتكبة خلاله، مركّزة أكثر على نقل الخطاب المضاد للسرديّة والبروباغندا الأوروبيّة المشيطنة للفلسطينيين. كما دعا  “Podemos” إلى تظاهرات عدة مناصرةً للفلسطينيين ورفضاً للإبادة الجماعية. ولم تقتصر التظاهرات على شوارع المدن الكبرى مثل مدريد وبرشلونا، بل دخلت أيضاً إلى مدرجّات ملاعب كرة القدم في مناسبات عدّة وتناقلتها وسائل التواصل الإجتماعي.

من جهتها، زعيمة الحزب، ووزيرة الحقوق الاجتماعية في إسبانيا يوني بِلارّا التي قادت العديد من تلك التظاهرات دعما للشعب الفلسطيني، وكانت صرّحت في 7 تشرين الأوّل، مستبقة البروباغندا الأوروبيّة:”اليوم سيدين العالم أجمع الهجوم الذي تشنه حماس، بينما يظلون كل يوم يلتزمون الصمت المتواطئ في مواجهة الهجمات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.” وبدورها، حوّلت بلارا صفحتها على منصّة “اكس” إلى مساحة لنقل أخبار غزّة، ولنقل الخطابات المفنّدة لسرديات الصراع. ودعت في الأيام الأولى إلى فرض عقوبات اقتصاديّة على نتنياهو وكل المسؤولين عن ارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة، وإلى وقف فوري للحرب. وتناقلت وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع عدّة من خطاباتها. كما كانت مواقف مماثلة لزملائها من وزراء “بوديموس” في الحكومة.  ولعلّ أبرز خطابات بِلارّا، جاء في 16 تشرين الأوّل، قالت فيه أن إسرائيل تنفذ إبادة جماعية مخطط لها في غزة، واتهمت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالتواطؤ في جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل، وأنهما يشجعان سياسات الاحتلال والفصل العنصري. وأضافت أن تبرير جرائم إسرائيل هو نفاق (hypocracy). وقالت أنها تنظر بقلب مثقل إلى الصور المؤلمة القادمة من فلسطين وإنّ حركة بوديموس لا يمكنها أن تتجاهل عقودا من معاناة الشعب الفلسطيني. كما حذرت من قمع حريّتيْ التعبير والتظاهر في أوروبا، من منطلق أنها حقوق أساسيّة للإنسان ويجب حمايتها.

كوربن يقود تظاهرات لندن “الأكثر حشداً في تاريخها”

لندن لم تكن أقل حشداً في التظاهرات كما نستشف من تظاهرة السبت 11 تشرين الثاني، بالتزامن مع ذكرى انتهاء الحرب العالمية الثانية. وقد أثارت رمزيّة التاريخ اعتراضات من الحكومة والأحزاب اليمينيّة. وحاولت وزيرة الداخلية منع التظاهرة، بعدما كانت وصفت سابقا هذه التظاهرات بمسيرة الكراهية، معتبرة أن “التلويح بالعلم الفلسطيني قد لا يكون قانونياً”. ولم يؤثّر كل ذلك في حجم التظاهرات المتلاحقة ا والتي حشدت تكرارا مئات الآلاف، علما أن التظاهرة الأخيرة اعتبرت الأكثر حشداً في تاريخ بريطانيا منذ التظاهرات الرافضة للحرب على العراق. وتجدر الإشارة إلى خلاف وقع بين رئيس شرطة لندن والوزيرة بعدما اعتبرته متساهلاً مع المتظاهرين، وكأنها توحي أنه كان يجب قمعهم. ويبدو أنها سبّبت حرجاً لرئيس الوزراء ريشي سوناك الذي أقالها من منصبها، رغم استمراره في إعلان مواقف داعمة للعدوان الإسرائيلي.

لدى مشاهدة صور تظاهرات لندن، تجد دائماً في المقدمة زعيم حزب العمال السابق جيرمي كوربن. وحين تطالع صفحته على منصّة “اكس” قلما تجد تعليقا لا يتعلق بالعدوان على غزّة[3]، حيث تهيمن عليها تعليقاته المتصلة بالتظاهرات الداعية لوقف العدوان وتحرير فلسطين. وكان دعا منذ 7 تشرين الأوّل لوقف إطلاق النار على نحو طارئ منعاً للتصعيد، وقال: “نحن بحاجة إلى طريق للخروج من دائرة العنف المأساوية هذه: إنهاء الاحتلال هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق السلام العادل والدائم”. وكرّر الرسالة ذاتها في تظاهرة في 14 تشرين الأوّل. وقال في اليوم التالي أنّهم سيستمرّون في التظاهر طالما قصف غزّة مستمرّ، وحتى تحقيق إنهاء الاحتلال والوصول إلى السلام العادل والشامل. ثمّ بدأ خطابه يتوجّه أكثر نحو قادة بريطانيا وأوروبا إثر المجزرة الذي وقعت في المستشفى الأهلي. ودعا في تظاهرة أخرى إلى وقف الحصار على غزّة، قال “إن عدد أكبر من الشاحنات توصل الأغذية إلى المتاجر على طريق واحد في بلدتي (constituency)، مما هو متوفّر ل 2.2 مليون شخص في غزة”. وعبّر عن سخطه أمام ثقافة يتم دفنها بأكملها تحت الأنقاض: “ثمة فنانون لن نعلم حول أعمالهم، وأساتذة لن يقوموا بإعطاء دروسهم، وأطفال لن تسمع ضحكاتهم أبداً…”. وفي 28 تشرين قامت تظاهرة جديدة بعد إمطار غزّة بالقصف ليلاً في موازاة قطع اتصال الإنترنت عنها.

في 1 تشرين الثاني، أرسل كوربن رسالة إلى رئيس الوزراء البريطاني عبّر فيها عن ألمه العميق بسبب رفض الأخير الدعوة إلى وقف لإطلاق النار، وانتقده لإعطائه إسرائيل الضوء الأخضر “لقصف، وتجويع، وذبح الناس تحت مسمّى الدفاع عن النفس”. وكان تركيزه في خطبه عموماً على فكرة أن الناس متساوون والفلسطينيون ليسوا أقلّ شأناً من سواهم، وعلى رفض مجازر الإبادة. وفي أحد مقالاته، حاول كوربن أن يشرح شيئا عن تاريخ مخيّم الشاطئ، والذي يقطنه آلاف من مهجري نكبة 48، معبّرا عن مشاعره تجاه المخيّم الذي سبق أن زاره، وهو المخيّم الذي كان يتعرّض مراراً للقصف من قبل إسرائيل كما يشرح. وتساءل حول إحدى المدارس التي زارها إذا ما زالت موجودة، وإذا ما زال أساتذتها وطلّابها على قيد الحياة.

أمّا حول جدوى التظاهرات المناصرة لفلسطين في أوروبا، قال جيرمي كوربن قبل ثلاثة أيّام من تظاهرة السبت 11 تشرين الثاني أن هذه التظاهرات بدأت بأعداد صغيرة، ومع الوقت أصبحت أكبر فأكبر، أضاف: “ظننت في البداية أنه سيكون هناك تظاهرة وحيدة وينتهي الأمر، لكن تبيّن أنها جزء من حراك (process) أكبر، انخرط فيه عدد أكبر من الأشخاص في كل أنحاء العالم”. وتابع أن “التظاهر هو أقل ما يمكن أن نقوم به”، وأعطى أمثلة كثيرة عن تظاهرات سابقة حققت تغييرات، أبرزها التظاهرات لوقف الحرب على فيتنام. وقال “كان هناك تظاهرات مذهلة أيضاً خلال الحرب العالمية الأولى تدعو لإيقافها. هل أوقفتها؟ كلا، ولكنها جعلت جيلاً بأكمله أكثر انخراطاً في السياسة، وكان له مساهمات (في التغيير) بأشكال مختلفة”. 

ميلونشون يتصدّى للتهجّم على مناصري فلسطين

بدورها، تحولت صفحة ميلونشون على منصّة “إكس” إلى معرض للجرائم الإسرائيلية. كان وضع ميلونشون مختلفا في تعليقاته عن بِلارّا وكوربن. فهو منذ 7 تشرين كان في موقف دفاعي إزاء الهجوم الإعلامي، من أحزاب اليمين واليمين المتطرّف وما يسمّى باليسار والوسط، بعد تصريح دعا فيه إلى وقف إطلاق النار، وتصريح لأعضاء من حزبه (LFI) في البرلمان الفرنسي أشاروا فيه إلى أن هجوم حماس “أتى في سياق تشديد (intensification) سياسة الاحتلال الإسرائيلي”. عليه، جرى اتهامهم بمعاداة السامية بعد تأويل الكلام على أنه “تحميل اليهود اللوم على كل ما يحصل”. حتّى أن إحدى أعضاء مجلس الشيوخ في الحزب الإشتراكي (Corinne Narassiguin) وصفت موقف “LFI” بالمشين (indigne) فردّ ميلونشون أنّ “سلوك ناقلة الكلام مشين. واصطفافه (الحزب الإشتراكي) غير المشروط مع اليمين المتطرف الإسرائيلي أمر مخزٍ.”  

وشدد ميلونشون على إدانة قتل المدنيين وتحدّث عن جرائم حرب ارتكبتها كل من حماس واسرائيل، وقال ما تعريبه أنه “إذا أردنا أن يتم الحكم على جرائم الحرب ومحاكمتها، فيجب علينا أن نسميها بأسمائها”. لكنه رفض بالمقابل استرجاع أدبيات “الحرب على الإرهاب” التي أطلقها جورج بوش الإبن أو مقارنة حماس بداعش بهدف إلغاء الحق بالمقاومة. إذ ذاك، شنّت حملة كبيرة على ميلونشون بوصفه معادياً للسامية، ووصفته “الغارديان” أنّه “كارثة على اليسار“، لا لشيء سوى لأنه رفض وصف “حماس” بأنها منظمة إرهابية، معللاً رفضه بأنه ببساطة يلتزم التعابير المستخدمة في الأمم المتحدة، التي تصنّف تنظيمي القاعدة وداعش كمنظمات إرهابية، ولا تقع حماس تحت التصنيف ذاته.

وفي ردّه على الحملة ضدّه، ألمح ميلونشون إلى ضغوطات من منظمة Crif الداعمة لإسرائيل، والتي عملت على توحيد مواقف السياسيين في فرنسا للاجتماع في تظاهرة داعمة لإسرائيل وسعت إلى منع تظاهرات مناصرة لفلسطين، وهي التظاهرات التي استمرّت رغم منعها من قبل وزارة الداخليّة. وصرّح ميلونشون ما مفاده أنه “من خلال إجبار الجميع على الانحياز إلى موقف حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية، من خلال الموافقة على التظاهر مع الجبهة الوطنية (الجبهة التي تقودها مارين لوبان)،  وفي إهانة لناخبي الحزب الاشتراكي، حالت Crif دون تضامن الفرنسيين مع الرغبة في السلام. والمطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار.”  كما وصف ما جرى تداوله من معلومات كاذبة بعد 10 تشرين الأوّل ب”مصنع فبركة المعلومات”، وتساءل “لماذا إدانة جرائم نتنياهو صعبة إلى هذه الدرجة؟”. كمّا عبّر مراراً عن رفضه نزع الإنسانية عن الفلسطينيين، ورفضه العنصريّة ضد العرب. وتضامن مع لاعب كرة القدم كريم بنزيما بعد أن “اختارت الحكومة شيطنته ومعاملته على أنّه فرنسي من ورق”، وفق تعبير ميلونشون.

وكانت النائبة الفرنسية من حزب (LFI) مانون أوبري (Manon Aubry) تقدمت باقتراح لوقف إطلاق النار أمام البرلمان الأوروبي. وأدّى رفض هذا القرار بأغلبيّة 419 نائب (مقابل 88)، إلى إحراج الاتحاد الأوروبي أمام الرأي العام، بخاصّة وأن موقفه هذا أتى متجاهلاً لنداءات كل من الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية ومنظمة “هيومن رايتس ووتش” ومنظمة أطباء بلا حدود التي نبّهت مراراً من الوقوع في كارثة إنسانية. حتّى أنّ هذه الهواجس حيال سرديّة “أوروبا الحريصة على الحقوق والقوانين الإنسانيين، انعكست في مواقف يمينية، خرقت وحدة الالتزام اليميني المطلق بالبروبوغندا الإسرائيلية”.

صوت آخر أضيف إلى اليسار، تمثّل برئيس الوزراء الفرنسي السابق دومينيك دوفيلبان (Dominique De Villepin). وقد اعتبر الرجل في 27 تشرين الأوّل، أن فرنسا وأوروبا وقعتا في “فخ الغرب-ويّة” (Occidentalisme)[4] حيث “وجدنا أنفسنا مع إسرائيل، محشورين في قبو الغرب-ويّة (في إشارة إلى عقدة تفوّق الغربي على الآخرين)، وقد أصبحت هذه الغرب-ويّة اليوم  في موضع مساءلة (mis en cause) من قبل المكونات الأساسيّة للمجتمع الدولي”. كما أشار دوفيلبان إلى تمادي الساسة الفرنسيين في تظهير الصراع على أنه حرب دينيّة وحرب حضارات، “ما يعني عزل أنفسنا عن المشهد العالمي”.  وأشار إلى الإزدواجيّة بالمقارنة مع حرب أوكرانيا التي جرت إدانتها، فيما يبقى الموقف متعنتاً إزاء حرب غزّة. وافي ما يتعلّق بالقانون الدولي، وضعت عقوبات على روسيا بسبب خرقها قوانين الأمم المتحدة، في حين تستمر إسرائيل في خرق القوانين على مدى 70 عاماً.  ووصف دوفيلبان في مقابلة أخرى السلوك السياسي لنتنياهو ب “الانتحاري”. وحول إمكانيّة سحب المستوطنين من الضفّة الغربيّة، قال ما مفاده “حسنًا، عندما غادرنا الجزائر، كان هناك مليون فرنسي غادروا الجزائر. اليوم هناك 500 ألف إسرائيلي يستعمرون الضفة الغربية، و200 ألف في القدس الشرقية”. كما تحدّث عن ضرورة قيام دولة فلسطينيّة مع معبر بين الضفة وغزة، معتبرا أن الاستجابة لهذه الضرورة تندرج ضمن “الواقعية السياسيّة”، وما تفرضه مصلحة إسرائيل على حدّ تعبيره.

فاروفاكس يمارس دوره المعتاد في النضال لأجل فلسطين في أوروبا

أظهر فاروفاكس بدوره موقفه الصريح منذ الأيّام الأولى في مناصرة فلسطين. قال “أولئك الذين يحاولون بجهد كبير أن يستحصلوا من أشخاص مثلي ومثل حزب Diem 25 على موقف إدانة لهجوم مقاتلي حماس، لن يحصلوا على ذلك أبداً”.  وقد تساءل إذا ما كانت فكرة هؤلاء عن وقف الاحتراب هي في تسليم الفلسطينيين أسلحتهم والعودة إلى أكبر سجن في العالم ليتمّ خنقهم من قبل نظام الفصل العنصري!.  وفاروفاكس مثله مثل مؤسس “Podemos” بابلو اغليسياس تيريون (Pablo Iglesias Turrión)، أتى من عالم الفكر إلى عالم السياسة. وقبل اختياره من قبل رئيس اليونان السابق ألكسيس تسيبراس للتفاوض مع قادة أوروبا حول إعادة هيكلة ديون بلاده، كان يطرح في ندواته خططاً لعلاج الأزمة المالية. وكان اشتهر بسبب ندوات حذّر فيها من الأزمة قبل وقوعها. وبعد أن تخلّى تسيبراس عن وزيره في خضمّ المفاوضات على مستقبل بلاده المالي، بضغط من الاتحاد الأوروبي، وجد فاروفاكس أنّ الحلول السياسيّة المحليّة لن تنفع وحدها، فأسّس وترأس حزب Diem 25 الأوروبي لإيجاد حلول أكثر ديمقراطيّةً من الآليات التي تحكم مؤسسات الاتّحاد. وأسس فرعاً للحزب في اليونان تحت اسم “جبهة العصيان الأوروبي الواقعي” (MeRA25).

منذ تأسيس Diem 25، احتلّت القضيّة الفلسطينيّة موقعاً هاماً في نقاشاتها وأنشطتها. وهو ما تعكسه اللقاءات والندوات الكثيرة التي نشرت على صفحة الحزب على موقع “يوتيوب”. وقد واكبت محطة Diem 25 على يوتيوب مؤخراً المستجدات في غزّة. وكان فاروفيكس من خلال المحطة وعبر صفحته على منصّة “إكس”، يوضح سياقات العدوان. ويشارك على صفحته تارةً إقراراً من رئيس سابق للموساد بأنّ إسرائيل هي دولة فصل عنصري. ويشارك تارةً أخرى مقالاً حول حدّة النزاعات في الداخل الإسرائيلي، والتي ترجمت في لعبة إلقاء اللوم الواحد على الآخر في داخل الحكومة أو بين الحكومة والمعارضة. وقد انتقد فاروفيكس مراراً نظام الفصل العنصري الذي “يجب تحطيمه”. كما شارك تعليقاً لأحد الناشطين يذكّر بقيام إسرائيل بقتل 11 تركياً حاولوا بشكل سلمي خرق حصار غزّة وإيصال بعض المساعدات الغذائيّة إليها. كما نشر  وجهات نظر المسؤولين الإسرائيليين الصريحة في شيطنة الفلسطينيين والدعوة للقتل الجماعي. لا بل صرّح في إحدى تغريداته أن حلّ الدولتين المتداول غير ممكن، وأنّ الحل الوحيد هو نظام علماني يضمن العدالة والحقوق لجميع المكونات أياً كانت إثنيتهم وديانهم.

وفي إحدى إطلالته على محطة Diem 25، تساءل فاروفاكس “من هم هؤلاء الذين يطالبوننا بالاصطفاف مع إسرائيل. هم الأشخاص أنفسهم الذي أداروا وجوههم حينما أردًت إسرائيل صحافيين عُزّل، أو حين كانوا يقتلون الممرضات والأطباء والأطفال”، وأردف “أن هؤلاء هم من يتذكرون القانون الدولي، ويتذكرون الأمم المتحدة (يضحك) وشرعتها، ويتذكرون اتفاقيّة جنيف حول جرائم الحرب، فقط عندما يكون الضحايا من الإسرائيليين، وعلى نحو ما (يضحك) تهرب كلها من عقولهم عندما يكون الضحايا من الفلسطينيين”. وتساءل “هؤلاء الحانقون بسبب اعتقال نساء وأطفال إسرائيليين، هل غضبوا يوماً لاعتقال إسرائيل ولسنوات طوال نساء وأطفالا فلسطينيين؟!”. وتحدّث حول أنّ نظام  الفصل العنصري في الضفّة هو أشدّ سوءاً بأشواط من الذي كان قائماً في دولة جنوب أفريقيا، وعددّ الأطراف الإسرائيليين الذين أقروا بهذه الوقائع. (للاستماع للكلمة كاملةً).

تلك كانت تعليقات فاروفاكس في الأيام الثلاثة الأولى فقط. من ثم، ركّز فاروفاكس  وحزبه، على التنديد ب “الإبادة الجماعية”، والعمل على توقيع عريضة لإقالة رئيسة البعثة الأوروبية أورسولا فون درلاين (Ursula von der Leyen) بسبب انحيازها الكامل لإسرائيل، وتبريرها المجزرة بحق المستشفى الأهلي والمجازر المستمرة بحق الفلسطينيين، بدل من أن تدعو لوقف إطلاق النار. وفاروفاكس الذي سبق وسعى إلى توحيد يسار أوروبا وأميركا، حوّل صفحته معرضاً لنشاطات اليسار المتعلّقة بالعدوان على غزّة في كلا القارتين، من أسبانيا  إلى بريطانيا وفرنسا فإلى الولايات المتحدة. وكان له أيضاً ولحزبه دورا هام في المشاركة وفي التظاهرات في كافّة أنحاء أوروبا.

