قضية الرضع: التقشف في قفص الاتّهام


2025-04-26    |   

قضية الرضع: التقشف في قفص الاتّهام

يوم الرابع من الشهر الحالي، أصدرت الدائرة الجناحية بمحكمة الاستئناف في تونس الحكم النهائي في ما يتعلّق ب “قضيّة الرضّع”، وهي القضية التي شغلت الرأي العام التونسيّ لفترة غير قصيرة خلال سنة 2019 خاصة، وأنها انتهت باستقالة وزير الصحة حينذاك “عبد الرؤوف الشريف” يوم 9 مارس من تلك السنة. وبالعودة إلى تفاصيل الحادثة، شهد مركز التوليد وطب الرضيع في العاصمة التونسية وفاة 14 رضيعا خلال الفترة الممتدة بين 6 و15 مارس 2019 نتيجة لتلوّث جرثومي وقع على مستوى تحضير أكياس المستحضرات الغذائية في الغرفة البيضاء بين يومي 4 و 6 مارس، مما أسفر عن حالات الوفاة لدى الرضّع.

وقد ثبّت حكم الدائرة الجناحية في محكمة الإستئناف ما قررته المحكمة الابتدائية سابقا من توجيه تهمة القتل عن غير قصد بسبب عدم أخذ الاحتياط والإهمال وعدم التنبه وعدم مراعاة القوانين طبق الفصل 217 من المجلة الجزائية، إلى ثلاثة من المشتبه بهم في هذه القضية، وهم مديرة مركز التوليد وطب الرضيع ومدير الصيانة ورئيس قسم الصيدلة بالمركز. وقضت المحكمة بسجن كلّ متهم 8 أشهر عن كلّ ضحية، أي ما مجموعه 112 شهرا لكل منهم وإلزامهم بتعويض مالي بقيمة 30 ألف دينار لفائدة كل عائلة من العائلات المتضررة. وقد أدّى هذا الحكم إلى مواصلة النقاش في موضوع المسؤولية الطبية، وعن مدى جدوى تحميل تلك المسؤولية المباشرة إلى الإطار الطبي في مثل هذه الحوادث، بخاصّة وأن الجميع هنا من ضحايا ومتهمين هم بالمعنى الواسع “ضحايا” لتبعات سيّاسة التقشف الثقيلة على المجال الصحي، التي تعتبر من بين المسببات الرئيسية والمباشرة لعدد من الأزمات المتواترة في القطاع. ولا نُذُر جديدة إلى الآن لمراجعة هذه السياسة القديمة التي لا تزال باقية وتتمدد خلال السنوات الأخيرة، بمنأى عن الخطاب الرسمي المُبشر ب”المقاربات الجديدة”.

قرابين التقشف

في تصعيد لافت، أعلنت النقابة العامة للأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان الاستشفائيين الجامعيين، تقديم استقالة جماعيّة من كلّ المهام العلاجيّة والتدريسيّة والبحثيّة والإداريّة إلى حين رفع “المظلمة المُسلطة” عن مجموعة ما يُعرف بقضية الرضع، وذلك في استجابة لقرارات الاجتماعات العامة التي انعقدت يوم 21 أفريل في كليّات الطب بالمنستير وسوسة وتونس وصفاقس، احتجاجا على ظروف العمل “المتدهورة” في المستشفيات الجامعية، كما انتقدت العريضة التي وُجهت إلى وزارة الصحة “المعايير الأوروبية” التي يعتمدها القضاء التونسي في محاكمات الأطبّاء في قضايا المسؤولية الطبية، مقابل الظروف المزرية. وشددت على أن تحميل هؤلاء الإطارات كامل المسؤوليّة لوحدهم في التقصير في توفير المواد أو أداء المهام أمر غير منطقي وغير منصف، نظرا إلى النقائص والاختلالات التي تتجاوز مهامّهم ومسؤولياتهم. وقد تلا هذه الخطوة التصعيدية اعتزام الأطباء تنفيذ إضراب وطني بمختلف المستشفيات تنديدا بالأحكام السجنيّة الصادرة ضدّ مجموعة قضية الرضع يوم الخميس 24 أفريل، قبل أن تتراجع النقابة وتؤجّله لمدة شهرين بعد جلسة عمل مع وزارة الصحة، بهدف عقد جلسة تقييمية لمتابعة تنفيذ الاتفاق مع الوزارة، الذي كان من بين محاوره مراجعة بعض الفصول في قانون المسؤولية الطبية التي كانت قد أدت إلى صدور الحكم مثار الجدل.

وبالعودة إلى بعض التفاصيل التي أوردها تقرير لجنة التقصي في ظروف وملابسات وفاة الولدان بمركز التوليد وطب الرضيع بتونس التي أحدثتها وزارة الصحة عقب الحادثة مباشرة في مارس 2019، ثبُتت جملة من الإخلالات، ومن جملتها أساسا غياب الحوكمة في التسيير نتيجة عدم تعويض المسؤولة الأولى السابقة بقاعة تحضير الأكياس لمدة سنوات وتسجيل نقص في عدد الصيادلة الموجودين. فضلا عن وجود مشاكل مختلفة بالصيانة ضمن القاعة، وهو ما أدى إلى عدم التفطن لوجود التعفن الجرثومي. وما أقرّه تقرير لجنة التقصي من ملاحظات، سبق لمحكمة المحاسبات أن نبّهت إليه وتعرّضت له بالتفصيل في تقريرها الحادي والثلاثين في ما يخص عددا من مراكز التوليد الأخرى، وسط تشكيك وانتقاد من وزارة الصحّة حينذاك، بل وتعرّض التقرير إلى إخلالات أخرى تمسّ قسم أمراض النساء والتوليد في مستشفى عزيزة عثمانة بشكل خاص (وهو مركز توليد آخر غير المركز الذي وقعت فيه حادثة الرضع). فقد أشار التقرير إلى أنّ تأمين اختصاصي طب الأطفال وطب التخدير والإنعاش في قسم أمراض النساء والتوليد في مستشفى عزيزة عثمانة قد تمّ من طرف طبيبة واحدة فقط بين سنتي 2004 و2017 ، فضلا عن تأمينها جميع حصص الاستمرار المسائية والليلية، كما لم يتم تعويضها خلال حصص الاستمرار أثناء عطلتها أو أثناء قيامها بمأمورية في الخارج لمدة ثمانين يوما بين جويلية 2015 وجوان 2017. كما ساهم تدهور ظروف حفظ الصحة وتجاوز طاقة الإستيعاب بالمستشفى وعدم توفير فضاءات بديلة وملاءمة لإيواء مرضى الوحدات المعزولة خلال فترة تعقيمها وصيانتها في تسجيل وفيات من مرضى أقسام الدم وصلت إلى 59 حالة سنة 2013 حسب التقرير. 

ويُشير تقرير محكمة المحاسبات في نفس الإطار، إلى أن النقص في الإطار الطبي المُختص بمستشفى عزيزة عثمانة قد أدى إلى تحويل 1300 رضيع إلى أقسام الطب والولدان بالهياكل الصحية الأخرى خلال الفترة من 2012-2016 أي ما نسبته 56 بالمائة من مجموع الرضع الذين تمّ فحصهم بوحدة طب الولدان بالقسم. كما تمّ نقل هؤلاء الرضع داخل سيارات إسعاف غير مهيئة مما سمح بالتسبب في تعكّر حالتهم الصحية وإضعاف حظوظهم في الإنعاش، بل سبق أن توفي رضيع سنة 2016 خلال عملية نقله داخل سيارة إسعاف، كما يُوضح التقرير، أي قبل حادثة الرضع الشهيرة بثلاث سنوات. وبذلك يتبين أثر سياسة التقشف في المجال الصحي على مستوى الموارد البشرية أو على مستوى التجهيزات، في التسبب بإخلالات خطيرة في شروط حفظ الصحة المتعلّقة بالبنية الأساسية وحفظ صحة الأيدي ومعالجة المعدات الطبية والمساحات، المؤدية بدورها إلى التعفّنات الإستشفائية. وهو ما أنتج تراجعا خطيرا للنسبة العامة المطابقة لمتطلبات حفظ الصحة بالمستشفى مثلا من 86 بالمائة سنة 2015 إلى 51 بالمائة سنة 2017. فضلا عن إخلالات أخرى بالجملة في عدم تعويض تجهيزات معالجة الهواء القديمة وعدم المحافظة على نقاء الهواء داخل الوحدات المعزولة، بل وعدم شمولية المراقبة البكتريولوجية للهواء لقسم أمراض النساء والتوليد ووحدات الإقامة بقسم أمراض الدم، مما لا يسمح بالتفطن إلى تواجد الجراثيم المتسببة في التعفنات، هذا عدا عن افتقار المستشفى إلى طبيب اختصاصي لحفظ الصحة رغم توصية اللجنة الطبية بذلك منذ سنة 2014.

أبعد من قضية الرضع: خطر سياسة التقشف على الصحة العمومية

يُعدّ مستشفى عزيزة عثمانة مثالا “نموذجيا” عن خطر سياسة التقشف على الصحة العمومية، فقد شهد المُستشفى ارتفاع عدد المرضى بين سنتي 2012 و 2016 من 179 إلى 245 لكل طبيب جامعي مختص في أمراض الدم، فضلا عن ارتفاع عدد المرضى لكل طبيب جامعي مختص في أمراض النساء والتوليد خلال الفترة نفسها من 508 إلى 1241. ويعود هذا بشكل جزئي إلى مغادرة 12 طبيبا، من بينهم أربعة أساتذة جامعيين للمستشفى خلال نفس تلك الفترة وعدم سعي وزارة الصحة إلى تعويضهم بشكل مباشر، كما تجاوزت طاقة استيعاب المستشفى أحيانا نسبة المائة بالمائة، وهي نسبة بعيدة عن توصيات منظمة الصحة العالمية بعدم تجاوز طاقة الإستيعاب لنسبة أربعين إلى ثمانين بالمائة. وتشير جمعية البوصلة في تقريرها “التقشف، المرض المزمن للصحة العمومية” إلى أن القطاع الصحي يشهد انخفاضا حادا في قطاع أطباء الاختصاص، حيث تراجع من 3339 سنة 2017 إلى 2318 سنة 2019 فقط، أي بما يقارب الثلث خلال سنتين. وما ينطبق هنا على الموارد البشرية، ينطبق كذلك على البنية التحتية، حيث لم يزد عدد المستشفيات الجامعية والمراكز المتخصصة عن 23 منذ ما قبل الثورة، في حين ارتفع عدد مرافق القطاع الخاص من 2406 إلى 2976 خلال الفترة من 2011 إلى 2019، يتركز 90 بالمائة منها في المناطق الساحلية وهو ما يعكس توجها مُقنّعا نحو خوصصة القطاع الصحي، وزرع أفضلية مناطقية له. وبالإضافة إلى كل هذه المؤشرات، تتفاقم ظاهرة هجرة الأطباء التونسيين إلى الخارج كنتيجة طبيعية ومنطقية لسياسة التقشف في القطاع الصحي، حيث بلغ عدد الأطباء المغادرين من تونس أكثر من 1500 طبيب خلال سنة 2023 فقط، كما صرّح كاتب عام عمادة الأطباء زياد العذاري، معظمهم قد غادر إلى الوجهات الأوروبية، فضلا عن مغادرة 80 بالمائة من الأطباء الشبان حديثي التخرج لتونس سنويا حسب إحصائيات عمادة الأطباء.

وتبرز اللامساواة بين الفئات الاجتماعية وبين المناطق خاصّة، كأحد المشاكل الهيكلية التي تفاقمت بشكل جذري نتيجة السياسات التقشفية. حيث تتركز نسبة 73.85 بالمائة من طاقة الاستيعاب الاستشفائية بالقطاع العام في الولايات الشرقية والشريط الساحلي، في حين ينحصر ربعها تقريبا في باقي الولايات الداخلية. ويشمل التفاوت أيضا عدد أطباء الاختصاص في الجهات، حيث بلغ المعدل الوطني لكثافة أطباء الإختصاص 6،63 طبيبا عن كل عشرة آلاف شخص، إلا أن النسبة في الجنوب الغربي لم تتجاوز 1،9 وفي الوسط الغربي 1،6. ويكتسي هذا التفاوت خطورة أكبر في بعض القطاعات الحساسة مثل طب النساء والتوليد، حيث يبلغ معدل أطباء هذا الاختصاص في ولاية سليانة مثلا 0.72 عن كل عشرة آلاف ساكن. وهذا الرقم يقلّ بكثير عن المعدل الوطني الذي يبلغ 2.9 حيث يؤثر بشكل مباشر على الوضع الصحي للنساء والحوامل منهن بشكل خاص، وهو ما يُفسر كذلك أحد أسباب الارتفاع  في نسبة وفيات النساء عند الولادة في منطقة الشمال الغربي مقارنة بالنسبة الوطنيّة العامة.

لم تكن قضية الرضع بذلك سوى مرآة كاشفة وبشكل أكثر تكثيفا من ذي قبل لمختلف الأزمات التي مر بها القطاع الصحي منذ انتهاج سياسة التقشف تطبيقا لتعليمات وبرامج صندوق النقد الدولي، ولم تر سياسات ” التعويل على الذات” التي تطغى على الخطاب الرسمي اليوم بدّا من مواصلة نفس المسار، الذي سيؤدي حتما إلى تواصل الأزمة وتعقيدها بشكل أكبر. كما تُعد القضية من بين الإختبارات الحقيقية الأولى لبحث التبعات السلبية المتعددة لقانون المسؤولية الطبية الذي تم إقراره من قبل “برلمان الرئيس” في سنة 2024. خطورة هذه التبعات بلغت حد الإقرار بنية مراجعته، في خطوة غير معتادة من قبل سلطة الأمر الواقع. وقد سبق للمفكرة القانونية، تحليل وتوقع هذه التبعات والتنبيه إليها في مناسبات سابقة، باعتبار أن هذا القانون لم يكن سوى انعكاسا لإرادة لوبيات التأمين، ولم يسمح بمشاركة فاعلة لعديد الأطراف الاجتماعية في مناقشته، ومن بينها خصوصا الجمعيات المدافعة عن الحق في الصحة والجمعيات الممثلة للمتضررين من الأخطاء الطبية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قرارات قضائية ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني