بتاريخ 7/11/2018، أصدر مجلس القضاء الأعلى تعميما جديدا قوامه إنكار حق القضاة بإنشاء جمعيات. وقد أتى هذا التعميم في سياق سلسلة من المواقف السلبية، اتخذها مجلس القضاء بشكل تصعيدي لمواجهة قيام قضاة بإنشاء جمعية تحت مسمى “نادي قضاة لبنان”. وللتذكير، كان أكثر من 34 قاضيا أودعوا لدى وزارة الداخلية بيانا بتأسيس النادي بتاريخ 30 نيسان 2018 وعمدوا في ما بعد إلى انتخاب هيئتهم الإدارية الأولى. وقد شهد موقف المجلس تصعيدا بعدما نجح النادي في مضاعفة عدد أعضائه ليقارب السبعين، وذلك في مسعى منه لإقناع القضاة بالخروج منه وثني سائر القضاة عن الانضمام إليه.

وبخلاف مواقف المجلس السابقة، استند هذا التعميم بشكل خاص إلى المادة 15 من قانون الموظفين لحظر حرية التعبير على القضاة. وعليه، ذكّر المجلس القضاة العدليين أن “الأحكام القانونية المرعية الإجراء في لبنان، ولا سيما المادة 15 من قانون الموظفين … “ما برحت تحظر على القاضي الإنضمام إلى منظمة أو نقابة مهنية، بغضّ النظر عن المسمى الذي يتم اختياره لها”. كما ذكرهم بأحكام “الدليل إلى واجبات القضاة وأخلاقياتهم”؛ والتي تحظر تأسيس مثل هذه النقابة أو المنظمة أو الحضّ على الإنضمام إليها، “ولا سيما أن ذلك يتعارض مع مفهوم ومقتضيات السلطة القضائية التي يجب العمل على تعزيز مكوّناتها وتكريس خصائصها”. ويضيف التعميم إلى ذلك بأن “القضاء سلطة، والقضاة مؤتمنون على هيبة سلطة وهذه حقيقة لا ينسجم معها انضواء جزء منهم في إطار تجمّع مهني الغرض منه ممارسة صلاحيات منوطة قانوناً بمجلس القضاء الأعلى”.

في الاتجاه نفسه نحو تضييق حريات القضاة، ذكّر التعميم نفسه أن من واجبات القاضي الامتناع عن النشر من دون إذن (من دون تحديد الجهة التي تعطي الإذن). كما نص على أن موجب التحفظ يفرض على القاضي الامتناع عن المجاهرة برأي يمس بالمحامين أو بأحد زملائه. ويلمح المجلس هنا إلى البيان الصادر عن النادي ردا على قرار نقابة محامي طرابلس بمقاطعة جلسات إحدى القضاة.

وما يزيد من خطورة هذا التعميم، هو صدوره في موازاة بيان صاخب لنقيب محامي بيروت، تهجم فيه بوضوح كلي على نادي قضاة لبنان، بما يؤشر إلى احتمال وجود تنسيق مسبق بين مجلس نقابة محامي بيروت ومجلس القضاء الأعلى لمحاربة نادي قضاة لبنان وما يحمله من آمال في تطوير الأداء القضائي.

وبالنظر إلى خطورة هذا التعميم، فإنه يستدعي الملاحظات الآتية:

أولا، المجلس يستنجد بقانون الموظفين

أول ما نلحظه، هو أن المجلس أعاد تفعيل أحكام وردت في قانون الموظفين بحق القضاة بعدما كان خاض في ظل حراك قضائي واسع، معارك في 2017 و2018، لتكريس مبدأ قوامه عدم تضمين القوانين الناظمة لأوضاع الموظفين أي أحكام متصلة بالقضاة، بحجة أن القضاء سلطة وليس وظيفة. وقد عكس موقف المجلس هذا رجوعا إلى الوراء، في سياق بحثه عن مبررات جديدة في مساعيه لقمع القضاة وتطويقهم. فكأنما مواقفه في سنتي 2017 و2018 إنما كانت مجرد تكتيك للوصول إلى نتائج معينة، تكتيك لم يرَ أي مانع من التنازل والتخلي عنه فور بروز اعتبارات أخرى له،

ثانيا، توسيع إطار تطبيق المحظورات

فضلا عن ذلك، عمد مجلس القضاء الأعلى في تعميمه إلى توسيع إطار تطبيق المحظورات المذكورة في المادة 15 من قانون الموظفين، بما يخلّ بقانون تنظيم القضاء العدلي ويتعارض مع نص هذه المادة وروحها على حد سواء. وقد تمثل هذا الإخلال في الأمور الآتية:

  • أنه وسّع المحظورات لتشمل إنشاء جمعيات، وذلك بهدف استهداف “نادي قضاة لبنان”. ففيما أن المادة 15 حظرت على الموظفين إنشاء نقابات أو منظمات مهنية، عمد المجلس إلى توسيع مدى هذه المادة ليشمل أي تنظيم مشابه، “بغض النظر عن المسمى الذي يتم اختياره”. والواقع أن الخلط بين المنظمات والنقابات المهنية من جهة والجمعيات من جهة أخرى يتعارض تماما مع فلسفة هذه المادة وروحيتها، ويعكس إرادة المجلس في قمع حرية القضاة في التجمع في المطلق.

وهذا ما يتأكد بالرجوع إلى أعمال الفقيه الفرنسي “موريــس هوريــو” فــي المنتصف الأول مـن القـرن الماضـي والذي كان ميـز – بالنسبة لممارسة الحق النقابي للموظفين – بيـن التجمعـات النقابيـة أي التجمعـات الآيلة إلى الدفـاع عـن مصالـح أعضائهـا الماديـة أو المعنويـة Intérêts économiques et professionnels de ses membres )والتـي ظلـت ممنوعـة بالنسـبة إلى موظفـي الدولة في فرنسا حتى 1946) والتجمعات الأخرى كالتجمعـات الوداديـة amicales أو التجمعـات الآيلة إلى الدفاع عن المصالح العامة للوظيفة Intérêts communs de la carrière أي الدفاع عن مصالح عامة بعيداً عن الأنانية الذاتيـة أو أي نيـة نقابيـة فـي وضـع اليـد على الوظيفـة العامـة والتـي هـي تبقـى مشـروعة قانونـا عمـلا بمبـدأ حريـة الجمعيـات،  بل أيضاً وفقاً للمنطق والحس السليم والأعراف السائدة آنذاك[1].

  • أنه وسع تطبيق محظورات المادة 15 على القضاة، فيما أن أحكام قانون الموظفين تطبق على القضاة فقط في حال عدم تعارضها مغ قانون تنظيم القضاء العدلي، وفق المادة 132 منه. وقد أخطأ مجلس القضاء الأعلى هنا أيضا وذلك حين اعتبر أن هذه المحظورات تنطبق على القضاة فيما أنها تتعارض بداهة مع استقلاليتهم.

وهـذا مـا نقرأه بوضوح كلي في المادة 9 من المبادئ الأساسية للأمم المتحدة (1985) والفقرة 1.7 من الشرعة الأوروبية حول نظام القضاة، حيث أكدت هذه الأحكام ليس فقط أن للقضاة التمتع بنفس الحريات المضمونة لسائر المواطنين من دون تمييز، بل أن حرية التعبير وإنشاء جمعيات للقضاة تشكل ضمانات أساسية لاستقلاليتهم.

وهذا ما تؤكده مراقبة الواقع اللبناني حيث غالبا ما تم عزل القاضي واستفراده إلى استباحة حقوقه تمهيدا لاستتباعه.

ثالثا، موجب التحفظ = موجب التزام الصمت والعزلة

أن التعميم يوحي بأن تأسيس جمعية للقضاة أو الانضمام إليها أو التعبير باسمها إنما يشكل خروجا عن الأخلاقيات القضائية. واللافت أنه أحال في هذا الخصوص للمرة الأولى (وفق ما رصدناه) إلى وثائق ليس لها أي قيمة قانونية معلومة وهي ما أسماه “الدليل إلى واجبات القضاة وأخلاقياتهم”.

وقد جاء التعميم متعارضا ليس فقط مع حريات التعبير المكفولة دستوريا لجميع المواطنين من دون تمييز ومع معايير ومبادئ استقلال القضاء المكرسة في الأمم المتحدة وفق ما بيناه أعلاه، إنما أيضا مع التطور الحاصل دوليا في مجال فهم أخلاقيات القضاء. وهذا أيضا ما نقرأه في شرعة الأخلاقيات الدولية المعروفة باسم شرعة بنغالور (والتي سلّمت شرعة الأخلاقيات اللبنانية بمرجعيتها). فقد نصت هذه الشرعة بصراحة في مبدئها الرابع وهو مبدأ اللياقة[2] (الفقرة 4.13)، على حق القاضي بالانضمام أو تشكيل نقابة أو أي جمعية أخرى من هذا النوع، تمثَل مصالح القضاة[3]. ويلحظ أن هذه الوثيقة استبدلت موجب التحفَظ التقليديObligation de réserve  بواجب أخلاقي وسلوكي ذاتي Devoir de convenance، وهو واجب يتصل بكيفية ممارسة حريتي التعبير والتجمَع من دون المسَ بمبدأ التمتَع بهما. فإن كان على القاضي مراعـاة القيـود التـي تفرضهـا استقلالية الوظيفـة القضائيـة وتجردها عند ممارسة الحريات التي يتمتع بها، فهذا لا يعني بمطلق الأحوال تجريده منها.

رابعا، القاضي مؤتمن على هيبة السلطة

ورد في التعميم أن “القضاء سلطة، والقضاة مؤتمنون على هيبة سلطة وهذه حقيقة لا ينسجم معها انضواء جزء منهم في إطار تجمّع مهني الغرض منه ممارسة صلاحيات منوطة قانوناً بمجلس القضاء الأعلى”. وتنبني هذه العبارة على مجموعة من المفاهيم الخاطئة:

الأول، أن  التعميم يحوّر مفهوم السلطة القضائية، ليحولها إلى ما يشبه الصنم الذي يتعين على القاضي تكريمه والمحافظة على هيبته. ويفهم ضمنا أن المقصود بالسلطة هو مجلس القضاء الأعلى. والواقع أن هذا الفهم يشكل انقلابا على الغاية من وجود مجلس القضاء الأعلى: فبدل أن يكون المجلس وسيلة وضمانة لتعزيز السلطة القضائية المتمثلة في القاضي أو المحكمة حين نظره في قضية معينة، يصبح القاضي وسيلة وأداة لتقوية المجلس وتعزيز سلطانه. ومسعى مجلس القضاء هذا يتنافى مع تعريف المادة 20 من الدستور للسلطة القضائية التي “تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصاتها”. ويلتقي تعريف الدستور اللبناني مع الفقه الأوروبي الذي يعتبر أن “السلطة القضائية” ترتبط ارتباطاً وثيقاً بوظيفة القاضي، ولا يمكن إذاً إختزالها بهيئة معيّنة على غرار مجلس النواب للسلطة التشريعية، ورئيس الجمهورية أو مجلس الوزراء للسلطة التنفيذية[4].

بهذا المعنى، فإن “السلطة القضائية” سلطة غير مركزية Pouvoir diffus، وكل قاضٍ أثناء ممارسته سلطته القضائية يشكَل بذاته “السلطة القضائية”[5]. فالسلطة القضائية مبعثرة غير محصورة في جهاز عضوي معين.

وهذا أيضا ما تؤكده أغلبية الوثائق الدولية المكرّسة لاستقلال القضاء، كما الإجماع في الفقه الأوروبي[6] على اعتبار أن المجلس “ليس جزءاً من السلطة القضائية”[7].

الثاني، أن التعميم يعدّ أيّ تجمّع مهني مستقل من خارج مجلس القضاء الأعلى بمثابة إخلال بهيبة السلطة القضائية. ويفهم من ذلك أن هيبة السلطة تنكمش أو تختلّ في حال سعى القضاة إلى تطوير أواصر التضامن أو التعاون في ما بينهم أو المشاركة في التفكير في الشؤون القضائية أو في حال ظهر في أي حين أن ثمة آراء متباينة داخل القضاء.

من هذه الزاوية، تبدو هيبة الرأي الواحد (رأي رئيس مجلس القضاء الأعلى) أهم وأسمى وفق التعميم من كل هذه الاعتبارات، بما فيها استقلال القضاة وحرياتهم. فكأنما القضاء من منظور مجلس القضاء الأعلى جيش واحد بأمرة رجل واحد.

من أجل مقالات ذات صلة:

حين تجمّع القضاة في لبنان

تصوّر لمدونة أخلاقيات قضائية في المنطقة العربية: في اتجاه مدونة قادرة على تطوير البيئة القضائية

نادي قضاة لبنان” يخرج إلى عالم الواقع: خطوة تأسيسية لقضاء مستقل وعادل

 


[1] Maurice Hauriou, Précis de droit administratif et de droit public, 4e éd., 1938.

[2] Propriety (English version), Convenances (Version française).

[3]V. Office des Nations Unies contre la Drogue et le Crime, Commentaire des Principes de Bengalore sur la déontologie judiciaire (2007), relatif au Principe 4.13. Mais le commentaire précise: « Cependant, en raison du caractère public et constitutionnel que revêt la charge de juge, le droit de grève peut être restreint ».

[4]أنظر مثلاً عن هذه النقطة، نزار صاغية، “ماذا تعلمنا الأزمات الحاصلة على رأس الهرم القضائي في لبنان؟”، المفكرة القانونية، العدد 4 أيار/مايو 2012: ” مجلس القضاء الاعلى، ليس سلطة ولا ممثلا لسلطة، انما هو جهاز اداري يجدر به ان يكون مستقلا وان تكون مهمته الأساسية ضمان استقلالية السلطة القضائية التي يمارسها القضاة والمحاكم وتتوزع فيما بينهم وفق صلاحياتهم”.

[5] وهذا ما يشير إليه صراحة المجلس الدستوري الإيطالي. أنظر La nature des conseils supérieurs de la magistrature en Europe in Les conseils supérieurs de la magistrature en Europe, T. S. Renoux (sous la dir.), Doc. Française, Paris, 1999, p. 31. 

[6]أنظر La nature des conseils supérieurs de la magistrature en Europe, op. cit., pp. 27 s.

[7] T. Renoux, Rapport de synthèse, in La nature des conseils supérieurs de la magistrature en Europe, op. cit,, p. 109, spéc. p. 112 : « le Conseil supérieur de la magistrature n’appartient pas au pouvoir judiciaire, même si l’on peut admettre que, lorsqu’il siège en formation disciplinaire, il statue comme une juridiction, et que, dès lors, il exerce la fonction juridictionnelle ».