الشعب الإيرلندي هو الأكثر تفهّماً لمعاناة الفلسطينيين

يعتبر شعب إيرلندا، أكثر الشعوب تضامناً مع الفلسطينيين ضدّ الاحتلال الاستعماري الإسرائيلي، بخاصة وأنّه عاني قروناً طوال من الاستعمار البريطاني، وتوصف إيرلندا بأنّها أوّل مستعمرات الإمبراطوريّة البريطانيّة، وآخرها. ويشرح المؤرخ الفلسطيني رشيد الخالدي أنّ “إيرلندا هي المختبر الأساسي للاستعمار الاستيطاني البريطاني حيث بدأ الإنكليز في القرن الثاني عشر بهذه العملية عبر استقدام مزارعين وعمال إنكليز بدل الشعب الأصلي الايرلندي”. ومنذ عام 1947، نظرت إيرلندا إلى إسرائيل على أنها جزء من الاستعمار الغربي، كما لا زالت تنظر إلى إيرلندا الشمالية على أنها محتلّة من بريطانيا. وكانت آخر محطات التضامن الإيرلندي مع فلسطين منذ عامين، حين صوّت البرلمان لصالح إقتراح قانون يدين بناء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية ويصفها بالاحتلال. وترافق ذلك مع مطالبات من نواب عن حزب “الشعب قبل الربح” اليساري بفرض عقوبات على إسرائيل، “أسوة بما فُرض سابقاً بحق نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا”. وكان صوّت مجلس مدينة دبلن (العاصمة) في الفترة ذاتها، لدعم حركة المقاطعة  (BDS) وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل.

ومنذ 7 تشرين الأوّل، شهدت إيرلندا تظاهرات عدّة مناصرةً لفلسطين، في مناطق عدّة وفترات متلاحقة. إحداها توجّهت إلى السفارة الإسرائيليّة وقامت تظاهرة أخرى في العاصمة دبلن، ودعت هذه التظاهرات لطرد السفير الإسرائيلي. وكان موقف لرئيس الوزراء الأيرلندي ليو فارادكار، رأى فيه أنّ “لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، لكن ليس الحق في الظلم”، ولكنه اعتبر أيضاً إن “إسرائيل تمارس عقاباً جماعياً في غزة، وليس لها الحق في انتهاك القانون الدولي في ردّها على غزة”. أمّا مواقف بعض النوّاب فأشدّ تعبيراً عن التضامن، وقد تداولت وسائل التواصل الإجتماعي مقطاع فيديو عديدة لكل من النوّاب مات كارثي، وميك والاس، وريتشارد بويد باريت.

لكن الموقف الأقوى عبّرت عنه النائبة كلير دالي في إحدى جلسات البرلمان الأوروبي (11 تشرين الثاني)، قالت فيه: “لقد مضى شهر على القتل الجماعي، بلا هوادة، للفلسطينيين في غزّة. إنها ليست دوامة عنف سيدة فوندرلاين (رئيسة البرلمان الأوروبي)، بل هي إبادة جماعة تم الإعلان عنها صراحةً من قبل دولة الفصل العنصري الإسرائيلية”. وتحدّثت عن التجويع وقصف المستشفيات وسيارات الإسعاف والصحافيين، والممرات الإنسانية. وأضافت أنه يتم قتل طفل فلسطيني كل 10 دقائق، و”كان رد السيدة فوندرلاين في أن تطلب من إسرائيل أن تتجنّب المدنيين!”. وأردفت أنها “بالطبع” لن تدعو لوقف لإطلاق النار، لأنها على حدّ تعبير دالي “شريكة في هذه الجرائم الإنسانية، التي تصنع بسلاحك وباسمك، عندما وقفت إلى جانب إسرائيل منذ شهر وقلت (أقف معكم الآن وفي المستقبل)”.

مقاطع خطابيّة لنواب من دول الشمال تجتاح وسائل التواصل الإجتماعي

وتجدر الإشارة إلى أنه بين الدول الأخرى التي وقفت إلى جانب أسبانيا وإيرلندا في الضغط على الاتحاد الأوروبي لتبني الدعوة إلى وقف لإطلاق النار، كانت هولندا ولوكسمبرغ والبرتغال. لكن في ظلّ المعارضة الألمانية، خرج اجتماع الاتحاد في 26 تشرين الأوّل (الاجتماع الأوّل منذ بدء الحرب)، ببيان يدعو فحسب إلى ممرات إنسانية وهدنة مؤقتة. وفي اليوم التالي، وفي إطار تصويت أعضاء الجمعية العمومية للأمم المتحدة على قرار يدعو إلى هدنة إنسانية فوريّة، تبين أن ثلاث دول من الاتحاد الأوروبي صوتّت ضده[5]، وأن 16 منه امتنعت عن التصويت[6]، فيما صوتت لصالحه فقط 8 دول منه وهي: إيرلندا، إسبانيا، البرتغال، سلوفينيا، مالطا، بلجيكا ولوكسمبرغ، لكن أيضاً فرنسا في ما بدا تراجعاً عن سقفها المرتفع في دعم الجانب الإسرائيلي. 

يًشار إلى أنّ التظاهرات المؤيدة لفلسطين شملتْ أغلب الدول الأوروبية. وبرزت على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع عدّة لكلمات نواب أوروبيين متضامنين مع غزّة، كالنائب البلجيكي سيمون موتكين، والنائب البلجيكي مالك عاشور، فيما دعت نائبة رئيس الوزراء البلجيكي بيترا دي سوتر (حزب الخضر) إلى فرض عقوبات على اسرائيل، كما دعت الوزيرة كارولاين غينيز إلى الاعتراف بدولة فلسطين. وكان موقف أمين عام حزب العمال البلجيكي متميزاً، إذ اتّهم حكومة بلاده أنها لا تتخذ موقفاً واضحاً بسبب الضغوطات التي تمارسها لوبيات اسرائيل والولايات وحلف الناتو، في وقت يضغط المجتمع والإعلام على الحكومة لاتخاذ مواقف أقوى إزاء العدوان الإسرائيلي. وقد أثار رفض البرلمان الاسكتلندي تعليق علم اسرائيل، بعد رفض حزب الخضر لهذا الأمر، سخط الإعلام الغربي. وبرز في هذا الصدد موقف للنائبة ماغي شابمان في 8 تشرين الأول أشارت فيه إلى نظام الفصل العنصري، والاحتلال غير القانوني، والعدوان الإمبريالي الممارس من قبل إسرائيل.   


[1] برز الإصطفاف على نحو فاقع من خلال أربعة مواقف؛ بدءً من زيارة وزير الخارجيّة الأميركي أنتوني بلينكن إلى إسرائيل في أول أيام الحرب وتعبيره عن دعمه المطلق لحكومة نتنياهو (11 تشرين الأوّل)، ثمّ موقف رئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك الذي قال أن بلاده ستبذل “كل ما في وسعها من أجل دعم إسرائيل لكي تستعيد الأمن الذي تستحقه” (14 تشرين الأوّل). ثم زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز التي صرّح خلالها أن أمن إسرائيل “مصلحة وطنية عليا” لبرلين (17 تشرين الأوّل)،  مروراً بموقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي اقترح إقامة تحالف دولي ضد حماس (24 تشرين الأوّل)، وصولاً إلى تبنّى الكونغرس الأميركي (وغالبيته من الجمهوريين) حزمة مساعدات بقيمة 14 مليار دولار لإسرائيل (3 تشرين الثاني).

[2] وهي إحدى تداعيات الأزمة المالية العالمية عام 2008

[3] أحدهما يتحدّث عن مستوى الفقر في المملكة المتحدة والثاني دفاعاً عن المعاشات التقاعديّة للعمال

[4]  يشرح لمقدمّة البرنامج أن “الغربويّة” هي فكرة أن الغرب الذي حكم العالم على مدى خمسة قرون، سيستمر برويّة بهذا الفعل.

[5]  كرواتيا وهنغاريا والنمسا

[6]  إستونيا، ايطاليا، بلغاريا، بولندا، الدنمارك، رومانيا، سلوفاكيا، السويد، فنلندا، قبرص، لاتفيا، صربيا، ليتوانيا، هولندا، اليونان، ألمانيا

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، الحق في الحياة ، مقالات ، فلسطين ، أوروبا



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني