“إدارات الدولة بحاجة إلى عمليّات تطهير”. هذا القول الشائع في لبنان يجد معناه كاملاً عند التدقيق في ملفّ الفيول المغشوش. فقد أثبت القرار الظنّي الصادر عن قاضي التحقيق نقولا منصور في 10/7/2020 والقرار الصادر عن الهيئة الاتّهامية في تاريخ 8/12/2020 بالأسماء والأرقام أنّ الفساد شامل ومُنظّم إلى أقصى حدّ. فبالإضافة إلى ما يُظهره هذا الملفّ من فساد في منظومة السلطة التنفيذية لجهة تكريس الاحتكار وضمان استمراره طيلة 15 سنة (وهذا ما عرضناه في حلقتين سابقتين)، تظهر بشكل لا يقلّ وضوحاً شموليّة الفساد داخل الإدارات العامّة المعنيّة في تنفيذ هذا العقد. ومن شأن اجتماع الوجهَين أن يثبت أنّ الفساد لا يؤدّي فقط إلى تمكين شركات أو أشخاص من تحقيق أرباح طائلة على حساب الدولة من خلال منحهم احتكارات، بل يزيد أيضاً أرباحهم تلك من خلال تواطؤ عدد كبير من موظّفي الإدارات العامّة مع المحتكرين في اتّجاه غضّ الطرف عن الخلل الحاصل في تنفيذ عقود الاحتكار معهم. وفيما يتمّ فساد منح الاحتكار على أعلى هرم الدولة، أي الحكومة، وتحصد من خلاله القوى السياسية أغناماً تبقى في الغالب غير مرئية، فإنّ فساد تعزيز مغانم الاحتكار والذي يتمثّل في تعميم الرشى إنّما يتغلغل في الإدارات العامّة ويفيد عدداً من الموظّفين العامّين العاملين فيها.
وكان هذا الجانب الأخير من الفساد قد ظهر جلياً بعدما ثَبُت في تقارير مختبرات أجنبية أنّ الفيول المستورد من الشركة على سفينة Baltic مغشوش حيث زادت نسبة الترسّبات عن 4% فيما يجب ألّا تتعدّى 0.9%، وأنّ قبول استلامه ما كان ليتمّ لولا تزوير نتائج الفحوصات في المختبرات التي تشرف عليها الدولة اللبنانية وتواطؤ العديد من كبار وصغار الموظّفين في وزارة الطاقة وشركة الكهرباء. وقد حصلت المفاجأة في أثناء التحقيق من خلال إقرار الأشخاص المعنيين في الشركة المحتكِرة أو الإدارات العامّة بأنّ ما حصل مع حمولة Baltic من دفع رشى وتزوير لم يكن عرضياً أو طارئاً بل هو أمر حصل سابقاً مع حمولات كثيرة، وأنّ تكرار هذه الأفعال أدّى عملياً إلى إرساء نهج ونظام متكامل للرشى وفق ما سنفصّله في هذه الحلقة.
نظام الرشاوى: هكذا تمّت مراعاة خصوصيّة الموظّفين ومناصبهم ومعتقداتهم
أكثر ما يلفت في التحقيق هو إقرارات موظّفي الشركات المحتكِرة بإرساء نظام متكامل للرشى، وهي إقرارات توافقت وتكاملت مع إقرارات الموظّفين أو القيّمين على مراقبة تنفيذ عقود هذه الشركات بصورة أو بأخرى. وهذا ما نستشفّه من المعطيات التالية:
تنظيم قائمة بأسماء الموظّفين الذين يتقاضون رشى شهرية وفي الأعياد
تمثّلت إحدى أهمّ وثائق التحقيق في قائمة أسماء ضُبطت بحوزة طارق الفوّال، أحد المدّعى عليهم، الذي كان يتولّى رسمياً إدارة سوناطراك، وإن بيّنت التحقيقات أنّه مجرّد وكيل سفنها البحري. وتبيّن أنّ هذه القائمة نظّمتها موظّفة مساعِدة لمدير شركة ZR Energy إبراهيم الذوق (وهي الشركة المورِّدة فعلياً تحت غطاء عقد سوناطراك) بالتنسيق مع مساعِدة تادي رحمة المدير الفعلي لمجموعة ZR Energy Group، الشركة الأمّ، وأنّها تضمّ أسماء موظّفين على صلة بتنفيذ عقد شراء الفيول عن سنتي 2017 و2018 والهدايا الممنوحة لكلّ منهم في الأعياد والمناسبات. وقد اعترفت الموظّفة المذكورة أنّها كانت تحضّر هذه القوائم سنوياً، وترسلها إلى الفوّال الذي يتولّى توزيعها على المعنيين بها.
مراعاة مناصب كبار الموظّفين: لكلّ مقام مقال
تولّى موظّفو الشركة المحتكِرة ووسطاؤها التعامل مع الموظّفين من الفئات المتدنّية (وضمناً تحديد الهدايا وتوزيعها عليهم)، إلّا أنّ العلاقة مع المديرين العامّين في وزارة الطاقة والمنشآت وشركة الكهرباء (أبرزهم سركيس حليس مدير المنشآت النفطية وأورور فغالي المديرة العامّة في وزارة الطاقة وكمال حايك مدير مؤسّسة كهرباء لبنان) كانت تتمّ على مستويات أعلى وِفق ما أفاد به المستجوَبون. إذ لم تكن الهدايا المخصَّصة لهم ترد مثلاً على القوائم المُعَدَّة لهذه الغاية بل مجرّد أسماء من يقدّمها لهم، كما كانت الهدايا تصلهم مباشرة عن طريق المديرين العامّين في الشركات المورِّدة.
وهذا ما نستشفّه من مجموعة من الاعترافات، منها اعتراف سكرتيرة مدير الشركة التي أفادت أنّها كانت تحضّر هدايا وتشتريها للموظّفين الصغار فقط، فيما يرد إلى جانب اسمي سركيس حليس وأورور فغالي عبارة “مع إبراهيم ومع تادي” ما يدلّ على أنّ الأخيرين هما المكلّفان بنقل الهدايا لهما. كما أعلمها مدير الشركة في أكثر من مناسبة وفق إدلاءاتها أنّه يتولّى بنفسه التعامل مع المديرين الكبار: ففيما اشترت في إحدى المرّات هدايا (ساعات) لكلّ من خديجة نور الدين وأورور فغالي بقيمة 500 دولار، طلب منها إبراهيم الذوق لاحقاً عدم تقديم الهدايا لهما لأنّه يقدّم لهما الهدايا شخصياً. كذلك أفادت بأنّ مديرها هو من يتكفّل عادة بهدايا كمال الحايك مدير عام مؤسّسة كهرباء لبنان شخصياً خلا مرّة واحدة اشترت فيها له ربطة عنق وأزرار قميص بقيمة 1000 دولار، تسلّمها عبر طارق الفوّال كما أفاد هذا الأخير. وكذلك الأمر بالنسبة إلى حليس الذي كانت علاقته مباشِرة مع المدير، فيما كان يقتصر دورها بصفتها سكرتيرة على حجز بطاقات سفر درجة أولى مع حجز فندقي له ولعائلته على نفقة الشركة، فضلاً عن تأمين التأشيرات من السفارات بحسب إفادتها.
تعرِفات خاصّة عن كلّ حمولة لموظّفي الإنشاءات
هذا ما نستشفّه من مجموعة من الإفادات الواردة على ألسنة عدد من الموظّفين. فقد اعترف الفوّال في إفادته بنقل رشاوى لموظّفين، بخاصّة في المختبرات من قِبل إبراهيم الذوق مدير ZR Energy. فكان ينقل 2500 دولار إلى رؤساء المختبرات عن كلّ شاحنة تصل و200 دولار إلى كلّ موظّف يشترك في فحص عيّنة. واستمرّ بتسديد هذه المبالغ حتّى قبل شهر من توقيفه. وكانت المبالغ تُسلَّم إلى رؤساء المختبرات رفعت العاكوم وجورج الصانع ومحسن غالب الذين يقومون بتوزيعها، بحسب اعترافاتهم، على العاملين في المختبرات بعد اقتطاع حصّتهم. وقد اعترف عدد من موظّفي المختبر المركزي ومختبر طرابلس ومختبر الزهراني بتلقّي هذه الهبات فعلياً.
مراعاة معتقدات الموظّفين ورغباتهم وظروفهم
فضلاً عمّا تقدّم، أبدتْ الشركة المحتكِرة اهتماماً في أقلمة رشاويها مع ظروف الموظّفين ورغباتهم ومعتقداتهم.
فعلى سبيل المثال، لم تستسِغ المديرة العامّة لوزارة الطاقة فغالي أنّ هناك شركة تدفع أموالاً للموظّفين، بحسب إفادتها. وبدل أن تطالب بالتحقيق في جرم الرشوة عندما سمعت بذلك، اقترحت على هذه الشركات توزيع هدايا عينية بدل توزيع الأموال النقدية هدايا للموظّفين بمناسبة الأعياد، علماً أنّ هذه الهدايا ربّما تكون من الذهب أو ليرات ذهبية أو غير ذلك، بحسب إفادتها أيضاً. وهو ما صار يتمّ في وزارة الطاقة، وكأنّ تحويل الهدايا من مبالغ مالية إلى “ذهب” ينفي عنها صفة الرشوة. وقد اعترفت فغالي مثلاً بأنّها تلقّت حقائب نسائية هدايا.
كذلك تأقلمت الجهات الراشية مع العادات الموسمية والدينية. فكانت ترسل هدايا كحولية للبعض وهدايا دينية أخرى للبعض الآخر. فقام، مثلاً، طارق الفوّال بإهداء خديجة نور الدين مسبحة ومنديلاً بعد أدائه فريضة العمرة. كذلك تلقّت ساعة يد هديّة منه ودلّها مرّة على محلّ لشراء ثريّات كريستال لمنزلها أصرّ في ما بعد على دفع ثمنها، ما يوازي 3000 دولار بحسب إفادتها، ويدلّ هذا الأمر على العلاقة الوطيدة بين الراشي والمرتشين ومعرفته بتفاصيل حياتهم.
توارث الرشوة بين السلف والخلف
أمرٌ آخر نستشفّ منه مأسسة الرشوة قِوامُه توارث الرشوة بين السلف والخلف. وهذا ما نتبيّنه من اعترافات مديرَيْ مختبرات إنشاءات طرابلس الحالي محسن غالب والسابق عبد الله عواضة، حيث يتبيّن أنّ الأوّل حلّ محلّ سلفه على الـPayroll فور تعيينه، وأنّ الأخير شرح له كيف تجري الأمور في سياق التسلّم والتسليم بينهما. وللدلالة على ذلك، يكفي الاطّلاع على إفادة هذا الأخير، إذ جاء فيها أنّه تمكّن من إقناع محسن غالب بالاستمرار في هذا النهج مقابل تقاضيه مبالغ مالية من طارق، وأنّه استمرّ بقبض المال على الرغم من تقاعده.
شموليّة الرشوة
استطاعت الجهات الراشية أن تسيطر على عمليّة الرقابة على الفيول بأكملها، وذلك رغم تعقيد إجراءات فحص العيّنات. فشملت الغالبية الكبرى للموظّفين كما مختلِف أجهزة الرقابة على توريد الفيول، حيث تمّ الظنّ بـ16 فرداً بجرم الرشوة، مع احتمال ارتفاع العدد في ظلّ استمرار التحقيق مع آخرين. وقد تبيّن أنّ معظم موظّفي مختبرات منشآت بيروت وطرابلس والزهراني (تسعة مِخبَريّين ورؤساء مختبرات) ورئيس المنشآت سركيس حليس تمّ الظنّ بهم بجرم الرشوة.
الخدمات لقاء الرشى
تنوّعت الخدمات المقدَّمة من الموظّفين المرتشين ما بين تزوير وعرقلة الرقابة وغضّ النظر عن بعض الحقائق المتعلّقة بتنفيذ العقد.
المختبرات العامّة: تعديل العيّنات وتنسيق النتائج
أبرز الخدمات المقدَّمة إلى الشركة المحتكِرة مقابل هداياها وظروفها المالية تمثّلت، بالنسبة إلى العاملين في مختبرات الإنشاءات، في تزوير نتائج فحص عيّنات الفيول المستورَد. وهذه خدمة أساسية طالما أنّها سمحت بقبول استلام الفيول المغشوش طيلة سنوات من دون أن تُثار أيّ فضيحة في هذا الشأن. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه المختبرات هي جزء من الإدارة العامّة وتخضع لمدير عامّ الإنشاءات سركيس حليس. وبفِعل شموليّة الرشوة، لم يكن التزوير يحصل على صعيد مختبر بعينه، بل على صعيد المختبرات كافّة، ومنها المختبر المركزي فضلاً عن فرعَيْ طرابلس والزهراني حيث كانت السفن تفرّغ الحمولة ذاتها على عدد من المعامل. ويُلحظ أنّ رؤساء المختبرات أقرّوا أنّهم كانوا ينسّقون فيما بينهم ومع موظّفي المختبرات، للوصول إلى نتائج موحَّدة وفق ما تقتضيه مصالح الشركة الراشية.
فقد طلب المدّعى عليه ريمون عساف، الموظّف في المختبر المركزي، من المدّعى عليها ميرنا الخطيب، الموظّفة في المختبر المركزي، إضافة كمّيّة من الفيول المطابق للمواصفات المحتفَظ به في المختبر على العيّنة المسحوبة من حمولة Baltic موضوع الفحص، بحضور موظّفة أخرى. فأقدمت ميرنا الخطيب على إضافة الفيول النظيف إلى العيّنة ما عدّل النتائج بحيث اقتربت من نتائج فحوصات بلد المنشأ وصارت مطابِقة للمواصفات.
وكان المدّعى عليه محسن غالب، رئيس المختبرات في طرابلس، يعدّل النتائج بناء على طلب فارس الفوّال بالشراكة مع الموظّفين في المختبرات وبالتنسيق مع عبد الله عواضة رئيس المختبرات السابق في طرابلس. وكذلك رفعت عاكوم رئيس مختبرات الزهراني الذي كان يتلاعب بنتائج العيّنات مع يوسف فوّاز الذي يعمل في المختبر نفسه والذي كان ينسّق النتائج مع المختبرات الأخرى ويقاربها لتكون قريبة من نتائج بلد المنشأ.
شركات مراقَبة تستغلّ موقعها لنقل الرشاوى والتستّر على المخالفات
عند وصول كلّ باخرة، في إطار عقد شراء الفيول، تُكلَّف شركتا مراقبة، واحدة نيابة عن الشاري والأخرى نيابة عن المورِّد، بأخذ عيّنات من حمولتها ونقلها إلى المختبرات لفحصها. وفي حالة الناقلة Baltic، كلّفت شركة Yellowtech وكلّفت الشركة المورِّدة شركة PST، وذلك لضمان صحّة النتائج. ومن البيّن أنّ على هاتين الشركتين، لإتمام الوظائف المناطة بهما، أن تعملا بشكل مستقلّ وبدون تنسيق بينهما.
ولكن خلافاً لذلك، أدّت شركات المراقبة دوراً مهمّاً في تسهيل التزوير ونقل الرشاوى، كلّ ذلك بالتنسيق التامّ بينها، بعدما حجبت مصلحة الشركة المحتكِرة الصالح العامّ.
فقد أقرّ فارس موسى مدير شركة PST أنّه كان ينقل الرشاوى ويساهم في تزوير النتائج، بحسب إفادته وإفادة طارق الفوّال، حيث سلّم ميرنا الخطيب مبالغ مالية كما كان ينقل هدايا للموظّفين، هي عبارة عن ليرات ذهب في الأعياد ومبالغ مالية. كما ضُبطت رسالة واتساب بينه وبين ريمون عسّاف يطلب فيها رفع نسبة الكثافة والكبريت. كما ثبت أنّ إيلي نجّار وهو مدير آخر في شركة PST ومستشار المديرة العامّة في وزارة الطاقة في الوقت عينه. كما ثبت خلال التحقيقات أنّ موسى طلب من زياد أصفر مدير Yellowtech عدم ذكر إرسال العيّنات إلى المنشآت في الجيّة والذوق وتنسيق الجواب معه. وقد ورد على لسان زياد الأصفر أنّه “سايره بالتقرير”.
إهمال الشكاوى بوجود غشّ في البضاعة
تجاهلت أورور فغالي وخديجة نور الدين الشكاوى المقدَّمة من الشركات المشغِّلة لمعامل الكهرباء وكهرباء لبنان حول نوعيّة الفيول واكتفتا بالاتّصال بالمدّعى عليه طارق الفوّال شفهياً من دون إجراء أيّ تحقيق من قِبل مختصّين. ولم تتصرّفا كما تتطلّب منهما وظيفتهما للحفاظ على المصلحة العامّة كما لم تسجّلا اعتراضاً خطّياً على نوعيّة الفيول أثناء التفاوض حول عقد سوناطراك كما تجري العادة سنوياً، بل اكتفتا بالبحث في الجعالة ما ألحق أشدّ الضرر بالمصلحة العامّة.
اتّخاذ إجراءات وتسريب معلومات تحسّباً لمداهمة التفتيش المركزي
“بدّي شركة قبضايات بيعرفوا يجاوبوا، عتلانة همّ يعملّي مصيبة”
خلال اجتماع مع محقّقين من التفتيش المركزي، أبلغ هؤلاء فغالي نيّتهم مداهمة البواخر التي تنقل مادّة الفيول إثر شكاوى عديدة من الشركات المشغِّلة. عندئذ، سارعت فغالي، حسبما ورد في القرار الظنّي، لاتّخاذ خطوات تحسّباً ممّا قد تسفر عنه هذه المداهمة. ومن أهمّ هذه الخطوات، مطالَبة مساعِدتها خديجة نور الدين تزويدها بمواعيد وصول البواخر في الفترة القادمة وأسماء شركات المراقبة التي ستتواجد عليها، متوجّهة لها بما حرفيّته: “بدّي شركة قبضايات بيعرفوا يجاوبوا، عتلانة همّ يعملّي مصيبة”. وقد نفّذت فعلاً نور الدين طلبات فغالي، بحيث أعلمتها بأنّ الباخرة المحمَّلة بالفيول ستصل خلال يومين وتواصلت مع إيلي حدّاد الموظَّف في شركة المراقبة وطلبت منه توخّي الحذر، لاحتمال وجود مهندسين أثناء التفتيش الفجائي.
“خلّينا نسكت، أنا سكتِتْ إنت اسكتِ”
أو سياسة Don’t ask don’t tell
“خلّينا نسكت، أنا سكتِتْ إنت اسكتِ”. هي إحدى رسائل فغالي لمساعدتها نور الدين حسبما ورد في القرار الظنّي. وفيما تتّصل هذه الواقعة بتسرّب نفطي حصل في البحر قبالة منطقة الجيّة من سفينة تحمل موادّ لمؤسّسة كهرباء لبنان، أي بضرر لا يتّصل بحمولة سفينة Baltic، فإنّها تشكّل رغم ذلك إضاءة مفيدة جدّاً على طبيعة العلاقة بين الموظّفين العامّين والشركات المورِّدة، حيث ينسلخ هؤلاء عن وظيفتهم الأساسية التي تقوم على خدمة المصلحة العامّة ليضعوا أنفسهم في خدمة مصالح هذه الشركات. وهكذا، بدل أن تجهد فغالي في إثبات مسؤوليّة تلك الشركات في التلويث، فإنّها تحرص على التعتيم على هذه المسؤوليّة وإبراء الشركة منها بشكل شبه تامّ.
في السياق نفسه، ورغم علم العديد من الموظّفين أنّ شركة سوناطراك هي مجرّد واجهة لشركة أخرى هي ZR Energy ، سكت هؤلاء تماماً عن ذلك.
علاوة على كل ما تقدّم ذكره من ممارسات فساد (رشاوى لقاء خدمات)، كشف القرار الظنّي عن ممارسات فساد أخرى. من هذه الممارسات، أنّ المدير العامّ للمنشآت سركيس حليس دأب على التصديق على لوائح حضور عدد من الموظّفين يعلم جيّداً أنّهم لا يحضرون أبداً ولا يؤدّون أيّ عمل. حتّى أنّه طلب من موظّفة تعبئة لوائح حضور بعض هؤلاء بحسب إفادتها. وقد تكرّرت أسماء خمسة موظّفين على الأقلّ في هذا الخصوص، اثنان منهم غائبان منذ 2004 ويحضران كل بضعة أشهر للتوقيع مسبقاً على لوائح حضور فارغة عن أشهرٍ مقبلة.