لا أكتب هذه السطور دفاعاً عن المحاكم الشرعية. ولا دفاعاً عن قضاتها. ولا دفاعاً عن الآباء الذين يبرعون في استخدام القانون (مدني، ديني، شرعي، كنسي، قبلي، على أنواعه…) كورقة ضغط ضد زوجاتهن وطليقاتهن، ولا دفاعاً عن قوانين تحصر دورنا كزوجات مطيعات وأمهات مضحيات. لم ولن أسمح لنفسي "التنظير" على النساء ولا إنتقادهن على كيفية قيادة معركتهن ولا تقويض أي حراك نحو دولة مدنية. أكتب فقط لأقول: أوقفوا تبرئة للدولة ومحاكمها المدنية.
تأثرنا جميعاً الأسبوع الماضي بالفيديو المصوّر الذي انتشر للينا جابر: أم ترثي ابنتها مايا من خلف سياج منعها من الوصول إلى قبرها، بعدما مُنعت من قبل الأب من حضور عزائها، ومن أمومتها لسنوات طويلة. لم يكن الموت إذاً ما حرم لينا من أولادها، بحيث منعت من رؤيتهم حتى قبل وفاة مايا في كانون الأوّل 2019 بظروف غامضة. في هذا المجال، تتهامس أوساط المنطقة أن الوالد متورط بأعمال مشبوهة وكان هو المقصود بعملية القتل، فيما البعض يوحي بأن قتل الإبنة جاء بمثابة رسالة لتهديده.
أعادت هذه القضية الحديث عن حقّ الأم بالحضانة لدى الطائفة الجعفرية، حيث دعت مجموعات حقوقية ونسائية إلى وقفة احتجاجية أمام المجلس الشيعي الأعلى وأمام المحكمة الجعفرية في صور، إستنكاراً للقضية ومطالبة برفع سن الحضانة لدى الطائفة.
لا شك بأن المحاكم الدينية – بكافة طوائفها ومللها وأديانها – تتحمل مسؤولية كبيرة في إرساء ثقافة ذكورية، من خلال قوانين وممارسات أقل ما يقال عنها أنها لا تؤمّن أي مساواة بين المرأة والرجل، والإبن والإبنة. إلا أن هذه المحاكم – كلاعب اجتماعي – تشكل غصناً من أغصان شجرة مثقلة بالتحيّز ضد النساء.
فأولاً، دور المحكمة الجعفرية في هذه القضية بالتحديد هامشي. لينا لم تحرم من حضانة أطفالها بقرار من المحكمة، بل بموجب موازين قوى اجتماعية تتفاعل خارج قاعات المحاكم. لينا لم تلجأ إلى المحكمة الجعفرية للمطالبة بحضانة ابنتها، فزوجها من "أبطال الحيّ"، مثله مثل زوج منال عاصي، التي لم تلجأ أيضاً إلى المحاكم عندما عنّفها زوجها قبل أن يقتلها. فهذا "القبضاي" وموازين القوى التي يولّدها، وشبكة علاقاته مع مسؤولين دينيين وأمنيين وحزبيين في المنطقة تجعله بمنأى عن أي حساب. يمكنه أن يحرم أماً من أولادها. يمكنه أن يدفن ابنته التي قتلت بظروف غامضة في باحة منزله، ويمكنه أن يسيّج المقبرة. فوراء "قبضاي الحي" سلطة مجتمعية اكتسبها ليس فقط من الدين والمحاكم الدينية كما يحلو لنا تبسيطه، وإنما أيضا من خلال هيكليات وموازين قوى متشابكة تلعب لصالحه.
وهنا، يبدو من الضروري طرح سؤال – ولو بدا مبتذلاً – في ظل الظروف التي نشهدها: أين الدولة؟ وأين هي تحديداً في خطابنا النسوي والحقوقي؟ ففي حين تبدو مخاطبة المجلس الشيعي والمحاكم الجعفرية مبررة وضرورية في الكثير من الأحيان (وغير مبررة في غيرها)، من الممكن القول أن حصر المخاطبة بها بات يتجه نحو تحميل هذه المحاكم كامل المسؤولية في ظل تبرئة مكوّنات أساسية وربما أكثر تأثيراً.
فمايا قُتلت منذ أكثر من ثلاثة أشهر بظروف غامضة وهي برفقة والدها، الذي عاد ودفنها في أرضه، وهو وضع كان ليستمر لولا خروج القضية إلى العلن عبر فيديو الأم الثكلى. فأين النيابات العامة من التحقيق بالحادثة؟ وماذا بيّنت التحقيقات؟ وكيف يسمح لوالد بأن يدفن ابنته في أرضه الخاصة بمخالفة صارخة للقانون؟ ولماذا لم يتم توقيف الأب على ذمة التحقيق؟ هذه الأسئلة، تقع حصراً ضمن صلاحيات المحاكم العدلية، دون أي صلاحيات للقضاء الشرعي فيها. ولعل هذه الملاحظة تنطبق أيضاً على قضايا الحضانة بشكل عام. فمن المعلوم أن من يعطي الأمر للقوى الأمنية بنزع طفل من أمه بالقوة، هو قاض مدني (رئيس دائرة التنفيذ) وليس المحكمة الدينية المصدرة للأمر. وطبعاً، بإمكان قاضي التنفيذ أن يجتهد لتوسيع صلاحيته في مراقبة قرارات المحاكم الشرعية لما فيها من مخالفة للنظام العام. صلاحية المحاكم الدينية هي صلاحية استثنائية، وتتعلق بمسائل الأسرة حصراً، وتبقى الصلاحية الأساسية للدولة المدنية المناط بها حماية النظام العام. إلا أننا نلحظ أن المحاكم العدلية تبقى بمنأى عن المحاسبة من قبل الرأي العام لتقصيرها في حماية النظام العام والأفراد في ظلّ تركيز الحملات على المحاكم الدينية حصراً.
وأبعد من دور الدولة والقانون، هل لنا أن نعترف بأن مجتمعنا ما زال يهترئ بالذكورية والأبوية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقاصرات منّا؟ هل لنا أن نحدّد المسبّب الرئيسي في التسلّط الأبوي على القاصرين بشكل خاص؟ فلمايا، بحسب الفقه الجعفري، إمكانية اختيار حضانة والدتها (حتى ولو أن الوالدة متزوجة، وهو أمر غالباً ما ترفضه كافة قوانين الأحوال الشخصية)، ولكنها لم تفعل. فليس القانون ولا قضاة الشرع من منعوها من ذلك، بل التسلط الأبوي والذي يتجلّى بأبشع مظاهره في مشهد أب تقتل ابنته ويدفنها في أرضه الخاصة دون أن يطرح عليه ولو سؤال.
أفهم غضب النساء. أفهم خوفهنّ جميعاً من قوانين تنقلب عليهن وعلى حقوقهنّ في أي لحظة. ولكن، هل أن المحاكم الدينية تتحمل كامل المسؤولية عن الذكورية والأبوية التي نعاني منها؟ وهل أن هذه القوانين والمحاكم منعزلة عن مكوّنات المجتمع؟ وهل أن واقع المساواة في المحاكم والقوانين المدنية أفضل؟ هل لنا أن ننسى أن محكمة مدنية قد برّرت جريمة قتل زوج لزوجته بنوبة غضب؟
أختم بسؤال طرحته ليلى أبو لغد: "هل يمكننا أن نقبل أنه قد تكون هناك أفكار مختلفة حول العدالة وأن رغبات النساء قد تكون مختلفة، وأنهنّ قد يرغبن مستقبلاً مغايراً لذلك الذي نتصوره نحن لهنّ كالأفضل؟[1]". فهل هنالك مساحة في حراكنا النسوي لنساء قد لا ترى حاجتها في قوانين مدنية؟ هل هنالك مكان لصديقاتنا وأمهاتنا وخالاتنا المؤمنات التي ترين في الشرع والكنيسة جزءاً من هويتهن؟ هل هنالك مساحة في مطالبنا الحقوقية لإصلاح المحاكم الدينية من أجلهن؟ وأبعد من ذلك، أي حوار مجتمعي هذا الذي نطمح إليه مع هؤلاء النساء وما يمثلونه؟ وأي حوار مع القضاة الإصلاحيين داخل المحاكم الدينية، المهمّشين داخل محاكمهم والمشمولين بإتهاماتنا وتعميماتنا؟
لا أدّعي أنني أملك الأجوبة على هذه الأسئلة. ولكن لديّ الكثير من الخشية: خشية أن يتحوّل خطاب "شيطنة" المحاكم الدينية إلى غطاء لتبرئة الدولة من مسؤولياتها، خشية من تقويض أي إصلاح ضمن المحاكم الدينية قد يكون أكثر فائدة للنساء من صراعاتنا الأيديولوجية، خشية أن تضيع مطالبنا وقضايانا ومشاكلنا وخوفنا في صراع بين ثنائيات الديني/ المدني، خشية أن يتحوّل خطابنا النسوي إلى سلطة أبوية، لا تقبل سوى بناتها الخاضعات لمعتقداتها المدنية العلمانية.
[1] Abu-Lughod, L. (2013). Do Muslim women need saving?. Harvard University Press. p 43