تستمر قضية الموقوفين المتوفين لدى الجيش اللبناني إثر مداهمة عرسال نهاية حزيران الفائت بالتفاعل. فمنذ تعيين لجنة أطباء من قبل المحكمة العسكرية في 8 تموز 2017، تداولت وسائل إعلامية لمرتين على التوالي أخباراً مفادها إنتهاء اللجنة من إعداد تقريرها. المرة الأولى كانت في 11 تموز، حيث نشر موقع الجمهورية أنه تبين في تقرير الأطباء الشرعيين أن "سبب الوفاة يعود الى مشكلات صحية يعانون منها من قبل، ما أدّى بعد توقيفهم الى حصول مضاعفات". سرعان ما تبين لاحقاً أن الخبر لا يستند الى أساس حيث تم نفيه من قبل مؤسسة شحادة وطريف للمحاماة والإستشارات القانونية المتوكلة عن أهالي ثلاثة من المتوفين، وذلك بعد اتصال مع الأطباء، أكدوا فيه أن إعداد التقرير يحتاج الى ما لا يقل عن أسبوعين. إنتشار خبر من نفس القبيل تكرر أمس (24 تموز 2017). هذه المرة، الجزء المتعلق بصدور التقرير لم يكن فيه لغطاً. أما المضمون فلا يزال غير مؤكد وفقاً لبيان أصدرته مؤسسة شحادة وطريف نفسها. هذا وتشير الأخبار المتداولة إلى أن أسباب الوفاة ناتجة عن مشكلات صحية مختلفة لكل منهم، وليست ناتجة عن أعمال عنفية.
بالعودة إلى البيان الصادر عن مؤسسة شحادة وطريف، فقد تضمن ثلاث نقاط تتعلق واحدة منها بالخبر المتداول، أما الأخرى فتتعلق بقرار نقابة المحامين منع المحامية ديالا شحادة من الكلام في الإعلام. والحال أن مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية أعطى إشارة لعناصر في مخابرات الجيش بوضع اليد على العينات التي استخرجها خبير معين بقرار لقاضي الأمور المستعجلة في زحلة، من دون اتباع الإجراءات القانونية. وانتهى هذا التدبير بتعيين لجنة أطباء شرعيين يعملون بعيدا عن الوجاهية، وتحت إشراف النيابة العامة العسكرية.
وما فاقم اللاشفافية في القضية هو موقف نقابة المحامين في بيروت التي استدعت شحادة للتحقيق معها حول ظهورها الإعلامي بمناسبة ملاحقتها من قبل عناصر في مخابرات الجيش[1]، بالإضافة إلى بيان أصدرته النقابة في هذا السياق جعلت بموجبه أي تناول للمؤسسة العسكرية بمصاف جرائم الإرهاب.
كيف تم إغلاق أبواب الدفاع؟
تم إغلاق باب الدفاع من خلال طريقين:
الباب الأول، وضع المحكمة العسكرية يدها على القضية
وقد تم وضع اليد بقرار من مفوض الحكومة العسكرية صقر صقر، اتخذه على عجل وبظروف رشحت عن مساس بقرار قضائي صادر عن قاضٍ مدني. فقد أشار القاضي صقر لعناصر في مخابرات الجيش انتزاع عينات الجثث التي استخرجها طبيب شرعي بناء على قرار قاضي الأمور المستعجلة في زحلة من دون احترام الأصول. وقد أعقب ذلك تعيين لجنة مكونة من ثلاثة أطباء شرعيين يعملون تحت إشراف القاضي صقر ومن دون إعطاء ممثلة أهالي المتوفين أي حق بالإطلاع على النتائج. فمن المعلوم أنه ليس للضحية حق التمثيل في القضايا المعروضة أمام المحكمة العسكرية، وأنها تحضر فقط كشاهد وبطلب من المحكمة. ويشار إلى أن حصر التحقيق في هذه القضية بالمحكمة العسكرية يشكل مخالفة صريحة لقواعد القانون الدولي. ذلك أن ثمة شبهة لارتكاب أعمال تعذيب في هذه القضية وأن المبدأ بالنسبة للإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان هو إستثناؤها من إختصاص المحاكم العسكرية. هذا المبدأ كرسه إعلان الأمم المتحدة المتعلق بحماية جميع الأشخاص من الإختفاء القسري الذي ينص على أن محاكمة المسؤولون عن حالات الإختفاء القسري( بصفته إنتهاك جسيم)، سواء بشكل رئيسي أو ثانوي من طرف المحاكم العادية المختصة في كل دولة وليس من طرف أي محكمة خاصة أخرى ولا سيما المحاكم العسكرية. كما إتخذت كل من لجنة حقوق الإنسان واللجنة الفرعية لتعزيز وحماية حقوق الإنسان العديد من القرارات التي تحث فيها الدول على أن تستبعد الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان من ولاية المحاكم العسكرية.[2]
وبنتيجة ذلك، وإذ أشارت الأخبار المتداولة إلى صدور تقرير عن الأطباء الشرعيين، فإنه لم يتسنّ لمحامية عائلات المتوفين الحصول على نسخة عنه. وتشير المعلومات إلى تطابق التقرير مع مضمون بيان الجيش المعلن للوفاة، أي أنها ناتجة عن أسباب صحية. وقد دعا بيان مؤسسة شحادة وطريف للتمهل في هذا المجال، حيث "لا يمكن لأي معلومات مجتزأة أن تعد سليمة وغير مشوهة من دون نشر التقرير كاملاً". يوضح البيان أنه "لم يتم تسليم أي نسخة كاملة طبق الأصل عن التقرير للجهة المستدعية أي أهالي المتوفين عبر وكلائهم القانونيين". بالتالي، يبقى "أي تداول لمعلومات أو جزئيات من التقرير من دون نشره بالكامل مع جميع مربوطاته والوثائق والفحوصات التي إستند اليها مخالفاً للأصول القانونية ومبدأ الشفافية ويضر بمصلحة الجهة المستدعية".
الباب الثاني: نقابة المحامين تنتهك حق الدفاع أيضاً
الباب الثاني للدفاع تم إغلاقه بقرار من نقابة المحامين في بيروت.
ففي إستعادة لما واجهته المحامية شحادة في مستشفى أوتيل ديو، اتصلت هذه الأخيرة بنقيب المحامين أنطونيو الهاشم طالبةً حماية النقابة إثر ملاحقتها من قبل عناصر في مخابرات الجيش. وفيما لم تحرك النقابة ساكناً لإستنكار ملاحقة محامية منتسبة إليها بهذه الطريقة ومنعها من تنفيذ قرار قضائي بإستخدام الضغط المرافق لحضور مسلحين، فوجئت شحادة في 7 تموز بإستدعائها من قبل مفوض قصر العدل لدى نقابة المحامين عبدو لحود للإستماع إليها فيما يتعلق "بظهورها الإعلامي". لتخرج المحامية بعد ذلك من نقابتها، ممنوعة من الكلام. وقتها طُلب اليها أن ترسل الى النقيب كتاباً تشرح فيه ما واجهته تفصيلاً، وهي منذ ذلك الوقت لم تتلقّ رداً، ويستمر قمع دفاعها عن موكليها. لا سيما أن المساحة الوحيدة المتاحة للدفاع عن المتضررين، في ظل كون هذه القضية هي في عهدة القضاء العسكري، هي الإعلام.
في هذا الإطار يلفت البيان الصادر عن مؤسسة شحادة وطريف أن المادة 39 من نظام آداب مهنة المحاماة تستثني "القضايا الكبرى التي تهم المجتمع" من مبدأ عدم جواز تناول الملفات العالقة أمام القضاء في وسائل الإعلام. بالتالي فإن "إستمرار النقيب بمنع المحامية ديالا شحادة من مناقشة أي تفصيل يتعلق بهذا الملف في الإعلام من شأنه أن يمنع إنارة الرأي العام حول تفاصيل الملف، في الوقت الذي أجازت فيه النيابة العامة العسكرية لنفسها تسريب جزئيات من التقرير لوسائل الإعلام اللبنانية، حتى قبل تسليمه للمستدعية ما يتيح للإعلام المحلي والعربي والدولي والرأي العام الوقوع في مخاطر اللبس وسوء الفهم والإجتزاء وردود الفعل غير المتناسبة مع الحقيقة". بالنتيجة، ينطوي التقرير على تحميل نقيب محامين مسؤولية التضليل الذي قد يقع فيه الرأي العام جراء عدم منح "موافقة خطية على تفعيل المادة 39 من آداب المهنة".
غير أن موقف النقابة سبق أن ظهر بجلاء، وقد بلغ ذروةً في إبتعاده عن الخطاب الحقوقي في البيان الصادر عنها بتاريخ 17 تموز. واختار البيان في كلامه عن "حملات مستعرة مشبوهة" و"تحريض ممنهج" ضد الجيش، أن يبقى ضبابياً لا يشير الى طبيعة الخطاب الذي يصفه بهذه الصفات. هل يقصد مثلاً أن المطالبة بتحقيق شفاف في موت أربعة أشخاص بشبهة تعذيب وهم رهن التوقيف هو خطاب تحريضي؟ بل أن النقابة ذهبت أبعد من ذلك في اتجاه يتعارض مع كونها منظمة حقوقية. فجاء في بيانها أن "التحريض الممنهج (…) بذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان ومحاولة استعطاف المجتمع الدولي تحت شعار حقوق الإنسان يعتبر عملاً إرهابياً بإمتياز".
هكذا صنفت النقابة المواقف في خانتين لا ثالث لهما: مطالب إرهابية بإسم حقوق الإنسان من جهة، ومواقف صامتة وهي لذلك وطنية بإمتياز من جهة ثانية. وهي بهذا السياق، ترغم شحادة على الصمت، في الوقت الذي لا تملك فيه كمحامية عن الجهة المتضررة أي مساحة حقيقية للدفاع عن موكليها أمام القضاء العسكري. ما يجعل الإعلام مساحتها الوحيدة للقيام بهذا الدفاع، والرأي العام سندها الوحيد لضمان إحقاق العدالة.
وبذلك بدت شحادة وكأنها عاجزة عن الدفاع عن موكليها (أهالي المتوفين) عن المحكمة كما خارجها، مما يقوض تماما حق الدفاع.
منظمات دولية تطالب بتحقيق شفاف
وما يزيد فقدان الدفاع قابلية للانتقاد هو صدور عدد من البيانات عن منظمات دولية لحقوق الإنسان، كلها تعزز شبهة حصول تعذيب. ومن أبرز هذه البيانات، البيانان الصادران عن منظمة العفو الدولية وهيومان رايتس واتش.
فقد أصدرت اليوم منظمة العفو الدولية بياناً صحفياً طالبت فيه بـ "نشر النتائج الكاملة لتقرير الطب الشرعي الصادر عن الأطباء الشرعيين المكلفين من قبل المدعي العام العسكري، وأن يكون التقرير متاحاً أمام المحامين وأسر الضحايا". كما تحث المنظمة في بيانها "السلطات اللبنانية على ضمان إجراء تحقيق نزيه في مقتل الموقوفين الأربعة، وفي مزاعم أخرى تتعلق بالاعتقال والاحتجاز التعسفيين وبحصول تعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة". كما يجب وفقاً للمنظمة "تعليق مهام المشتبه بهم من عسكريين ريثما تنتهي هذه التحقيقات". ويذكر البيان أن "المعايير الدولية تقتضي الكشف عن التفاصيل الكاملة لتقرير الطب الشرعي الرسمي. فإذا ما اعتبر التعذيب سبباً للوفاة، يجب الجيش اللبناني أن يتخذ الخطوات اللازمة لتقديم المسؤولين الى العدالة في محاكمة عادلة".
من جهتها كانت منظمة هيومن رايتس ووتش قد عبرت في تقرير نشرته بتاريخ 20 تموز الجاري عن مخاوفها بشأن "إستقلال ونزاهة وإختصاص المحكمة العسكرية" للتحقيق في وفاة الموقوفين الأربعة. لا سيما أن "غالبية القضاة هم ضباط عسكريون غير حائزون على شهادات في القانون، وتجري المحاكمات خلف أبواب مغلقة". لينتهي التقرير الى التذكير أن "حصر هذه التحققيات في المحكمة المذكورة يدعوا للشكوك".
وقد أعلن التقرير عن نتائج التحقيق الذي أجرته المنظمة حول ظروف وفاة الموقوفين، حيث عرضت 28 صورة لثلاثة جثث على الطبيب هومر فينترز، مدير برامج منظمة "أطباء من أجل حقوق الإنسان". وقد لاحظ فينترز "إنتشار صدمات جسدية واسعة النطاق تطال الأطراف العلوية والسفلية للضحايا". يضيف تقرير الطبيب أنّ "التمزقات العديدة التي أظهرتها الصور تتفق مع الآثار الناجمة عن التعليق من المعصمين." وقد استنتج الطبيب أنّ الإصابات تتناسب "مع الأذى الناجم عن التعذيب البدني". بالتالي وفقاً له أن "أي بيان مفاده أن وفاة هؤلاء الأفراد أسبابها طبيعية لا يتفق مع هذه الصور". أخيراً تشير المنظمة الى أنها أجرت مقابلة مع أهالي الضحايا الذين "نفوا معانات أبنائهم من أي أمراض مزمنة أو أي ظروف صحيّة خطيرة".
هذا وأكد التقرير نفسه وفاة موقوف خامس بتاريخ 14 تموز. هذا وتشكك المنظمة بأن يكون عدد المتوفين في التوقيف هو 5 فقط. حيث أنها وفقاً للتقرير "لم تتمكن من التأكد إن كان فعلاً هناك سوريين قد ماتوا خلال المداهمة. كما أنها تلقت معلومات من مصادر في عرسال تقول أن البلدية تلقت 9 جثث، غير الخمسة المذكورين". وبذلك تكون هيومن رايتس قد تركت السؤال مفتوحا حول حقيقة ظروف وفاة هؤلاء التسعة. كل هذه المعلومات تدفع للمزيد من التساؤل حول شفافية مؤسسة تستمر في إخفاء أبسط المعلومات الواجب نشرها، كمجمل عدد المتوفين إثر عملية المداهمة.
[1] – المفكرة القانونية: "مخابرات الجيش تعرقل تنفيذ قرار قضائي وتصادر عينات تشريح موقوفي عرسال"، 7-7-2017
[2] – فيديريكو أندرو-غوزمان: "القضاء العسكري والقانون الدولي- المحاكم العسكرية والإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان"، اللجنة الدولية للحقوقيين، ص 49، 2004.