قضية النفايات السامة في لبنان ـ الجزء الأول (1987 – 1989)


2018-06-29    |   

قضية النفايات السامة في لبنان ـ الجزء الأول (1987 – 1989)

فأجأ وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال طارق الخطيب اللبنانيين بإعلانه في 22 أيار 2018 توجيه كتاب إلى كل من المدير العام الهيئة الوطنية للطاقة الذرية والمدعي العام البيئي في جبل لبنان للتحقق من إمكانية وجود براميل من النفايات السامة الخطرة مطمورة في جرود كسروان[1]. بدا وكأنّ الخطيب اكتشف مؤخراً قصة البراميل السامة التي دخلت لبنان عبر إيطاليا عام 1987. لم يكتفِ الخطيب بهذا الإجراء بل قرّر في 31 أيار زيارة منطقة عيون السيمان مصطحباً معه وسائل الإعلام. جال في المنطقة واستمع إلى الأهالي وإلى أحد الرعيان الذي قال له إنّه يتجنّب نقل غنمه إلى منطقة معيّنة في الجرود خوفاً من نفوقه. تبيّن للوزير أن الأهالي سمعوا بوجود هذه البراميل ولكنهم لم يروها يوماً، فقرر الطلب من قيادة الجيش الكشف على هذه المواقع للتأكّد ما إذا كانت البراميل ما زالت مطمورة هناك[2]. وعندما سألته مراسلة “إل. بي. سي.” عن توقيت فتح الملف، قلل من أهمية هذه المسألة واعتبر أنّ الأولوية هي التصدّي لقضية “تشكّل خطراً على حياة الناس”[3].

إلا أنّ توقيت فتح الملف مباشرة بعد الانتخابات النيابية بدا مريباً. فما الذي يدفع بوزارة البيئة للتحرّك فجأة بعد أكثر من 30 سنة على اكتشاف هذه البراميل، لاسيّما أن آخر محاولة للعثور عليها كانت عام 1995؟ هل هي محاولة لتسجيل الأهداف السياسية من فريق ضد آخر في ظلّ الصراع السياسي المتأجّج بين “التيار الوطني الحر” (الخطيب محسوب عليه) و”القوات اللبنانية”، المتهم الرئيسي بإدخال هذه النفايات خلال الحرب؟

يوحي مسار هذه القضية بذلك، خصوصاً أن الدولة اللبنانية لم تسعَ يوماً إلى إنهاء هذا الملف بشكل جدّي. وبذلك، تبدو قضية البراميل السامة واحدة من قضايا عدة من مخلّفات الحرب، تتوالى الأطراف السياسية على إعادة إثارتها من باب الاستغلال السياسي، غالباً من دون أيّة نيّة لمعالجتها بشكل حاسم ونهائي.

فكان أمام حكومة الرئيس سليم الحص الفرصة عندما اكتشفت البراميل عام 1988 لترحيلها جميعها وفق الاتفاق الذي تمّ حينها بينها وبين الحكومة الإيطالية. ولكنّها تقاعست عن أداء مهمّتها بشكل كامل فاكتفت بإعادة ما تمّ نقله من براميل إلى مرفأ بيروت حينها. وهذا الأمر كرّرته حكومة الرئيس الراحل رفيق الحريري عام 1995 عند فتح الملف مجدداً. فبعد الوعود بمتابعة الملف وختمه نهائياً، تبيّن أن الهدف منه كان تسجيل النقاط لفريق سياسي بوجه آخر. هذا كلّه بالطبع على حساب سلامة البيئة وصحة المواطن اللذين لم يحتلّا يوماً أولويات السلطة الحاكمة في لبنان.

 وهذا ما سنحاول تبيانه في هذا المقال حيث سنتناول رواية النفايات السامة أو ما عرف بـ”صفقة الموت”[4] في جزئها الأول، أيّ منذ دخولها إلى لبنان خلال الحرب الأهلية في أيلول 1987 إلى لحظة اكتشافها عام 1988 وترحيل جزء منها عام 1989. وهذه القضية يشوبها غموض كبير سواء من ناحية الأسماء المتورّطة أو المعلومات حول مكان تواجد البراميل المتبقية في لبنان. وهذا ما أكده لنا خبراء بيئيون قابلناهم أثناء إعدادنا لهذا البحث، وهم د. ولسن رزق الذي كان عضواً في لجنة الخبراء التي كلّفتها الحكومة متابعة الملف آنذاك، ود. ناجي قديح الذي استلم الملف بعد عام 1996 خلال عهد الوزير أكرم شهيب ود. علي درويش الذي خاض معركة الكشف عن حقيقة هذه البراميل إلى جانب منظمة “غرينبيس” (Greenpeace) عام 1995. وقد استندنا في بحثنا أيضاً إلى أرشيف صحيفتي “النهار” و”السفير” وكتاب الصحافي بيار عطالله “النفايات السامة في بلاد الأرز، القصة الكاملة“.

من الضروري التأكيد بأنّ لا علاقة لهذا البحث بالتجاذبات السياسية الحالية. فقد قررت وزارة البيئة إعادة فتح القضية بالتزامن مع إعدادنا لهذا الملف الذي يهدف فقط إلى تسليط الضوء على هذه الرواية الغامضة وفتح النقاش حول مكان وجود هذه البراميل تحديداً وحول الخطر الذي تشكله مطامر الموت المنتشرة هنا وهنالك في لبنان.

دخول النفايات إلى لبنان

ما هو مؤكد أن 15800 برميل و20 مستوعباً من النفايات السامة دخلت الحوض الخامس لمرفأ بيروت آتية من إيطاليا على متن الباخرة التشيكية “ردهوست” في 21 أيلول 1987. وكانت الحرب الأهلية (1975-1990) قد أضعفت الدولة ومؤسساتها، ما أدّى إلى سيطرة الميليشيات على المرافق العامة وإلى تقسيم مناطق النفوذ فيما بينها. وكانت “القوات اللبنانية” حينها تسيطر على ما عرف بـ”المناطق الشرقية” وعلى الحوض الخامس من المرفأ. فكانت هي المسؤولة عن مراقبة البضاعة التي تدخل وتغادر المرفأ. في المقابل، كانت البلاد الأوروبية تعاني من إنتاجها كميةً كبيرةً من النفايات الصناعية، فقررت التخلّص منها عبر بيعها لما يعرف بـ”مافيا النفايات”. وهذه المافيات تستغل البلاد التي تعاني من اضطرابات أمنية أو من فساد في الدولة لعقد اتفاقات تشمل بيع نفايات والتخلّص منها مقابل بدل مادي مرتفع. وهذا ما جرى حينها إذ اتفقت شركة “إيكولايف” الإيطالية على التخلّص من النفايات السامة والخطرة فعهدتها إلى شركة “جيلي واكس” المتخصصة في التخلص من المواد السامة. حاولت هذه الأخيرة في بادئ الأمر شحن هذه النفايات إلى فنزويلا ففشلت. ووقع الاختيار بعد ذلك على لبنان وتحديداً على “شركة نصار للشحن” لصاحبها أرمان نصار الذي ادّعى أنه يهدف إلى بيع مواد أولية للصناعة لشركة “أدونيس للهندسة” ومديرها روجيه حداد (إبن خالته). وعليه، وصلت الشحنة إلى الحوض الخامس الواقع تحت سيطرة “الصندوق الوطني” في ميليشيا “القوات” وبموافقتها الكاملة، حسب جميع المصادر التي عدنا إليها. وقد كشفت التحقيقات لاحقاً أن “القوات” تقاضت مبلغاً تراوح بين 22 و25 مليون دولار مقابل هذه الصفقة. وقد نقل الصحافي بيار عطالله هذه المعلومات عن القاضي جورج غنطوس (الذي كان تولّى التحقيق في هذا الملف) في تصريح إلى مجلة “المستقبل” في تموز 1988 وإلى مجلة “الوسط” في 13 شباط 1995[5].

تأخّر الكشف عن وصول هذه الشحنة حوالي 9 أشهر وكان ذلك الوقت كافياً للتخلّص من البراميل، فتمّ رميها في العديد من المناطق، على أن نعود لاحقاً إلى تفاصيل كشفها ودفنها وحتى حرقها في الجبال والوديان والبحر بين تشرين الأول 1987 وربيع 1988.

بدأت معالم الصفقة بالتكشّف حين تقدّم محامي شركة “إيكولايف” بطلب لدى قنصل لبنان في ميلانو أديب علم الدين للمصادقة على وثائق تثبت وصول الشحنة وإفراغ حمولتها وتسليمها إلى المعنيين. تبيّن للقنصل أن هذه الوثائق مزوّرة. فالأرزة الموجودة على الختم كانت تشبه شجرة الصنوبر فيما تُرجمت عبارة “القنصلية اللبنانية” إلى  Republiche Libanese باللغة الإيطالية[6]. على الفور، طلب علم الدين وقف المعاملات وأرسل برقية إلى وزارة الخارجية والمغتربين في 22 آذار 1988 لاطلاعها على المعلومات التي في حوزته.

وعلى الفور، كُلّفت مخابرات الجيش بالتحقيق وسرعان ما تبيّن لها أن الشحنة التي وصلت إلى مرفأ بيروت حملت نفايات سامة. وأطلعَت الحكومة على النتائج، فتحرّك وزير الصحة والشؤون الاجتماعية آنذاك جوزيف الهاشم وقرر تشكيل لجنة من الخبراء للكشف على البراميل وأماكن طمرها. عندها وصل الخبر إلى الإعلام وانفجرت القضية.

ما هي النفايات السامة؟

قبل الدخول في التفاصيل، سنتطرق إلى طبيعة هذه النفايات التي دخلت لبنان والخطورة التي قد تشكلها على البيئة والإنسان.

يرى الخبير والاستشاري في علم السموم الكيميائية الصناعية د. ناجي قديح في مقابلة مع “المفكرة القانونية” أن هناك “احتمالاً كبيراً لأن تكون هذه النفايات نفايات كيميائية لمصانع كيميائية. وعادة ما تكون هذه النفايات خليطاً من المواد والمركّبات. يمكن أن تحتوي هذه النفايات على مواد سامة عضوية ومعادن ثقيلة. ويمكن أن تكون بقايا كارثة كيميائية في بلد ما أو بقايا مصنع كيميائي تخلّص من نفاياته بطريقة عشوائية، ما أدّى إلى حالة تلوّث كبير في المنطقة. وبهدف معالجة هذا التلوث، يتخلصون من التراب الملوث مع المواد الكيميائية التي انتشرت في شكل عشوائي. في هذه الحالة، تصبح الأتربة الممزوجة بالمواد الكيميائية مصنفة نفايات خطرة. وكلفة التخلص منها ومعالجتها بطريقة سليمة كلفة عالية جداً. وبالتالي يلجأون إلى تصديرها بطرق غير مشروعة والتخلّص منها عشوائياً في بلدان مضطربة”.

ويشير قديح إلى أن “إتفاقية بازل” التي منعت استيراد وتصدير النفايات السامة[7] (وقّع لبنان عليها عام 1989 وأبرمها عام 1994) وضعت لائحة بمؤشرات الخطورة لتعريف خصائص هذه النفايات.

فلا يمكن أن تكون النفايات سامة من دون أن تكون خطرة. ولكن، يمكن أن تكون النفايات خطرة من دون أن تكون سامة، أي لديها قدرة على الاشتعال مثلاً. ولكن غالباً المواد التي لديها قدرة على الاشتعال هي مواد سامة[8].

براميل مرمية إلى جانب النفايات وجدت في غابة في ساحل علما (المصدر: مختبر شهود الزور للأبحاث البيئية والمعلوماتية )

“القوات اللبنانية” والنفايات

وبالعودة إلى مجريات القضية، فقد تحرّكت “القوات” بعدما أثار فضح الملف الهلع بين المواطنين الذين بدأوا بحرق البراميل التي وجدوها مرمية في الأحراج وداخل البلدات. وفيما تُجمع المصادر التي عدنا إليها على أن “القوات” هي المسؤولة عن إدخال النفايات، تختلف بشأن مدى توّرط قائدها سمير جعجع في القضية، لاسيّما بعد أن أوحى الأخير بأنه لم يكن على علم بالمسألة، وبأنه سيتابع الملف للتأكّد من التخلّص من النفايات.

انطلاقاً من ذلك، شنّ رئيس الحكومة سليم الحص هجوماً عنيفاً على “القوات” من دون أن يسمّيها محمّلاً إياها مسؤولية الكارثة. وقال: “من حقّنا أن نوّجه إصبع الإتهام نحو المتحكمين في الأرض بسلاحهم، أي نحو الذين ينتحلون صفة الفاعليات. أولئك الذين عبرت السموم مرافئهم وطرقاتهم لتستقر في مناطق نفوذهم، فمن البديهي أن نسألهم عما إذا كانوا على علم بما حصل، فإذا كانوا لا يدرون فالمصيبة عظيمة، وإذا كانوا يدرون فالمصيبة أعظم[9]“. فيما حمّل وزير العدل آنذاك ورئيس ميليشيا “حركة أمل” نبيه بري “القوات” ومعها “الكتائب” مسؤولية إتمام الصفقة[10].

