قضية مدير مركز توزيع البريد الموقوف في تونس، هل تعسف القاضي في استعمال مؤسسة الإيقاف التحفظي؟


2016-06-22    |   

قضية مدير مركز توزيع البريد الموقوف في تونس، هل تعسف القاضي في استعمال مؤسسة الإيقاف التحفظي؟

قضية يعيش على وقعها التونسيون منذ تاريخ 16- 06- 2016 وهي تتمثل في إيقاف المدير المسؤول عن مركز توزيع البريد في منطق توزر بالجنوب التونسي، وفي التوقف الفوري لكل مراكز البريد  في كامل تراب الجمهورية وبشكل فجائي في نفس اليوم.
 
الرواية النقابية
 
تقول الرواية النقابية الصادرة عن النقابيين والمنشورة على الصفحة الرسمية لاتحاد الشغل أن أعوان أمن توزر أوقفوا رئيس مركز التوزيع البريدي بسبب رفضه تسليم البريد لعون من المحكمة الابتدائية لا يمتلك توكيلا لتسَلم البريد الادارى، وفق ما يقتضيه القانون. وتضيف الرواية أيضاً أنّ عون المحكمة توجّه إلى رئيس المركز البريدي على أنّه موفد بالكلمة من قبل وكيل الجمهورية الذي أراد أن يخاطبه عبر الهاتف فرفض رئيس المركز ذلك. فالأمر مخالف للقانون ويحمّله تبعات خاصّة اذ أنه ليس متأكّدا من شخصية مخاطبه عبر الهاتف.
فما كان من وكيل الجمهورية إلا أن وجّه فرقة من أعوان الأمن ليقتادوا رئيس مركز الفرز البريدي إلى الإيقاف معتبرا تصرّفه تطاولا على السلطة.
لهذا أضرب أعوان البريد.
 
الرواية الرسمية الصادرة عن المتكلم الرسمي باسم  المحكمة الابتدائية بتوزر
 
على إثر توجه عون المحكمة الابتدائية بتوزر في 2016/06/16 صباحا إلى مكتب البريد بتوزر لإيداع وسحب البريد الإداري الراجع للمحكمة، قام عون البريد بتسليم جزء منه فقط ممتنعا عن تسليمه الباقي. وقد تذرع عون البريد بأن لا شيء يدلّ على أن الشخص المستلم هو عون محكمة. ورغم استظهار هذا الأخير بقرار تكليف صادر عن السيد وكيل الجمهورية واتصال هذا الأخير تأكيدا على ذلك، استمرّ رفض عون البريد وقد نقل عنه حرفيا: "لن أكلم وكيل الجمهورية   وحتى لو جاءني وزير العدل نفسه فلن أسلمه شيئا". وبذلك ضرب عون البريد وفق الناطق باسم المحكمة عرض الحائط بمؤسسة وكالة الجمهورية وبسلطة وزير العدل. تبعا لذلك، تمّ فتح بحث لدى الشرطة العدلية بتوزر ضد العون المذكور (عون البريد) وتقديمه إلى النيابة العمومية التي بدورها أحالته توا على السيد قاضي الناحية الدي أصدر بشأنه بطاقة إيداع بالسجن من أجل عدم الإمتثال لما أمرت به القوانين والقرارات الصادرة وخرق أحكام الفصل الثالث من النظام الأساسي العام لأعوان الوظيفة العمومية الذي يوجب على العون العمومي احترام سلطة الدولة وفرض احترامها.
 
اتفاق مشبوه؟
 
ومباشرة اثر إيقاف العون البريدي، نفذ أعوان البريد في كامل تراب الجمهورية إضرابا فجائيا شل حركة العمليات المالية وغيرها في وقت حساس ينتظر فيه الموظفون الصغار والعملة حسابات جارية بريدية. إلا أن وكالة الأنباء الرسمية نشرت في نفس اليوم خبرا مفاده أن العمل سيستأنف في يوم الجمعة 17 من نفس الشهر، في مكاتب ومراكز البريد بصفة عادية ومنتظمة بعد التوصل إلى اتفاق بين الاتحاد العام التونسي للشغل ووزارة العدل يقضي بإنهاء الاضراب.
وقال الحبيب التليلي الكاتب العام للنقابة العامة للبريد المكلف بالإعلام في تصريح للوكالة الرسمية أن قرار إنهاء الإضراب جاء اثر حصول اتفاق بين كل من وزارة العدل والاتحاد العام التونسي للشغل يقضي بالإفراج على رئيس مركز توزيع بريد المحتجز.
 
جمعية القضاة تحذر وزارة العدل واتحاد الشغل
 
تبعا لذلك، أصدر المكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين في 17- 06 بيانا عبّر فيه عن شديد استغرابه من التصريحات الإعلامية للمسؤولين النقابيين بالنقابة العامة للبريد بخصوص عقد إتفاقات مع وزارة العدل لإصدار قرارات قضائية في قضية عون البريد بتوزر. وأنه يرفض أي تدخل أو ضغوطات تمارس من أي جهة كانت للمساس باستقلال القرار القضائي وحياده في مجريات هذه القضية. كما أهاب مكتب الجمعية بالاتحاد العام التونسي للشغل كمنظمة وطنية ناضلت من أجل إرساء دولة القانون والمؤسسات التي من مقوماتها القضاء المستقل عدم الزج بالمنظمة النقابية في شبهة اتفاقات تشرّع للتدخل في سير القضاء كالنأي بها عن ممارسة أساليب الضغط والمساومة لإضعاف استقلالية القرار القضائي وحياديته. كما طالب البيان وزير العدل بتوضيح موقفه ورفع الالتباسات الحاصلة فيما نسب إليه من عقد اتفاقات محملا إياع المسؤولية عن تلك الممارسات إن ثبتت. وأخيراً، أهاب البيان بالمحكمة المتعهدة بالقضية للبت فيها في كامل أطوارها في كنف الاستقلالية والحيادية والتجرد التام وفي نطاق ضمانات المحاكمة العادلة بما يعزز الثقة العامة في استقلال القضاء ونزاهته.
 
هيئة القضاء العدلي تقول كلمتها هي الأخرى
 
وأمام شبهة وجود تدخلات في القضية واثر توجه مسؤولين في المكتب التنفيذي الوطني لاتحاد الشغل إلى الهيئة الوقتية للقضاء العدلي طالبين منها التدخل لفض الاشكال، أصدرت الهيئة المجتمعة بجلستها العامة في 19 – 06 بيانا الى الرأي العام جاء فيه أن "القضاة مستقلون… وأنّ ما يصدرونه من أحكام يكون … في نطاق مسؤوليتهم في حماية الحقوق والحريات لا تعبيرا عن مواقفهم الشخصية أو أهوائهم … كما أنّ رفض القرارات القضائية هو رفض للخضوع لسلطة القانون". كما أوضح البيان "أنّ مراجعة الأعمال القضائية تتولاها هيئات قضائية وفق القواعد الإجرائية ولا يمكن أن تتدخل فيها أية جهة أخرى أو أن تكون محل اتفاقات سياسية باسم القاضي المتعهد الذي يبقى وحده مسؤولا في أعماله عن كل إخلال منه بواجباته وخاضعا للمساءلة عند الاقتضاء طبقا لأحكام الدستور". وفي موقف لافت، ذكرت الهيئة "أنّ القرارات والأحكام القضائية تصدر باسم الشعب وهي غير محصّنة من النقد في نطاق ما تكفله حرية الرأي والتعبير في كنف الالتزام بتحجير التدخل في سير القضاء طبق أحكام الفصل 109 من الدستور". وإذ دعت القضاة كافة إلى عدم الخضوع إلى الضغوطات غير المشروعة، دعت وزير العدل إلى الالتزام باحترام مبدأ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء والنأي به عن كل أشكال التأثير.
 
كا نبه بيان الهيئة إزاء تفاقم ظاهرة ممارسة الضغوط على القضاء وتكرارها من مراكز ضغط وجهات مختلفة بما من شأنه زعزعة ثقة المواطن في القضاء ونسف أسس دولة القانون والمؤسسات.
 
مزيد تعقد القضية
 
وفي تطور زاد المسالة تعقيدا، رفض حاكم ناحية توزر مطلب الإفراج الذي تقدم به المحامون في حق عون البريد الموقوف وذلك يوم الاثنين 20 من نفس الشهر. وهو بذلك كذّب ما قاله الحبيب التليلي من أن قرار إنهاء الإضراب جاء إثر حصول اتفاق بين كل من وزارة العدل والاتحاد العام التونسي للشغل يقضي بالافراج على رئيس مركز توزيع البريد. 
 
المحامون يؤكدون وجود تعسف في استعمال آلية الإيقاف
 
من جهتهم، أكد محامي عون البريد سمير الحزامي في تصريح لاداعة  شمس أف أم، أن بطاقة الإيداع بالسجن الصادرة ضد حريفه مخالفة للقانون ولمقتضيات مجلة الإجراءات الجزائية. فوفق الحزامي، لا تنطبق مطلقا حالات الاحتفاظ المنصوص عنها في المجلة الإجراءات الجزائية على حالة هذا الأخير. وتحدّث الحزامي عن التسرّع في إجراءات الإحالة على المحكمة. وقال  في هذا السياق إنه ربما هناك تعسف في استعمال السلطة وكأن المسالة متعلقة بوكيل الجمهورية والعون وربما هناك شخصنة للمسألة.

محكمة التعقيب تستجلب القضية
 
وفي آخر تطور مثير للقضية، ذكر محامي العون البريدي الموقوف من قبل حاكم ناحية توزر أن محكمة التعقيب قررت سحب القضية من الحاكم المتعهد ونقلها إلى تونس. وهو ما يعرف في المصطلح الدارج في تونس بالاستجلاب. واعتبر الحزامي ان هذا الإجراء سيعكر وضعية المتهم إذ انه من الأكيد انه لن يفرج عنه قبل الجلسة التي تعين له لدى حاكم ناحية تونس بعد إحالتها عليه من قبل محكمة التعقيب وهو أمر يحتاج إلى وقت. وقد استندت محكمة التعقيب في هذا الاجراء على الفصل 294 من مجلة الاجراءات الجزائية والذي ينص على أنه "لمحكمة التعقيب بناء على طلب من وكيل الدولة العام أن تأذن في الجنايات والجنح والمخالفات بسحب القضية من أيّة محكمة تحقيق أو قضاء وإحالتها على محكمة أخرى من الدرجة نفسها، وذلك مراعاة لمصلحة الأمن العام أو لدفع شبهة جائزة".
 
في الختام
 
ختاما، لا شك أن هذه الحادثة تطرح من جديد، إلى جانب مسألة التدخل في القضاء والتأثير عليه، كل الإشكاليات المرتبطة بمؤسسة الإيقاف التحفظي والسجن قبل المحاكمة. فهي وسيلة استثنائية في القانون. ولكنها استعملت ولا تزال تستعمل في تونس بشكل واسع وربما غير قانوني،كما تشير إلى ذلك كل الشبهات المرتبطة بهذه القضية، التي تكاد تتحول إلى قضية دولة. ولكنها تطرح من جهة أخرى مسألة الإضرابات "الوحشية" التي صارت هما يؤرق التونسيين بعد الثورة ويؤلب قطاعا واسعا من الرأي العام ضد النقابيين وهي اضرابات لا تستجيب إلى التراتيب المنصوص عليها بمجلة الشغل، وأساسها موافقة المركزية النقابية والإعلام المسبق للجهات المعنية قبل تنفيذ الإضراب بعشرة أيام على الأقل.

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني