أُعفيت الراهبة مايا زيادة من مهامها “المحدودة” في مدرسة راهبات “حبل بلا دنس” غبالة – كسروان على إثر انتشار مقطع فيديو لها تطلب فيه من تلامذتها الصلاة لأطفال وأمهات جنوب لبنان ورجال المقاومة. وترافق انتشار مقطع الفيديو مع حملة تحريض ضدّ الراهبة وصلت إلى حدّ الطلب من بكركي التدخل للحفاظ على هويّة لبنان. حملة التحريض هذه استُتبعت بحملة تضامن واسعة مع الراهبة. إذ اعتبر المتضامنون أنّها كانت تطبّق تعاليم المسيح بنشر المحبّة ونصرة الحقّ عبر طلبها من تلامذة لبنانيين الصلاة لأطفال لبنانيين أيضا.
وفيما استُخدمت في حملتيْ التحريض والتضامن عبارات غالبا ما تطبع أي نقاش في لبنان مثل “انعزاليين” و”دواعش” و”ثقافة الموت مقابل ثقافة الحياة”، فضّل البعض عدم مناقشة الموقف من محتوى ما قالته الراهبة، وحصر المسألة في حقّ الراهبة بإقحام الأطفال بالسياسة. وهذا ربّما ما حاولت المدرسة فعله في بيانها إذ خاطبت أولياء الأمور بالقول “وأنتم تعلمون كل العلم بأنّنا لم ولن ننحاز يوما لأية سياسة أم حزب أم فئة معيّنة”، مشيرة بما يُشبه التبرّؤ من تهمة ما، إلى “أنّ الأخت مايا زيادة لا تنتمي للهيئة التعليمية في المدرسة”. السياسة نفسها أيضا تحدّث عنها الأب يوسف نصر أمين عام المدارس الكاثوليكية، إذ رأى في اتصال مع “المفكرة” أنّه “نحن كتربويين نحمي المدارس من السياسة”. مؤكّدا أنّ الراهبة لم تتعرّض لأيّ إجراء تعسّفي إذ إنّها لا تزال في الرهبنة وأنّها لم تكن أساسا من الكادر الإداري والتعليمي في المدرسة، بل كانت تقوم بمهامّ محدودة جدا وهي “المرافقة” وأُعفيت منها.
مقاربة المدرسة وردود الفعل على كلام الراهبة يطرح أسئلة أساسيّة عن مفهوم ما هو سياسي وما هو تربية وطنيّة وعن الحق من عدمه لأي تربوي ولاسيّما في التعليم ما قبل الجامعي بإقحام الأطفال في السياسة، وما هو تعريف السياسة في الأساس؟ وهل يقع الحديث عن عدوان إسرائيلي على لبنان، وعن أطفال الجنوب ونسائه والمقاومين من أبنائه في قلب السياسة الممنوعة؟ وهل استحضار العدوان الإسرائيلي على جزء من لبنان، وبالتالي خروج زيادة عن السياق العام السائد في البلاد، وكأن الحرب على الجنوب تدور خارجها (خارج البلاد) وخارج اهتماماتها طالما أن الجنوبيين وحدهم يدفعون ثمنها، هي سياسة ممنوعة؟
كما تطرح حادثة الراهبة وما تلاها من ردود أفعال سؤالا عن ازدواجيّة معايير واضحة. ففي حين يصمت المجتمع برمته عن انتشار المدارس ذات الطابع الطائفي والمذهبي في لبنان، وبعضها مموّل جزئياً من وزارة التربية نفسها، حيث تعمد إدارات هذه المدارس إلى تنشئة الأجيال وفق توجهات طائفة المدرسة وأفكارها، كما لا يعترض الجميع على صور زعماء الأحزاب التي تملأ جدران مدارس عدّة في لبنان، وعن اختيار تربويين حسب انتماءات حزبيّة وطائفيّة، تعلو اليوم أصواتٌ تطالب بعدم إقحام السياسة بالتربية.
يردّ الباحث التّربوي الدكتور عدنان الأمين هذا الأمر إلى أنّ مفهوم اللبناني للسياسة “حزبي يصبغ جماعة”، فإذا كان الكلام يوافق هذه الجماعة لا نعترض على إقحام السياسة في التعليم، وإذا خالفه نرفض هذا الإقحام. ويرى أنّ: “الراهبة تحدّثت من منطلق إنسانيٍ، ذكرت المقاومة كفكرة وطنيّة، ولكن الجو المتحزّب قوّلها وبشكل مقصود ومفتعل ما لم تقلْه، وسيّس الموضوع، التسييس في ردّة الفعل وليس بالفعل”.
حملات تحريض وتضامن
في التفاصيل، انتشر الأسبوع الماضي مقطع فيديو للراهبة مايا زيادة من مدرسة راهبات”حبل بلا دنس”، في بلدة غبالة -كسروان، تتحدّث فيه عن فلسطين وعن أطفال جنوب لبنان وضرورة الصلاة لهم، ما أثار غضب أولياء الأمور الذين اعترضوا على كلام الراهبة ليطالبُوا المدرسة بالتدخّل، ملوّحين بتحرّكات شعبيّة في كسروان بسبب خطابها الذي وصفوه ب “البعيد عن ثقافتهم”، فما كان من الإدارة إلّا أن أصدرتْ بيانا اعتبرت فيه أنّ زيادة “تكلّمت بحماس من دون أن تعي أبعاد كلامها” وأنّ “مبادرتها شخصية نشرتها من دون علم المسؤولين عن المدرسة”. وأوضح البيان أنّها كمدرسة “تعمل منذ أكثر من 65 سنة لتوفير أفضل ما يكون لأطفالها” وأنّها “لم ولن تنحاز يوما لأية سياسة أو حزب أو فئة معيّنة” لأنّ “همّها الوحيد التربية الدينية والأخلاقية والثقافية والإنسانية من دون تفرقة ولا حساب”.
ولم تذكر المدرسة أنّها اتخذت أيّ إجراء بحقّ زيادة، واكتفت بإيراد ملاحظة في بيانها مفادُها أنّ “الأخت مايا زيادة لا تنتمي للهيئة التعليمية في المدرسة”، لكنّ مصادر عدّة تؤكّد أنّ زيادة أعفيت من مهامها نزولا عند رغبة أولياء الأمور.
وفي هذا الإطار، يصرّ الأب يوسف نصر أمين عام المدارس الكاثوليكيّة في لبنان على التأكيد كما سبق بيانه أنّ “أيّ إجراء تعسّفي لم يؤخذ بحقّ زيادة، وأنّها لا تزال تُكمل مشوارها بالرهبنة” وأنّها “لم تكن أصلا ضمن الكادر التعليمي أو الإداري في المدرسة ليتمّ الحديث عن فصلها، فهي كانت تقوم بمسؤوليّة محدودة جدًا وهي “المرافقة” وأعفيت منها”، بمعنى أنها أعفيت حتى من المهام التي سُمّيت بالمحدودة.
وكانت زيادة ظهرت في مقطع الفيديو وهي تقرأ مقطعا من قصيدة “جواز سفر” للشاعر محمود درويش، وتُخبر التلامذة أنّ ما يحصل في فلسطين المحتلّة وجنوب لبنان أصبح “معرضا للغرب” وأنّ هذا الغرب وبدلا من أن يُساعدنا “يتفرّج علينا” فلذلك “ما إلنا إلا حالنا”. وقالت الراهبة زيادة “في الجنوب تلامذة من عمركم، يقولون نحن ليس لدينا أحلام غير أن نحمي أرضنا، اليوم نصلي للجنوب لأطفال الجنوب لأهالي الجنوب لأمهات الجنوب، للرجال، رجال المقاومة، لأنّ هؤلاء رجال من لبنان، هؤلاء يتعبون ليحموا هذا الوطن، وإذا نحن لم نصلِّ ولم نحبّهم بغضّ النظر عن ماذا نفكّر نكون خائنين بحقّ أرضنا، وبحقّ وطننا وبحقّ كل كتاب نفتحه ونقرأ فيه”. وأضافت “نقول للعذراء أن تحمي شبابنا وأولادنا ووطننا، لأنه يمرّ بمحنة صعبة جدا، ولا يوجد غير المحبة والتعاضد، تجمعنا وتقوّينا وتأخذنا قدما”.
وأثار انتشار مقطع الفيديو الذي لم نتمكّن من التأكّد من الجهة التي قامت بنشره، حملة تحريض على وسائل التواصل الاجتماعي ضدّ الراهبة باعتبارها “تروّج لثقافة دخيلة” وتتماهى مع خطاب “أتباع إيران” وتتبنّى “مصطلحات وقضايا أحزاب إسلاميّة خمينيّة” و”تغيّر تاريخ الكنيسة في لبنان وتاريخ الموارنة” و”تغسل أدمغة الأطفال”، ووصلت حملة التحريض إلى الطلب من الراهبة التعليم في “مدارسهم”، إلى مطالبة بكركي، مركز البطريركية المارونية، التدخّل لحماية لـ “هويّة” لبنان.
واستُتبعت حملة التحريض بحملة تضامن واسعة مع زيادة ولاسيّما بعد إعفائها من مهامها. واعتبر المتضامنون أنّ زيادة طبّقت تعاليم المسيح، وأنّها تقوم بدورها بتربية الأطفال على حبّ الوطن وبناء جسور التواصل بين أبنائه، وأنّها تمثّل موقف عدد كبير من المسيحيين الذين يحاول طرف احتكار رأيهم وتصويرهم وكأنّهم منفصلون عمّا يحدث في جنوب لبنان، وكأنّ الجنوب أيضا ليس لبنانيا.
وفي هذا الإطار رأى رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل أنه “أن تطلب الأخت مايا زيادة من تلامذتها أن يصلّوا للجنوب برجاله ونسائه وأطفاله وشهدائه، إنما هي تطبق تعاليم السيد المسيح”.
وليس بعيدا رأى وزير الثقافة محمد المرتضى أنّ “ليست التربية تلقين التلامذة المناهجَ المقرّرة فحسب. إنها أيضًا وأولاً تنمية الشعور الإنساني والوطني والأخلاقي في نفوسهم، وتدريب ضمائرهم على التعاطف مع أصحاب الحقوق المعتدى عليها ومع أبناء وطنهم لا سيما ضدّ أعداء الإنسانية، لأن أساس المواطنة الحقّة يكمن في المشاركةٍ بين أبناء الوطن في الآلام والآمال” وانّ “الصلاة من أجل الآخرين ركنٌ أساسي من أركان الإيمان في كل دين، وليست عملًا سياسيًّا على الإطلاق، العقاب عليها هو الموقف السياسي المحض”.
واستُخدمت في حملتي التحريض والتضامن عبارات غالبا ما تطبع أيّ نقاش في لبنان مثل “انعزاليين” و”دواعش” و”ثقافة الموت وثقافة الحياة” و”الشمولية” و”رفض الصوت الآخر” والتخوين عبر الحديث عن تماهي الموقف مع “حزب إيراني” أو مع “خطاب صهيوني”.
هل أقحمت زيادة السياسة في التعليم؟
بغض النظر عن طبيعة الإجراء الذي اتُخذ بحقّ الراهبة، يبقى الإجراء في إطار معاقبتها “استيعابا لغضب أهالٍ من خطاب لا يُشبه أهل المنطقة” على حدّ توصيف مصدر معني. وتبقى مُعاقبتها من دون تحديد الخطأ الذي ارتكبته في حال وجوده، إلّا الحديث عن النأي بالنفس عن “السياسة” كما كان واضحا في بيان المدرسة، وفي حديث الأب يوسف نصر الذي قال في اتصال مع “المفكرة” “نحن كتربويين نحمي المدارس من السياسة لذلك ارتأت المدرسة الأفضل لطلابها، لتحميهم من السياسة في ظلّ الأجواء الحاليّة” مشيرا إلى أنّ المدارس “لا تريد أن تكون طرفا، تُريد تعليم المبادئ الأساسية عامة، ولاسيّما في ظلّ أجواء الانقسامات، ما يهمّنا هو أن لا ندخل في زواريب السياسة”. وهذا أيضا ما أثاره البعض من حملتي التحريض والتضامن الذين فضّلوا عدم مناقشة الموقف من محتوى ما قالته الراهبة، والسؤال عن حقّ الراهبة بإقحام الأطفال بالسياسة.
يطرح هذا الأمر سؤالا عن مفهوم ما هو سياسي وما هو تربية وطنيّة وعن حقّ وعدم حقّ أي تربوي ولاسيّما في التعليم ما قبل الجامعي بإقحام الأطفال في السياسة. وفي هذا السياق يقول الباحث التربوي الدكتور عدنان الأمين أنّ هناك شبه اتفاق في مختلف دول العالم من خلال الأنظمة التربويّة والنظام الداخلي والأساسي بعدم السماح للأستاذ ولاسيّما في التعليم ما قبل الجامعي بالحديث في السياسىة في المدرسة، وذلك انطلاقا من كون التلامذة أطفالا لم يكوّنوا بعد قدرتهم على التمييز في وقت يتمتّع فيه الأستاذ بسلطة ما، شارحا أنّ ما يُقصد هنا بالسياسة “الممنوعة على الأستاذ” هو التوجه الحزبي أو تأييد زعيم ما، وليس السياسي بالمعنى الوطني أو السياسي من منطلق الشأن العام.
ويشرح الأمين أنّ السياسة من مفهوم وطني مسموحة. ففي كتب التاريخ في المدارس هناك حديث عن عدو وعن صديق وعن تحالفات وهذا سياسي بالمعنى الوطني. وكذلك حال السياسة بمعنى الشأن العام فهي مسموحة، ففي كتب المدارس نتحدّث عن الخدمات عن القانون وتطبيقه وهذا سياسة ومبادئ عامة بالعقد الاجتماعي.
ومن هنا وحسب الأمين يكون السؤال “أي سياسة تحدّثت بها الراهبة؟” فهي برأيه لم تتحدّث بما هو سياسي حزبي بل سياسي وطني وما قالته هو تعاطف مع أبناء الوطن، واستخدام كلمة مقاومة كان في إطار فكرة وطنية، فالكلمة أي مقاومة مذكورة في كتب التاريخ، وفي أدبيّات جميع الأحزاب.
ويقول الأمين:” الراهبة تحدثت من منطلق إنساني، ذكرت المقاومة كفكرة وطنيّة، ولكن الجو المتحزّب قوّلها وبشكل مقصود ومفتعل ما لم تقله، وسيّس الموضوع، التسييس في ردّة الفعل وليس بالفعل”.
كما تطرح حادثة الراهبة وما تلاها من ردود أفعال سؤالا عن ازدواجيّة معايير واضحة، ففي حين يصمت الجميع عن صور زعماء الأحزاب تملأ حيطان مدارس عدّة في لبنان وعن أناشيد حزبيّة تصدح في ملاعب مدارس عدّة وعن اختيار تربويين حسب انتماءات حزبيّة وطائفيّة، تعلو اليوم أصوات تطالب بعدم إقحام السياسة بالتربية، وهذا مردّه وحسب الباحث التربوي الدكتور عدنان الأمين إلى أنّ المفهوم اللبناني للسياسة “حزبي يصبغ جماعة” فإذا كان الكلام يوافق هذه الجماعة لا نعترض على إقحام السياسة في التعليم وإذا خالفه نرفض هذا الإقحام.