حاولت “القوات” استدراك الموقف، فكشف رئيس جهاز العلاقات الخارجية قيصر نصر أنها أوقفت صاحب حمولة الباخرة روجيه حداد وأنها بدأت اتصالاتها لإعادة الشحنة إلى مصدرها. وسلّمت “القوات” لاحقاً حداد إلى النيابة العامة التمييزية. ثمّ قررت نقل النفايات إلى الحوض الخامس في 12 حزيران 1988، وهي عملية شابتها مشاكل عدّة. فقد كشفت “النهار” حينها أن المدعي العام التمييزي القاضي جوزيف فريحة المشرف على الملف اتصل بالرئيس الحص لإبلاغه بأن “مستوعباً مليئاً بهذه النفايات كانت تنقله عناصر مسلحة سقط على مفرق بلدة غزير وتبعثرت محتوياته[11]“. في حين أكد نصر أنه تمّ جمع كل البراميل حتى تلك التي كان من الممكن استبقاؤها بغية ترحيلها[12]. وهاجم الحص قرار “القوات” بنقل النفايات “بحجة الغيرة على المصلحة العامة” واعتبر أنهم “ارتكبوا خطيئة فوق الجريمة، لأنهم بعملهم هذا تسببوا في تعقيد عملية التخلص من هذه المواد وتعريض البيئة لأخطار جديدة، هذا فضلاً عن أنهم بذلك خرقوا أمراً قضائياً بالحجز على المواد في مكانها[13]“.

البراميل في كسارة في شننعير ويظهر عنصر من “القوات اللبنانية” في الصورة – 1988( مختبر شهود الزور للأبحاث البيئية والمعلوماتية )

لجنة الخبراء في مواجهة براميل النفايات

في هذه الأثناء، كانت لجنة الخبراء التي ألّفها وزير الصحة والتي ضمّت الإختصاصي في الفيزياء والهيدرولوجيا في جامعة القديس يوسف د. ولسن رزق، ورئيس أكاديمية الطاقة والبيئة الأستاذ في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية د. ميلاد جرجوعي، والصيدلي بيار ماليشيف تجول على المناطق بحثاً عن هذه البراميل وللكشف عليها. شكّل هذا الثلاثي نقطة الارتكاز الأساسية التي سمحت بكشف بعض ملابسات هذا الملف، لاسيّما بعدما قرروا مواجهة المتورطين في هذا الملف والمتسترين خلفهم في الدولة اللبنانية والإيطالية.

لم تزوّد الوزارة الخبراء بالمعدات اللازمة للكشف على هذه البراميل. فلم يتمكّنوا من إيجاد تلك التي طمرت والتي يرجح د. رزق في مقابلته مع “المفكرة” بأنه تمّ تشييد مباني فوقها[14]. اضطروا في بادئ الأمر إلى فحصها من دون أي لباس وقائي وحتى أجهزة. استندوا إلى خبرتهم في هذا المجال وإلى بعض الوسائل البدائية التي كانت بحوزتهم. يقول رزق إنّهم طالبوا وزارة البيئة لاحقاً بتأمين أقنعة واقية من الغاز لأنهم وجدوا صعوبة كبيرة في التنّفس أثناء الكشف على البراميل[15]. وجد هؤلاء براميل مكدّسة علناً في كسارات شننعير وساحل علما، وإنطلياس، ومرفأ بيروت، وغزير، وذوق مصبح، وعيون السيمان، وكفرذبيان، وجعيتا، وصور، والصرفند، وطرابلس وغيرها من المناطق. ويجزم الخبير في العلوم الزراعية د. علي درويش في مقابلته مع “المفكرة” أن “البراميل موجودة في كلّ لبنان وليست محصورة في ما كان يسمّى بـ”المناطق الشرقية[16]“.

وفيما تابع الخبراء عملهم، وجدوا أن أهالي هذه المناطق عمدوا أيضاً إلى استعمال محتويات هذه البراميل متجاهلين علامات الخطر الموجودة عليها. في شننعير مثلاً، التقوا بعائلة الحاج وأطلعهم رب العائلة عبدو على أنه استعان بمحتوى أحد البراميل كمعجون للحلاقة. توفي عبدو الحاج لاحقاً بالسرطان. ويقول رزق إن “بعض الناس أفرغت هذه البراميل من محتواها وغسلتها وباعتها للمطاعم التي استخدمتها لوضع المخللات كالكبيس والزيتون والعرق، وللمنازل التي استعملتها لتخزين المياه ومواد أخرى. لم تكن تعلم على ماذا تحتوي هذه البراميل وهو ما أدّى إلى إصابة عدد منهم بأمراض مختلفة، منها سرطانية[17]“.

قدّم الخبراء تقريرهم في 15 تموز 1988 وأكدوا وجود نحو “12 مادة تراوح بين الملوّثة والمتفجرة والسامة والسامة جداً[18]“.

وتبيّن حسب التقرير الذي قدمته اللجنة أن نوعية النفايات هي: “نفايات فرنسية فاسدة وأكثرها مواد متفجرة ونفايات لمواد بلاستيكية ناتجة عن التركيبات السامة؛ نفايات صمغية فاسدة وسامة معدة للتلف؛ نفايات مذيبات فاسدة ناتجة عن غسل الآلات الوسخة؛ نفايات مختبرات الأبحاث والتحاليل الكيميائية لمواد ومذيبات ملوثة وسامة ومعدة للتلف؛ نفايات لمواد زفتية وشحوم بترولية ناتجة عن فضلات وبقايا دهانات الأرصفة والخزانات البترولية؛ نفايات لمواد كيميائية ناتجة عن فضلات صناعة الأدوية والمعقمات والمطهرات المنزلية الفاسدة؛ نفايات ناتجة عن الاستعمال الكهرو كيميائي تحتوي على أملاح سامة جداً جداً؛ النفايات الناتجة عن صناعة المبيدات[19]“.

وكان العميل الجمركي ضومط كميد حينها أعدّ “مانيفست” (بيان حمولة) مزوّراً، إدّعى فيه أنها “مواد أولية كيميائية للصناعة والزراعة[20]“. ودخلت البضاعة بهذه الطريقة إلى الأسواق اللبنانية. فيما أعلن ماليشيف في حديث لمجلة La Revue du Liban في 30 تموز 1988 أن “عدداً كبيراً من البراميل بيعت بسعر مغرٍ إلى بعض المصانع التي لم تكن على دراية بنوعية المواد داخلها”. وكشف ماليشيف عن “قيام مستوردي النفايات بعرض كمية منها على عدد من مصانع العطور ومساحيق التجميل في لبنان على أنها مواد أولية تدخل في صلب صناعتهم[21]“.

هل هي نفايات نووية؟

لم تشرْ اللجنة إلى وجود مواد مشعّة ولكنها لم تكن تملك أيضاً المعدات اللازمة للتأكد من صحة وجود هذه المواد. إلا أن بعض وسائل الإعلام ومعها أطراف مناوئة لـ”القوات” كانت قد حسمت بأن هذه النفايات “نووية”. فسارع “الحزب التقدمي الاشتراكي” إلى مهاجمة “القوات” أيضاً، متبنيّاً رواية النفايات “النووية” واتهمها بـ”الإستهتار بحقوق المواطنين البالغ حد تعريض حياتهم لمخاطر الإشعاعات النووية لمصلحة بعض المنتفعين[22]” وبمحاولة “ترويجها إلى سائر المناطق”، حسب رئيسه وليد جنبلاط[23].

ولكن سرعان ما نفى القاضي جوزيف فريحة وجود “إشعاع نووي في هذه النفايات[24]” وذلك استناداً إلى تقرير الخبراء الذين كشفوا عليها في جعيتا وساحل علما وشننعير والذوق. وهو ما أكدّه أيضاً وزير الصحة جوزيف الهاشم حين قال إنه ليس هناك “مادة شعاعية كما قال الخبير الإيطالي، لكن هذه المادة السامة مسيئة ومضرة تلوث البحر واليابسة وتسيء إلى الإنسان[25]“.

غير أن الخبراء الذين قابلناهم أكدوا أنّ الدولة اللبنانية لا تملك الوسائل والمختبرات التي تسمح بالكشف عن طبيعة هذه النفايات، لذلك لم يستبعدوا بشكل كامل وجود مواد مشعة في بعض البراميل. وبحسب رزق: “لم نجد مواد مشعة. لا أنفي بالمطلق وجود هذه المواد ولكننا لم نعثر عليها بأجهزتنا البدائية. كان هناك مواد تفجيرية. هناك قسم من هذه النفايات موجود اليوم في مكب برج حمود ويمكن أن يحتوي على مواد مشعة”.

“الدولة” اللبنانية تفاوض إيطاليا لاستعادة نفاياتها

أثار صدور تقرير الخبراء موجة ذعر كبيرة بين اللبنانيين. وفيما عمد هؤلاء إلى التخلّص من البراميل إما عبر رميها في البحر أو حرقها، كانت الصحافة اللبنانية تشنّ حملة على السلطات اللبنانية لإيجاد حلّ لهذه القضية.

وعلى إثره، قرر الحص تأليف لجنة ضمّت المدعي العام التمييزي، والمدير العام لوزارة الصحة، والمدير العام لإدارة المناقصات، ومدير الشؤون الإقتصادية في وزارة الخارجية للتفاوض مع الحكومة الإيطالية من أجل إعادة النفايات إلى إيطاليا. واستدراكاً لحالة الهلع التي أصابت المواطنين، طلب وزير الصحة من “منظمة الصحة العالمية” إجراء تحاليل على المياه لمعرفة إن كانت قد تلوثت بسبب النفايات السامة. وكشف في 19 تموز بعد صدور النتائج أن “مياه البحر غير ملوثة ويمكن الإستحمام في البحر باستثناء منطقة الكرنتينا بسبب وجود البراميل في محيطها[26]“. وطلب من المواطنين الامتناع عن رمي النفايات “مثل الأبقار الميتة وبقايا اللحوم[27]” في هذه المنطقة. من جهته أصدر وزير الداخلية عبدالله الراسي بلاغاً طلب فيه من المواطنين الإبلاغ عن البراميل التي في حوزتهم في المخافر ليصار إلى سحبها وتجميعها في مهلة أقصاها 3 أيام “تحت طائلة ملاحقتهم أمام القضاء[28]“.

ولعلّ الإيجابية الوحيدة في هذا الملف كانت إقرار المجلس النيابي لاقتراح القانون الرامي إلى المحافظة على البيئة ضد التلوث والنفايات الضارة والمواد الخطرة في 11 تموز 1988.[29]

في المقابل، حاولت الحكومة الإيطالية بداية التهرّب من مسؤولياتها بعد انكشاف الصفقة. فأصرّ المستشار الأول في السفارة الإيطالية في بيروت على أنّ “المعاملة كانت حسب الأصول وأن المواد المعنية تمّ تصديرها صراحة بهدف الإتلاف وحسب مواصفات واضحة وصريحة في مقابل مبلغ من المال تم الإتفاق عليه بين الشركة الإيطالية المصدرة والشركة اللبنانية المستوردة[30]“. ولكنها اضطرت تحت الضغط إلى بدء التفاوض مع الحكومة اللبنانية فأرسلت في 20 حزيران 1988 الخبير غوستافو فورتيناتو الذي أبلغ الحص “وجوب وقف أية عملية نقل للمواد السامة أو تحريكها قبل تأمين المكان الذي ستنقل إليه لإتلافها وفقاً للمواصفات الفنية المفروضة، وذلك تفادياً لأخطار وأضرار جسيمة[31]“. وقدّم الخبير تقريره إلى الحكومة مقترحاً عدداً من الشركات العالمية المتخصصة في نقل وإتلاف النفايات السامة والخطرة.

وفي 29 حزيران، أبلغت الحكومة الإيطالية بواسطة سفيرها في بيروت أنطونيو مانشيني الحكومة اللبنانية رصدها مبلغ 3 ملايين دولار للمساهمة في عملية التخلّص من النفايات. ولكنّ الحكومة اللبنانية أصرّت بعدها على تحميل الحكومة الإيطالية الكلفة الكاملة للتخلّص من النفايات. وهذا ما وافقت عليه إيطاليا في 13 تموز. وفي 15 تموز تبلّغ لبنان أن الحكومة الايطالية كلّفت رسمياً شركة “مونتاغو” إتخاذ الإجراءات اللازمة لنقل النفايات الكيميائية من لبنان تمهيداً لإتلافها في الخارج.

وطلب سفير لبنان في روما خليل مكاوي من الشركة التكفّل بإرسال خبراء إلى لبنان مع المعدات اللازمة لتجميع النفايات بشكل يمنع تسرّب سمومها والكشف على أماكن وضع هذه النفايات وتنظيفها بالإضافة إلى البواخر التي قامت بشحنها. على أن تلي هذه الخطوات عملية نقل النفايات إلى الخارج وحرقها[32].

وصل خبيران إيطاليان إلى لبنان في 28 تموز. وبعد الكشف على البراميل، أعلنا أنه من الضروري “تأهيل البراميل بموجب معايير دولية للنقل بواسطة بواخر وبوسائل خاصة” وتعهدوا “تطهير الأرض حيث نعمل وتطهير السفن التي تحمل البراميل وتطهير الأرض حيث أنزلت البراميل أصلاً[33]“.

إعادة النفايات السامة إلى مصدرها

إنتظر اللبنانيون مجدداً إلى حين وصول الباخرة “كنسكي” في 23 آب 1988، أولى البواخر التي كان من المفترض أن تشحن هذه النفايات. لحقتها الباخرة الثانية “فورايس سبورايدس” ثمّ “جولي روسو” و”إيفون”. كان من المفترض إذاً أن تقوم أربع بواخر بنقل هذه البراميل إلى إيطاليا، التي أرسلت أيضاً فريقاً من 6 خبراء للإشراف على العملية.

وأعلن أبي صالح أن الفريق الإيطالي جمع 9000 برميل في الحوض الخامس تمهيداً لشحنها. وأوضح لـ”النهار” أن الإيطاليين “حفروا الأرض في مناطق وجود البراميل وكذلك حفروا الرصيف الذي جمعت فيه وسيشحنون التراب الملوث لإتلافه مع البراميل[34]“.

يروي رزق لـ”المفكرة” أنه تمّ نقل البراميل “بطريقة عشوائية عبر شاحنات غير مجهزة، ما أدّى إلى تسرّب مواد من البراميل على الطرقات” وأنّ المشرفين على عملية ترحيل النفايات في المرفأ “نقلوا 6000 برميل في الحوض الخامس وقاموا بفلشهم وخلطهم بنشارة الأخشاب والكلس والرمل ووضعوهم في حوالي 10 آلاف برميل جديد. ما يؤكد أنهم لم ينقلوا 6000 حتى، بما أن البراميل الجدد كانت تسع أكثر من البراميل القديمة فيما قاموا برمي الباقي في البحر[35]“. وينقل عطالله عن ماليشيف بأن الأرصفة في المرفأ كانت “مليئة بأصناف عدة من البراميل الممزقة والمسحوقة وكانت المواد الكيميائية المسترّبة تلوّث كل التربة المحيطة بالمكان. ورأينا العمّال يفرغون الكثير من البراميل في مياه البحر ثم أخذوا ينظفون أرصفة المرفأ بواسطة صهاريج المياه[36]“.

طالب الخبراء اللبنانيون بالإشراف على عملية نقل النفايات في المرفأ. ولكن عناصر من “القوات” منعتهم من ذلك. “كنا نقوم بالكشف على أحد المراكب وقام عناصر من القوات بتهديدنا وأخذوا الكاميرا من ماليشيف[37]“، حسب ما قال رزق لـ”المفكرة”.

وعليه، قررت وزارة الخارجية توجيه شكوى رسمية إلى السفارة الإيطالية في بيروت في 12 كانون الثاني 1989 بسبب تمنّع الخبراء الإيطاليين من التنسيق مع أقرانهم اللبنانيين. وطالبت الوزارة بضرورة الحصول على “موافقة وزارة الصحة ولجنة الخبراء قبل السماح للسفن الإيطالية بالإبحار[38]“. واللافت هنا أن مضمون البرقية خالف ما جاء على لسان مدير عام وزارة الصحة الذي أكد أن الخبراء الإيطاليين قاموا بتطهير الأماكن التي خزنت فيها البراميل.

تأخرت عملية النقل نحو 3 أشهر. وفيما لم تأخذ السفارة الإيطالية بشكوى الخارجية، أبحرت “جولي روسو” إلى إيطاليا في 11 كانون الثاني 1989 فيما لم يعرف مصير البواخر الثلاث الأخرى. ونقلت “وكالة رويترز للأنباء” أن 1416 برميلاً كان على متن “روسو” فقط[39]. يعلّق رزق قائلاً: “حاولنا متابعة الملف والحصول على معلومات عن المرفأ الذي رست فيه البواخر في إيطاليا، لكن لم نحصل على جواب. ما يرجح رمي هذه البراميل في البحر. في المختصر، قاموا بترحيل حوالي 30 أو 40% من النفايات لكن لا يمكن أن أؤكد إن وصلوا إلى إيطاليا وماذا فعلوا بها[40]“.

ولكن نصر طمأن اللبنانيين فشكر أولاً “الحكومة الإيطالية لأنها تكلفت بكل نفقات النقل ونفذت ما وعدت به”. وأكد أن “وجود النفايات موضبة في لبنان لم يكن يشكّل أي خطر على السلامة العامة وعلى البيئة[41]“. فيما أكدّ الحص بعد إخراج النفايات أن هذا الأمر “لا يعني أبداً إقفال ملف هذه الجريمة والقضية برمتها في يد القضاء[42]“.

البراميل المجهزة للترحيل في الحوض الخامس من مرفأ بيروت – 1988 (المصدر: مختبر شهود الزور للأبحاث البيئية والمعلوماتية )

السفينة “جولي روسو” مغادرة الحوض الخامس من مرفأ بيروت – 1988 (المصدر: مختبر شهود الزور للأبحاث البيئية والمعلوماتية)

الملف أمام القضاء

بتاريخ 26 حزيران 1988، أحال القاضي جوزف فريحة ملف القضية على النائب العام الإستئنافي في بيروت القاضي جورج غانم مع الموقوفين الستة المتهمين بإدخال النفايات إلى لبنان: هنري عبدالله، ضوميط كميد، أنطوان كميد، أنطوان العم، روجيه حداد وسامي نصار والمدعى عليه الفار أرمان نصار. فأحال النائب العام بدوره هذا الملف على قاضي التحقيق الأول في بيروت القاضي جورج غنطوس الذي استجوب المتهمين وأصدر مذكرات وجاهية بتوقيفهم. وكذلك أصدر القاضي غنطوس مذكرة غيابية بتوقيف أرمان نصار.

ثم عادت النيابة العامة في بيروت ممثلة بمنيف حمدان بتاريخ 28 حزيران وادّعت على الشركتين الإيطاليتين “ايكولايف” و”جيلي واكس” بجرم محاولة قتل المواطنين اللبنانيين جماعياً وعن سابق تصوّر وتصميم. كذلك إدّعت على الشركتين بجرائم تزوير جنائي وتقليد خاتم الدولة.

وفي 12 تموز، صادقت الهيئة الإتهامية برئاسة القاضي حسين حمدان على قرار القاضي غنطوس تخلية أربعة من الموقوفين في القضية: هنري عبدالله، سامي نصار، أنطوان كميد، وضوميط كميد بكفالة مالية مقدارها 100 ألف ليرة لكل منهم. واستندت الهيئة في موافقتها إلى أنه “تبيّن من وقائع التحقيق أن المدعى عليهم المقرر تخليتهم ليسوا هم الذين استوردوا النفايات موضوع هذه الدعوى، وليسوا هم الذين أدخلوها إلى البلاد ولا هي مرسلة لحساب أحد منهم[43]“.

صدر القرار الظني في القضية في 20 شباط 1992، بما أوحى أن القضية أقفلت ولكن ما لبث أن أعيد فتحها في عام 1994 بعد إيقاف حمولة جديدة من النفايات السامة. حينها، كانت الحرب قد انتهت وكان اللبنانيون ينتظرون تنفيذ الوعود بإعادة الإعمار وببناء “دولة المؤسسات” التي بقيت في إطار الكلام، ومنها ما يتعلق بملف النفايات السامة. فعمد وزيرا البيئة خلال تلك الفترة سمير مقبل ثمّ بيار فرعون إلى لفلفة القضية على الرغم من الأدلة التي قدّمتها منظمة “غرينبيس” بالإضافة إلى الخبراء الثلاثة. توالت الفضائح حينها وظهر حجم الكذب الذي مورس عام 1988. وقد تعزز ذلك بإصدار تقارير رسمية من مجلس الإنماء والإعمار ومخابرات الجيش اللبناني تؤكد بقاء الجزء الأكبر من البراميل في لبنان. الملفت أيضاً أن مستشار الوزير مقبل آنذاك لم يكن سوى د. قيصر نصر (المسؤول السابق في “القوات” الذي أشرنا إليه في البحث). وتبعا لذلك، لجأت السلطة إلى وسائلها المعتادة فحاولت إلباس الخبير ماليشيف تهمة فبركة الملف. ولكنها سرعان ما تراجعت أمام انتفاء الأدلة والضغط الإعلامي والسياسي. ويبقى السؤال الأساسي: لماذا أعيد فتح الملف عام 1994 إن كانت السلطة لا تنوي حلّه أصلاً؟ ثمة إجابتان أثارهم المتحدثون معنا: الأول، تبعاً للضغط الذي مارسته منظمة “غرينبيس”؛ والثاني، في إطار المناكفات السياسية، لاسيما بعد توقيف قائد “القوات” سمير جعجع بتهمة تفجير كنيسة سيدة النجاة في نيسان 1994. الأهم أنه في كلتا الفرضيتين، بدت الإرادة السياسية في حسم هذا الملف أو على الأقل في تمكين القضاء من القيام بالتحقيقات اللازمة، موضع جدل ونقاش. والدليل الأكبر ما حصل عام 1994 عندما أعيد فتح الملف. وهو ما سنتطرق لتفاصيله وتبعاته في الجزء الثاني من هذا البحث.

  • نشر هذا المقال في العدد | 55 |  حزيران 2018، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
  • “مناطق الموت في لبنان”

[1] وزير البيئة طلب التحقق من وجود نفايات سامة في جرود كسروان، الوكالة الوطنية للإعلام، 22 أيار 2018.

[2] وزير البيئة عاين جرود فاريا وحراجل ومواقع مفترضة لطمر براميل سامة، الوكالة الوطنية للإعلام، 31 أيار 2018.

[3] نفايات سامة في جرود كسروان… ما صحة هذه المعلومات؟، نشرة أخبار “إل. بي. سي.” 24 أيار 2018.

[4] “صفقة الموت”: وثائق جديدة تثبت ضلوع “القوات”، جريدة السفير، 16 تموز 1988.

[5] بيار عطالله، النفايات السّامة في بلاد الأرز، القصة الكاملة، بيروت: دار النهار، 1998، ص. 31.

[6] المرجع نفسه، ص. 32.

[7] “إتفاقية بازل بشأن التحكّم في نقل النفايات الخطرة والتخلّص منها عبر الحدود” هي الإتفاقية الدولية التي تعنى بانتقال كل أنواع النفايات، الخطرة وغير الخطرة بين الدول، حتى وإن كان هناك إتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف أو اتفاقيات إقليمية بينها. فهي التي تنظم هذا الأمر، وتخضعه بالكامل لمراقبتها، ووفق إجراءاتها.

[8] مقابلة د. ناجي قديح مع المفكرة ا”

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني