قضية “الرملة البيضا”: أدوات قانونية لحماية البيئة في مواجهة الإستثمار


2017-04-10    |   

قضية “الرملة البيضا”: أدوات قانونية لحماية البيئة في مواجهة الإستثمار

نموذج لتفعيل قوانين حماية البيئة والشاطئ

منذ أشهر، يواكب الرأي العام قضية الرملة البيضا وما تثيره من تطورات قضائية وتفاعلات اجتماعية. وقد بدأت فصول هذه القضية بعدما حصل أحد متعهدي البناء الكبار من بلدية بيروت على رخصة تجيز له بناء ما تزيد مساحته على 20000 مترا مربعا على مسافة مترين من الأملاك العامة البحرية في منطقة الرملة البيضا. ومن المعلوم أن هذه المنطقة تشكل الشاطئ والمتنفس الأخير لأهل بيروت، فضلا عن كونها إحدى ثرواتها الطبيعية ومعالمها الجمالية. وقد ضمنت جمعية الخط الأخضر (جمعية بيئية) بالتعاون مع المفكرة القانونية من خلال لجوئهما إلى القضاء استمرار التداول بهذه القضية بما يتجاوز التعبير عن الغضب أو السخط. وما زاد من حضور هذه القضية في الخطاب العام هو المشهد المقزز الذي تمثّل في إصرار الشركة المستثمرة على تسريع العمل، في تمرد واضح على قرارين متتاليين لمجلس شورى الدولة بوقف أعمال الرخصة، وبتواطؤ أكيد مع أطراف نافذة في الدولة. وعليه، باتت البروجكتورات التي أضاءتها لضمان مواصلة الأعمال ليلاً رمزاً للفساد الذي ينهش أضلاع الدولة على مرأى من الناس جميعاً. ولم تتمكن الجهة المدعية من إطفاء هذه الأضواء إلا بعد حصولها على قرار ثالث من قاضي الأمور المستعجلة بإلزام الشركة بتنفيذ الأحكام القضائية تحت طائلة تسديد غرامة قدرها مائة وخمسين مليون ليرة لبنانية عن كل يوم مخالفة، منهية بذلك لصالحها معركة تنفيذ القرارات القضائية والتي استمرت أكثر من شهر. وبمعزل عما ستؤول إليه هذه القضية (ويحتمل حصول تطورات فيها بين تاريخ كتابة هذه الأحرف وتاريخ نشرها)، فإنها اكتسبت طابعاً رمزياً معبّراً من جوانب عدة، سنعمل هنا إلى تبيان أبرز أوجهها (المحرر).

خلال العقد والنصف الأخير، تم وضع عدد من القوانين والمراسيم لحماية البيئة، وذلك تماشياً مع التطور القيمي الحاصل دولياً في هذا المجال. ورغم أهمية الأدوات التي بالإمكان إستخراجها من مجموعة التشريعات هذه والتي تبقى طبعا بحاجة إلى تطوير، فإنها قلّما تستخدم من قبل الإدارة أو المتقاضين في مواجهة مشاريع الإستثمار المضرّة بها. وسنكتفي هنا بعرض الأدوات التي تم استخدامها في قضية الرملة البيضا والتي يحتمل أن يتم تعميقها خلال مراحل القضية القادمة.

دراسة الأثر البيئي ليست مجرد إجراء شكلي

من ضمن الأسناد القانونية للمطالبة بإبطال الرخصة، أن دراسة الأثر البيئي التي استخدمت للحصول عليها هي دراسة تعود لسنة 2013 ولمشروع آخر كان يعتزم متعهد آخر تنفيذه. وقد برّرت الجمعية مطلبها بأن الدراسة تتصل بمشروع آخر، كان يزمع تنفيذ غالبية الإنشاءات المشمولة فيه على عقار آخر أكثر بعداً عن الأملاك البحرية، فضلا عن كونها لم تعد صالحة لانقضاء مدة السنتين وفق المرسوم الصادر في 2012 بشأن الأثر البيئي. وقد أيدت وزارة البيئة هذا الأمر في الشكوى الجزائية التي قدمتها للمدعي العام البيئي في بيروت. ورداً على ذلك، قدّمت بلدية بيروت جواباً مستفّزاً يعبّر عن إستهتار كلي بالإعتبارات البيئية: فمن جهة، رأت أن القيام بالمشروع، وبكلام آخر إشادة 20000 مترا مربعا و11 طابقا في منطقة بالغة الحساسية على بعد مترين من الأملاك البحرية، لا يتطلب إجراء دراسة بيئية. ومن جهة أخرى، أنه على فرض أن هذه الدراسة مفروضة قانوناً، فإن غيابها لا يؤدي إلى إبطال رخصة البناء. فكأنها تقول أن اعتبارات حماية البيئة وعدم التحسّب إزاء تعريضها للخطر خلافا للقانون، تبقى أقل شأناً من أن تجيز وقف الأعمال.

وقد شكلت هذه الردود مناسبة لإبراز بعض جوانب المرسوم التطبيقي 2012 والذي قلما تتم إثارته قضائيا. فبينت جمعية الخط الأخضر بالإستناد إلى نصوص واضحة أن هذه الدراسة ضرورية على اعتبار أن المشروع هو كناية عن مجمع بحري يتم إنشاؤه في منطقة حساسة، على الشاطئ وفق ما جاء في مرسوم 2012. والأهم، بينت أن وجود الدراسة وموافقة وزراة البيئة عليها وتمكين المواطنين من إبداء ملاحظاتهم عليها، كلها أمور تشكل شرطاً مسبقاً أساسياً لتقديم الترخيص وفق ما جاء بوضوح كلي في الرسم البياني الظاهر في الملحق رقم 6 من المرسوم 2012. كما تساءلت الجمعية كيف يمكن للبلدية أن تعتبر أن غياب الدراسة لا يشكل سبباً لبطلان الرخصة، فيما أنه يشكل جرماً جزائياً؟

وبذلك، شكلت هذه القضية مناسبة لتعميق النقاش حول مسؤولية البلديات في حماية البيئة وبشكل أخصّ الأهمية التي يجدر إيلاؤها لاعتبارات البيئة في الموازنة بينها وبين حقوق مالكي الأراضي باستثمارها. 

الملك العامّ كشرط للتمتّع بالبيئة

مع انهمار المطر في الفصل الأخير من سنة 2016، اكتشف اللبنانيون بذهول كيف غمرت الأمواج والرمول أجزاء كبيرة من العقار. وقد أكد هذا الأمر أن ثمة خطأ (إن لم نقل تزويراً) في تحديد الأملاك العامة والتي تشمل آخر نقطة يصل إليها الموج والرمول حسب القرار 1925 بتحديد الأملاك العامة. والأمر لا يتوقف عند هذا الحدّ. فقد سجّلت مستندات الرخصة أمرين بالغي الخطورة:

الأول، تضمنت خرائط الرخصة أعمال ردم وجلول ومنحدرات خارج حدود العقار، ضمن الأملاك العامة البحرية. وقد تعاملت الشركة مالكة العقار بذلك مع الأملاك البحريّة وكأنها إمتداد لأملاكها الخاصّة، أو كأن لها حقّ حصريّ بإشغالها وردمها، خلافا للتشريعات الناظمة لكيفية اشغال الملك العام أو استعماله. وما يزيد من جسامة هذه المخالفة، هو وضع المتعهّد صوراً تسويقية للمشروع، تظهر أعمالاً منجزة على الشاطئ وتمتع شاغليه به. ويذكر أن مرسوم 4810/1966 وضع أن الأملاك العامة البحرية تبقى باستعمال العموم ولا يكتسب عليها لمنفعة أحد أيّ حق يخوّل إقفالها لمصلحة خاصة”. وإذ أجاز المرسوم تخصيص جزء من الشاطئ لاستعمال أفراد أو مجموعات وحصر هذا الإنتفاع بهم دون سواهم، فإنه سارع إلى وضع مجموعة من الضوابط، أهمها أن تكون الإجازة إستثنائية وأن تتمّ بموجب مرسوم خاصّ ولمدة لا تتجاوز السنة ومن دون أن ترتّب أي حق مكتسب على الملك العام. وعليه، وبفعل غياب أيّ مرسوم يتصل بشاطئ الرملة البيضا، فإن الإعتداء يكون حاصلاً حكماً. ويشار أنه بفعل كثرة المراسيم التي منحت حصر استعمال الشاطئ بأفراد أو شركات على نحو حوّل الإنتفاع الحصري إلى مبدأ والإنتفاع العام إلى استثناء، تتهيأ الحركة البيئية إلى الطعن بأي مرسوم مستقبلي أو تجديدٍ لمرسوم سابق.  

أما الإخلال الثاني بالملك العام، فقد ارتكبه المجلس الأعلى للتنظيم المدني. ففيما كان هذا المجلس قد حدد في قرار سابق التراجع عن الأملاك العامة البحرية ب 25 متراً، وافق على استثناء العقار موضوع الدعوى من هذه القاعدة، مانحاً إياه إمكانية إقامة منشآت مع تراجع مترين فقط عن الأملاك العامة البحرية. وقد سمح هذا التراجع للمتعهد بتشويه منظر الرملة البيضا وبتهديد استمرارية الشاطئ رغم اشتراط المجلس الأعلى للتنظيم المدني وجوب احترامه. ومن هنا، بدا الإستثناء الممنوح للشركة مخالفا لقانون البيئة 444/2002 الذي ينص على وجوب ضمان الولوج الحر للبحر ولمرسوم ترتيب الأراضي الذي تضمن حماية خاصة للشواطئ وبخاصة للرملة البيضا (أنظر أدناه)، فضلا عن كونه معيوبا للتناقض الحاصل ضمنه بين الموافقة على تراجع مترين واشتراط احترام استمرارية الشاطئ.  

مرسوم ترتيب الأراضي المنسي

وضع المرسوم رقم 2366 والصادر في 20/6/2009 الخطة الشاملة لترتيب الأراضي اللبنانية، وهي بمثابة إطار توجيهي عام للتنظيم المدني ولإستعمالات الأراضي في لبنان. وقد نصت المادة 2 منه على وجوب إلتزام الوزارات والبلديات والإدارات والمؤسسات العامة والمصالح المستقلة والبلديات والإتحادات البلدية بإعتماد التوجيهات التي تتوافق مع هذه الخطة في كل شأن من عملها له علاقة باستعمالات وتنظيم الأراضي، بمعنى أنّ هذه التوجيهات هي ملزمة لجميع الإدارات العامة بما فيها الإدارات المحلية كبلديّة بيروت. وما يؤكّد ذلك هو أن المرسوم وضع آليّة في حال تعذّر على أيّ من الإدارات العامة تطبيقه، بحيث فرض عليها رفع الأمر للوزير المعني أو مجلس الوزراء لاتخاذ مرسوم يسمح لها بالشذوذ عنه. ورغم أهميته، يبقى هذا المرسوم خارج التداول القضائي أو الإداري، وقد يكون تم استخدامه للمرة الأولى قضائياً في سياق الطعن برخصة هذا المشروع.

ومن أبرز ما جاء في الخطة الشاملة لترتيب الأراضي، وخالفته الرخصة الممنوحة لمالكة العقار، الأمور الآتية:

  • أن الخطة الشاملة تضمنت قسماً خاصاً متعلقاً بمزايا الشواطئ، جاء فيه أن الشواطئ الرملية “تشكل ثروة نادرة في لبنان، وجميعها تقع في الأملاك العامة البحرية مما يلزم بالسماح لعموم المواطنين بالوصول مجاناً إليها. كما يفترض منع استخراج الرمل ورمي النفايات فيها، وإدارتها والحفاظ على نظافتها بالطرق الملائمة. ويمكن تأمين الوصول المجاني للمواطنين إلى الشواطئ الرملية في إطار تنظيم يعتمد حق مرور عام مطلق بمحاذاة البحر على شريط بعرض ثلاثة أمتار كحد أدنى على طول الشاطئ“.
  • أن الخطة اعتبرت أن في بيروت ثلاثة مواقع مميزة  “تشكل جزءاً لا يتجزأ من هوية العاصمة، وهي الواجهة البحرية في عين المريسة، وصخرة الروشة وخليجها الصغير، وشاطئ الرملة البيضاء”. وقد أكّدت الخطة في هذا الشأن على ضرورة حماية الخصائص الطبيعية لهذه المواقع من مشاريع عقارية أو إنشائية قد تشوه معالمها.

صفة الجمعيات البيئية في التقاضي

كما يجري في العديد من القضايا الحقوقية، عمدت بلدية بيروت إلى الطعن بصفة جمعية الخط الأخضر البيئية في التقاضي. وعدا عن أنها ناقضت نفسها في هذا المضمار حيث كانت أكدت في دعوى أخرى (دعوى المرسوم السري المتصل بالمنطقة العاشرة) على صفة الجمعية البيئية في إقامة دعاوى مماثلة، فإنها ناقضت أيضا تطوّر الإجتهاد الإداري لجهة التوسع في الإعتراف بصفة الجمعيات في تقديم دعاوى دفاعاً عن أهدافها الأساسية، وخصوصاً فيما يتصل بدعاوى إبطال القرارات الإدارية لتجاوز حدّ السلطة (أي لعدم قانونيتها وشرعيتها)[1].

وما يصحّ في القضايا الحقوقية يصحّ من باب أولى في القضايا البيئية على ضوء المادة 3 من قانون حماية البيئة 444/2002 التي حمّلت كل مواطن مسؤولية السهر على حماية البيئة وتأمين حاجات الأجيال الحالية من دون المساس بحقوق الأجيال المقبلة. كما تجدر الإشارة إلى الملحق رقم 5 من المرسوم رقم 8633/2012 المتعلق بأصول دراسة الأثر البيئي، والذي حدد صراحة الأشخاص المعنيين في المرسوم ودراسة الأثر البيئي، ومن ضمنهم “الجمعيات البيئية غير الحكومية المحلية المنشأة بعلم وخبر“.

ويستشفّ من قراري مجلس شورى الدولة بوقف تنفيذ الرخصتين الأساسية والتعديلية، توجه لقبول صفة الخط الأخضر في الإدعاء. ومن النافل القول أن هذه المسألة محورية وأنها لكسبها أثرٌ إيجابيّ كبير على أي خطط تقاضٍ استراتيجي مستقبلا.   

 نشرت هذه المقالة في العدد |48|أذار/مارس 2017، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه :

الرملة البيضا: دفاعاً عن الإرث وأجيالنا القادمة


[1]  عن هذا الأمر، يراجع “لاتحاد المقعدين حق الدفاع عن حقوق ذوي الإعاقة: مكسب في معركة الصفة والمصلحة”، منشور في هذا العدد.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني