في تاريخ 8/12/2023، قدّم القاضيان الشرعيان الشيخان همام الشعار وعبد العزيز الشافعي بمعية الشيخ جميل العيتاني طعنا لإبطال القرار الصادر عن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى بتمديد سنّ نهاية ولاية مفتي الجمهورية والمفتين المحليين. وقد استند الطعن المقدّم أمام مجلس شورى الدولة إلى كمّ من المخالفات القانونية، في مقدّمتها عدم إدراج القرار على جدول أعمال الجلسة وعدم إبلاغ أعضاء المجلس أصولا وعدم توفّر النصاب القانوني وعدم حصول أيّ تصويتٍ عليه. وفي هذا الإطار، وصف الطّاعنون مجريّات الجلسة على النحو الآتي: “خلال الجلسة العامّة المذكورة لم يحصل تصويت برفع الأيدي على قرار التمديد ولا حصل تصويت بالكتابة (سري أو علني) واكتفى عضوان برفع الصوت، قائلين: القرار بالإجماع”. كما أفاد هؤلاء أنّ المجلس الشرعيّ رفض تسليمهم صورة عن القرار المطعون فيه ومحضر جلسة التمديد، بعدما اعتبر أنّهُ لا يدخل “في عداد المؤسّسات المشمُولة بقانون الحق في الوصول إلى المعلومات”.
وفيما كان من الممكن أن يسلك الطّعن طريقه بصورة اعتياديّة ضمن أصول التقاضي، فإنّ ردود الأفعال على الطّعن تعدّت حدود المحاكمة وأصول المبارزة القضائية لتأخذ منحى هجوم ضدّ أشخاص الطاعنين على خلفية تجرّئهم على الخروج عن “الإجماع” والاحتكام إلى محكمة علمانية “ليس لديها أيّ اختصاص مطلقًا”. وإذ استهدف الدّفاع عن قرار المجلس الشرعي الجهة الطاعنة، فإنّ حدّة الغضب الذي عبّر عنه إزاء تجرّئها على تقديم الطعن، إنما ينذر بصورة أكيدة وإن ضمنًا بغضبٍ أعظم في حال تجرّأ مجلس شورى الدولة على قبوله عملا بالمثل الشعبي: “عم بحكيك يا جارة لتسمع الكنّة”.
وما فاقم من خطورة ردود أفعال الجهات المدافعة عن القرار، هي أنها رشحت، بفعل استهدافها قاضيين شرعيين والمنحى الذي أخذته، عن تعرّض خطير لاستقلالية القضاة الشرعيين وتاليا للمحاكم الشرعية. وهذا ما سنحاول تفصيله أدناه.
“تخوين” خلافا للآداب القضائية
أهمّ الردود على الاعتراض تمثّل في البيان الذي وقّعه القضاة الشرعيّون تحت عنوان “رفض الطعن بتمديد السنّ القانونيّ لمفتي الجمهورية اللبنانيّة”. وقد بدا البيان في سرعة صدوره (في غضون أقلّ من 4 أيام من تقديم الطعن) وهوية موقّعيه (غالبية قضاة الشرع) ونبرته الاتهاميّة العنيفة، وكأنه يهدف إلى تأكيد إجماع هؤلاء على استهجان الطّعن في قرارات المجلس الشرعي وصولا إلى الذمّ بأشخاص الطاعنين وتظهير أنهم خرجوا وشذوا عن الجماعة بعد التشكيك ضمنا بصدقيّتهم وإخلاصهم وأمانتهم.
وعليه، وإذ أكّد البيان على إجماع المُسلمين (5 مرات في البيان) ووحدة صفّهم وكلمتهم (4 مرات) واستقلالية مجلسهم الشرعيّ وسيادتِه وسلطته (5 مرات)، فإنه أسهب في إكالة الاتهامات للجهة الطاعنة. فالطّعن بتمديد ولاية المفتي هو “تشغيب” و”تخريب” مؤدّاه “التسبّب بضررٍ بليغِ بوحدة صفّ المسلمين” و”تفريق كلمتهم وإضعاف إرادتهمْ” فضلا عن أنّ الضّرر الناجم عنه “لا يمكن تصوّره و(هو) يُصيب صميم حقوق الطائفة التشريعيّة”. ولم يكتفِ البيان في التنديد بالطعن وخطورته، بل ذهب إلى الذمّ بأشخاص الجهة الطاعنة إلى درجة لامست الشّتم والتحريض والترهيب. وهذا ما نستشفّه من تضمين البيان فقرة مفادها أن “تصحيح مسارات المؤسسة الدينية لا يتم إلا من خلال كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة ومن أشخاص صادقين ومخلصين ومأمونين وبالتأكيد ليس في سجلّهم الوظيفيّ ولا في سمعتهم المسلكية ما يسيئ إلى منهج الاعتدال والوسطية، وليسوا أخيرا ممّن يتخذون شعار الغاية تبرّر الوسيلة”. فكأنما البيان يعتبر فيما يشبه حكم الإدانة، أنّ الجهة الطاعنة تفتقد إلى الصدقية والإخلاص والأمانة والاعتدال مع التلويح بوجود شوائب في سجلها الوظيفي وسمعتها المسلكيّة. وقد بلغ الذمّ بهؤلاء والتحريض ضدهم مستوًى غير مسبوق في مخاطبة قضاة شرعيين لزملاء لهم، حين انتهى البيان إلى اتهامهم بالشذوذ عن الجماعة وتاليا الشذوذ في النار. فبعدما أعلن موقعو البيان أنهم لن يسمحوا “كقضاة شرعيين بكسر هيبة سماحة المفتي، ولا كسر إرادة الإجماع السنّي على تجديد الثقة فيه”، استشهدوا بقول النبي محمّد: “عليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة ومن شذّ شذّ في النار” وصولا إلى الاستعاذة من “الشذوذ وحظوظ النفوس ومن مفارقة الجماعة وشقّ عصا الطاعة” والتحذير من مغبّة الاستمرار في ذلك في آخر عبارة وردت في البيان: “هذا بلاغ للناس ولينذروا به”.
وبذلك، يكون قضاة الشّرع قد استهانوا التّهجم على زميليْهم على خلفية الطعن الذي قدّماه وصولا إلى الذمّ بشخصيْهما والتحريض ضدّهما واتهامهم بالشذوذ على الجماعة وفي النار (وهي من أكبر المذمات التي يمكن لمسلم متديّن أن يوجهها إلى آخر)، لا لسبب إلا أنهم اعتبروا أن تمديد السّن القانوني للإفتاء قد تمّ خلافا للأصول وأنهم لجأوا إلى مرجع قضائي علماني، وبكلمة أخرى لا لسبب إلا أنّهم أرادوا التمتّع بحقّهم المضمون دستوريّا بالتقاضي. ولا نحتاج بالواقع لكثير من التدقيق لنخلص إلى أنّ هؤلاء القضاة أخلّوا بتوقيعهم على هذا البيان بمجموعة من الأخلاقيّات القضائية المتعارف عليها، أهمها وجوب اعتماد الرصانة في الأسلوب والنقاش والأمانة في نقل الوقائع وتوصيفها واحترام الحقوق الأساسية للأفراد من دون التعرّض لها مع الامتناع عن لغة الشتم والإسفاف والتحقير والتحريض والتخوين والتكفير والتهديد. هذا فضلا عما ورد في البيان من محاباة ومجاملة لمفتي الجمهورية، بحيث وصفه البيان بالقيادة الحكيمة والمحنّكة في معرض التأكيد على إجماع السنّة على تجديد الثقة به وصولا إلى التسليم ب “عصا الطاعة”. وفيما تبقى احتمالات الضغط على هؤلاء واردة، فإنّ من شأن توقيعهم على هكذا بيان من موقع الرضوخِ للضغط أن يفاقم من خروجهم عن الأخلاقيات القضائية التي تقوم أصلا على الاستقلالية، لا أن يخفف منها.
مواجهات قضائية خلافا لمبدأ الخصم الشّريف
رغم السرعة في إصدار البيان، لم يُعلن عنه بشكل واسع. وسرعان ما اتّّضح أن الهدف الأساسي منه تمثل في استخدامه كوثيقة أمام مجلس شورى الدولة بهدف إسباغ المرافعات بما تضمّنه من نذير واتهام وعصبية. وهذا ما نتبيّنه من إرفاقه كمستند مع اللوائح المقدمة في المراجعة من المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى والدولة (المديرية العامة لمجلس الوزراء) على حدّ سواء، فضلا عن إيراد فقرات واسعة منه في متن هذه اللوائح. وإذ استعادتْ هذه اللوائح ما جاء في البيان بشأن إجماع الطائفة وشذوذ الجهة الطاعنة فضلا عن الاتهامات الموجهة لها والذمّ بها، فإنها تبنّت فضلا عن ذلك من دون أيّ حرج ما ورد فيه من عبارات آمرة ناهية لمجلس شورى الدولة بوجوب إعلان عدم اختصاصه المطلق للنظر في الطعون على قرارات المجلس الشرعي أو التحذير بأن أي قرار مخالف إنما يتسبّب بإثارة النعرات الطائفية والمسّ بالسلم الأهلي أو أيضا زعزعة وحدة صف الطائفة السنية المؤسسة للكيان اللبناني، مما يجعله وفقا لتأويلنا لهذه العبارات أقرب إلى فعل جرميّ منه إلى قرار قضائي.
وقد بدت المراجع المذكورة وكأنها لا تتوانى عن إبراز السّخط والغضب الذي عبّر عنه هذا البيان كورقة ضغط على مجلس شورى الدولة لحمله على إعلان عدم اختصاصه. بل كأنها بكلام آخر تنذره من خلال إبراز البيان من مغبّة اللعب بالنار. وهي بذلك تكون قد ارتكبت مخالفة مزدوجة لمبدأ الخصم الشريف والذي يجدر أن تتحلّى به المؤسسات والسلطات العامة ومنها المجلس الشرعي والمديرية العامة لمجلس الوزراء وأيضا محامو الدولة، طالما أنها أخلّت بوجوب احترام الخصم كما بوجوب احترام المحكمة.
وبالطبع، يتحمّل ممثّلو الدولة (وفي مقدمتهم المدير العام لمجلس الوزراء) في هذا الخصوص مسؤولية أكبر طالما أنهم اكتفوا بتكرار ما جاء في بيان قضاة الشرع ولائحة المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى ومعهما كل ما قيل عن سيادة الطائفة السنية وسلطتها ووحدتها، من دون أيّ اعتبار لسيادة الدولة وسلطتها ووحدتها وما تفرضه من توازن وفق الدستور، والأهم للنظام العام الذي يجدر أن تتولّى الدولة حمايته، بخاصة أن الطعن تناول مسائل إجرائية لا صلة لها بأصول الدين من قريب أو بعيد.
إجراءات تأديب تعصف بضمانات الاستقلالية المفقودة
في موازاة ما تقدّم من ردود أفعال كلامية وإجرائية على الطعن في تمديد السن القانونية للمفتين، برزت واقعة جديدة مُلفتة. تمثلت هذه الواقعة في استدعاء المفتّش المعيّن حديثا على المحاكم الشرعيّة القاضي إياد البردان أحد الطاعنين القاضي الشرعي همام الشعّار للتحقيق في شكوى مسلكيّة مقدّمة ضدّه من قبل أحد المتقاضين، منذ بدء العام 2022. وإذ أثار الشعّار مسألة شكليّة قوامها أنّ درجة المفتّش أدنى من درجته مما يجعله غير صالح للتحقيق معه وذلك عملا بمبدأ سائد في التحقيقات المسلكية في القضاء العدلي طالبا التريث إلى حين النظر في طلبه بتعيين محقق آخر أعلى درجة، سارع المفتّش إلى ختم التحقيق وإحالة القاضي الشعّار إلى المجلس التأديبي مع قرارٍ نافذٍ بوقفه عن العمل لمدة عشرة أيام (وهي المدة القصوى للتوقيف عن العمل التي بإمكان المفتش على المحاكم الشرعية إنزالها).
وإذ طرح توقيت هذا الإجراء وقسوته أسئلة عن مدى ارتباطه بالطّعن الذي قدّمه الشعّار لإبطال تمديد السنّ القانونية للمُفتين وبخاصّة على ضوء ردود الأفعال السّاخطة الصّادرة عن القضاة الشرعيين كما عن المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، فإنّ الشعّار لم يتوانَ عن إعطاء هذه الأسئلة طابعا رسميا وقضائيا، وذلك في متن المراجعة التي تقدّم بها أمام مجلس شورى الدولة أيضا ضدّ قرار توقيفه عن العمل. وفيما ليس بحوزة المفكرة القانونية أيّ معلومات تؤكد على فرضية وجود رابط بين الطعن في قرار المجلس الشرعي والملاحقة، يبقى أن التدقيق في مجريات القضية وأحداثها يمنحنا مؤشرات عدة سيكون مجلس شورى الدولة مدعوا للتحقيق فيها في سياق النظر في قانونية قرار المفتش المطعون فيه أمامه وبخاصة لجهة احتمال أي تحوير في استخدام السلطة. أبرز هذه المؤشرات هي الآتية:
-إن الشكوى ضدّ الشعار قدّمت في الشهر الأول من سنة 2022 حسبما نفهم من الطعن المقدم من الشعار. وفيما امتنع المفتش السابق عن القيام بأيّ إجراء بعد إيداعه مذكّرة توضيحية في هذا الشأن من قبل الشعار نفسه، عاد المفتش المعيّن حديثا إلى درسها بعدما يزيد عن سنتين، وهو أمر يطرح أسئلة كبيرة حول القواعد المعتمدة في التفتيش في أعمال القضاة الشرعيين، ضمانا للشفافية ومنعًا للانتقائيّة والاستنسابيّة والأهم منعًا لتحويله إلى أداة للتأثير على هؤلاء أو ابتزازهم. وهذا ما قد يحصل في حال ارتبطت مباشرة التفتيش وتوقيتها ليس بمدى خطورة الشكاوى المقدمة أو بتاريخ تقديمها بل بموقف المفتش أو الجهات القيّمة على المحكمة الشرعية من القاضي المعني،
-إن الشعّار أبرز في المراجعة المقدّمة منه على قرار توقيفه عن العمل معطيات تدحض في حال صحتها إمكانية اتّهامه بارتكاب أخطاء مسلكية. فقد استندتْ الشكوى وفق الشعّار على قيام هذا الأخبر بتصحيح خطأ مادي في أحد القرارات الصادرة عنه، وتحديدا لجهة أنّ الزوجة في قضية معروضة أمامه لم تقرّ بحصولها على حقوقها المالية في جلسة الاستماع إليها بعد طلاقها خلافا لما كان ورد في الحكم المصحّح. ويفهم من الطعن أن الشعار صحّح الحكم في اليوم نفسه وختمه بناء على طلب الزوجة وأنه أبلغ الزوج بنسخة مصدقة منه، إلا أن هذا الأخير آثر الطعن بالقاضي وحياديته بدل الطعن استئنافا في قرار التصحيح أمام المرجع المختص, وأفاد الشعار ضمن علامات الاستفهام التي أثارها على قرار المفتش بحقه، أن المحكمة الشرعية السنية العليا كانت برأته تماما من أي مأخذ في خصوص قرار التصحيح وذلك في معرض ردها (قرارها الصادر في 3/8/2022) طلب الزوج بنقل الدعوى على خلفية ما أثاره قرار التصحيح لديه من ارتياب مشروع، معتبرة الطلب المقدم إليها مجرد وسيلة تسويفيّة تستوجب التغريم. وبذلك، استمدّ الشعار من قرار المحكمة العليا ما يدحض قرار المفتش، إذ كيف لهذا الأخير أن يعدّ القرار بتصحيح الخطأ المادي خطأ تأديبيا فيما أنّ المحكمة العليا كانت رفضت قبل سنتين اعتباره سببا للارتياب المشروع؟
-أخيرا، أكّد الشعّار في مراجعته المقدمة أمام مجلس شورى الدولة أنه وزميله القاضي الشرعي عبد العزيز الشافعي يتعرضان منذ طعنهما في قرار تمديد السن القانونية للمفتين ل “حملة شرسة ممنهجة وفقا لسيناريو مرسوم يقوم على تهجّمات شخصية وتشويه للسمعة يشنّها بحقهما من قام وعمل على تنظيم قرار التمديد حتى وصل آخرها إلى حمل وإلزام بعض القضاة الشرعيين بطريقة الترغيب والترهيب على توقيع العريضة” (البيان) الذي أسهبنا في عرض مضمونه أعلاه.
هذه هي بعض المؤشّرات التي تثير علامات استفهام من أن يكون التفتيش بفعل توقيته قد استُخدم كسلاح إضافي في اتّجاه تجريد الشعّار من حقّه في التقاضي، وعمليا في وضعه أمام خيار العودة إلى الجماعة وعصا الطاعة أو الخروج تماما منها بعد تجريده من صفته كقاضٍ شرعي. من هذه الزاوية، تفتح هذه القضية بأصولها وتفرعاتها النقاش ليس فقط بشأن علاقة المجلس الشرعي بالدولة ولكن أيضا بشأن ضمانات استقلالية القضاة الشرعيين ومعها ضمانات استقلالية المحاكم الشرعية. فلنتابع.