قضية المرفأ الفينيقي تكشف ثغرة قانونية في التنظيم القضائي: لا قاضي عجلة لوقف تنفيذ القرارات الادارية


2013-02-01    |   

قضية المرفأ الفينيقي تكشف ثغرة قانونية في التنظيم القضائي: لا قاضي عجلة لوقف تنفيذ القرارات الادارية

قضاء العجلة هو بالطبع احدى أبرز الآليات التي خلص اليها الفقه القانوني للحد من الأضرار الناتجة عن بطء القضاء وحماية حقوق الأفرقاء باتخاذ تدابير احتياطية واحترازية انتظارا للبت في الأساس، أو أيضا لاتخاذ القرار بالأشياء البديهية التي لا حاجة لارجاء البت بها. وقد كشفت القضية المسماة بقضية “المرفأ الفينيقي” في سنة 2012 ثغرة كبيرة في تنظيم القضاء الاداري في هذا المجال: فإزاء مطالبته بوقف تنفيذ الأعمال الواقعة على العقار المعني، رد مجلس شورى الدولة هذا الطلب ليعلن عجزه بموجب القانون عن حماية العقار، بمعزل عما اذا كانت الإنشاءات المقامة فيه ذات أهمية تاريخية أم لا. فالقانون يمنع صراحة المجلس من وقف تنفيذ قرار إداري بالطريقة الرجائية (أي من دون استحضار الدولة) حتى ولو توفرت حالة العجلة، الأمر الذي يجرد طالبي الحماية في حالات عدة من أية مرجعية قضائية. وبذلك، لفت المجلس النظر الى امكانية حصول كوارث ثقافية بموجب قرارات تتخذ وتطبق تحت جنح الظلام من دون أن يكون لديه أي قدرة على وقفها قبل فوات الأوان. فما هي تفاصيل هذه القضية؟ وما هي الدروس التي بإمكاننا استخلاصها منها؟ هذا ما سأعرضه في هذا المقال.
في 4-4-2011، أدخل جزء من العقار رقم 1398 من منطقة ميناء الحصن العقارية في لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية بموجب قرار صادر عن وزير الثقافة السابق سليم وردة. وبعد مرور بضعة أشهر على تغير الحكومة، عمدت الشركة المتعهدة “فينس” الى بدء الأعمال على العقار المذكور دون أي تأخير.
في 26-6-2012، قدّمت جمعية حماية الآثار استدعاء لوقف الأعمال في المرفأ الفينيقي أمام قاضي الأمور المستعجلة في بيروت القاضي نديم زوين الذي أصدر أمراعلى عريضة قضى بتكليف الكاتب بالانتقال فورا الى العقار، وبإبلاغ الجهة المسؤولة عن الأعمال نسخة عن الاستدعاء وتكليفها بإبداء ملاحظاتها عليه ضمن مهلة 48 ساعة.
بعد مهلة الـ48 ساعة، جاء جواب الجهة المستدعى بوجهها بأنه لم يُصر أصلاً الى نشر القرار المتصل بوضع العقار على لائحة الجرد العام. وتاليا هو لا يسري على الغير، كما وجاء الردّ مقرونا بقرار الوزير رقم 70 الذي وبعد أن كلّف لجنة استشارية علمية في 25-6-2012، رأى أن “كامل ملف القضية لا يحتوي أي دليل يمكن أن يوحي بوجود منشأة مرفئية رومانية أو فينيقية وأن الخنادق المحفورة في الصخر لا يمكن أن تكون قد استعملت كمزالق للسفن كما لا يمكن أن تكون قد استعملت لركن المراكب أو تصليحها. وليس هنالك أية أدلة ذات علاقة بالسفن أو العناصر المتعلقة بالشؤون البحرية داخل الموقع. كما وأنه ليست لها أية علاقة، ولو نظرية، مع المنشآت والتجهيزات المتعلقة بالسفن المعروفة في العالم القديم…”. وبالتالي قرّر وزير الثقافة سحب العقار رقم 1398 من لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية. وفي 27-6-2012، أرسل وزير الثقافة رسالة الى الشركة المستدعى بوجهها يسمح لها بمتابعة أعمال الحفر. وفي 28 حزيران/يونيو، عقد القاضي زوين جلسة في مكتبه استجوب فيها الجهات واستوضحها وقرّر تمديد وقف الأعمال لغاية 3-7-2012.
الا أن قرار وزير الثقافة رقم 70 الصادر في 26-6-2012 والقاضي بسحب العقار رقم 1398 من منطقة ميناء الحصن العقارية عن لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية أدى عمليا الى نزع هذه القضية من اختصاص قاضي الأمور المستعجلة العدلي لتصبح من اختصاص مجلس شورى الدولة طالما أن تعليق الأعمال بات يفترض بالضرورة وقف تنفيذ القرار رقم 70، وهو أمر يخرج عن اختصاص القضاء العدلي.
وتبعا لرفع القضاء العدلي يده عن القضية، قدمت جمعية “التجمع للحفاظ على التراث اللبناني” في 11-7-2012 طلب تعيين خبير وطلب اتخاذ تدابير مؤقتة واحتياطية بالاستناد الى المادة 66 من نظام مجلس شورى الدولة التي نصت في البند الأول منها على أن “لرئيس مجلس شورى الدولة أو لرئيس المحكمة الادارية أو من ينتدبه من القضاة أن يعين بناء على طلب صاحب العلاقة وخلال أسبوع من ورود الطلب خبيرا يكلف بمعاينة الوقائع التي من شأنها أن تسبب مراجعة لدى المحاكم الإدارية أو مجلس شورى الدولة”. وأشار الفقه والاجتهاد المستقر الى جواز وأهمية تعيين خبير كل مرة تكون الوقائع مهددة، كما في كل مرة يتبين أن الكشف قد يصبح صعبا أو مستحيلا بسبب تدخلات خارجية[1].
وتبعا لذلك، وبخصوص الطلب الأول (تعيين خبير)، جاء القرار بالايجاب، انما فقط بعد ثمانية أيام من تقديمه وتحديدا في 19-7-2012، مما يعني أن القاضي استغرق كل المدة المسموح له بها في القانون (وهي سبعة أيام) للنظر في الطلب من دون أي استعجال. وبالطبع من شأن تأخير بت الطلب في حالات معينة أن يؤدي الى زوال الوقائع المراد اثباتها وتاليا الى زوال المصالح المطالب بحمايتها. وهذه كانت أول مفاجأة في هذا الملف.
أما المفاجأة الثانية، وهي الأكبر، فقد كمنت في رد طلب اتخاذ تدابير مؤقتة أو حمائية، على أساس أن ذلك يستوجب بالضرورة وقف تنفيذ قرار الوزير القاضي برفع العقار عن لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية ووقف تنفيذ رخصة بناء اذا افترضنا أنها وجدت، وهما أمران أخرجهما القانون صراحة من صلاحيات قاضي العجلة. وتاليا، كشف هذا القرار خطورة اضافية للتنظيم القضائي: فعلى القاضي أن يقف بموجب هذا القانون مكتوف الأيدي ازاء أي طلب لحماية مصالح هامة حالما يجد أن هذا الطلب يصطدم بقرار اداري، مهما كان هذا القرار واهيا أو مفتقدا للأساس القانوني، أو بكلام آخر اذا ثبت أن مرد الضرر المطالب بوقفه هو تنفيذ قرار اداري. وكان الاجتهاد اللبناني قد أعطى تفسيرا واسعا لهذا النص، فرد مثلا قاضي العجلة طلب اتخاذ القرار بوقف سائر أعمال البناء لأنه يؤول بالواقع الى وقف تنفيذ رخصة بناء ويتعارض بالتالي مع الفقرة الثانية من البند الثاني من المادة 66[2].
وبالطبع، وفي ظل التقارير المتضاربة حول وجود المرفق الفينيقي أو عدم وجوده، لا نريد أن نحسم أن الأمر أدى الى كارثة، لكن المؤكد أن استمرار هذا النص ومعه هذا الاجتهاد من شأنه أن يؤدي الى كوارث مستقبلا بحيث ينشأ الضرر مباشرة عن قرار قضائي من دون أن يكون للقضاء أي صلاحية بوقفه.
على أي حال، يسجل أن شركة “فينس” أكملت أعمال الحفر والبناء واذا كانت هناك أية آثار، فقد هدمت. المشكلة في الواقع ليست فقط في الفقرة الثانية من البند الثاني بل أيضا في بطء قضاء العجلة الاداري في لبنان الذي لم يصدر حتى قرار رفض وقف الأعمال بالسرعة المطلوبة مما يفرغ أيضا هكذا طلب، ان كان سيقبل أو يرفض، من غايته الأساسية.
وهنا، تجدر الاشارة الى أن الاتجاه الذي اتبعه الفقه والاجتهاد في أواخر الثمانينات في فرنسا يمكن أن يشكل حلا جزئيا لمسألة الفقرة الثانية من البند الثاني من المادة 66. فعلى عكس الاجتهاد اللبناني، أعطت المحاكم الفرنسية تفسيرا واسعا لمبدأ منع اتخاذ إجراءات من شأنها وقف تنفيذ قرار إداري، فقبلت المحاكم الفرنسية وقف تنفيذ قرار اداري ليس له أي طابع الزامي[3]وذلك بحثا عن توازن دقيق بين أهمية عدم توقيف تنفيذ قرارات ادارية وضرورة توقيف تنفيذها لحماية حقوق المتقاضين وعدم تفريغ الأصول المستعجلة من غايتها الأساسية.
أما الحل الأنسب الشامل هو اعادة النظر في القانون الذي يرعى العجلة الادارية مثلما فعل المشترع الفرنسي في القانون رقم 597-2000 الصادر عام 2000 والذي أعاد تنظيم أصول العجلة بهدف تحسين فعالية القانون والقضاء الاداري. وكان التعديل قد تم بعد فشل أصول العجلة أمام القضاء الإداري بتحقيق النتائج المرجوة بسبب بطء القضاء[4]وعدم فعالية الأصول المتبعة[5].

نُشر في ملحق2012 مع العدد السابع من مجلة المفكرة القانونية

 

الصورة من أرشيف جريدة السفير


[1] يوسف سعدالله الخوري، القانون الاداري العام، الجزء الثاني ، ص 234 وما يليه.
[2] قرار447 تاريخ 2-4-1998 فياض/بلدية بعبدا.
[3](CEF 16 Janvier 1985 Codorniu : Possibilité de prescrire la suspension des travaux autorisés par un permis de construire jusqu’à ce que soit tranchée la question de l’appartenance du terrain au domaine public maritime).
[4]Cette réforme apparaissait nécessaire compte tenu de la lenteur de la juridiction administrative française, caractérisée notamment par la Cour Européenne des Droits de l’Homme. La France a été plusieurs fois condamnée pour non-respect du délai raisonnable (CEDH, 1998, Cazenave de la Roche contre France par exemple)

[5] التي كانت شروطها صعبة التحقيق أو لا تؤمن الحماية الكافية للمتقاضين
انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني