لا تزال الحلقات الحوارية التي تنظّم على هامش انتفاضة 17 تشرين الأول مستمرّة تنظّمها مجموعات مختلفة بينها مجموعات متخصصة. فبات من الواضح أنّ ثمة عطش لدى الناس للحصول على معلومات تكشف لفساد السلطة لا بل تبيّن أنها واحدة من أولوياتهم. وفي 14 كانون الثاني 2020 كانت ساحة جل الديب تستضيف حلقة نقاش حضرها العشرات حول موضوع "استثمار الواجهة البحرية لخدمة الاقتصاد الريعي" من تنظيم مجموعة أشغال عامة ممثلة بالمهندستين تالا علاء الدين وعبير سقسوق، وبمشاركة الصحافي والباحث الاقتصادي محمد زبيب.
تطرّق الحوار إلى الارتباط المباشر بين مسألة تنظيم الشواطئ اللبنانية وقطاع البناء والريع العقاري. واتخذ المتخصصون ثلاثة مشاريع كنموذج لشرح هذا الارتباط. المشروع الأول هو الواجهة البحرية على شاطئ ضبية في المتن الشمالي المعروف بـ"ووتر فرونت سيتي" ( Waterfront City) والثاني هو مشروع تطوير الساحل الشمالي لبيروت (لينور Lenore) الذي أعاد رئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري طرحه في ورقته الإصلاحية قبل استقالته. ويُضاف إليهما، مشروع الواجهة البحرية في وسط بيروت الذي أنجزته شركة سوليدير.
وأجمع المتخصصون الثلاثة على أنّ هذه المشاريع هي أحد أوجه الفساد، بحيث يتبيّن أنّ نافذين وسياسيين يملكون الشركات الملزّمة إنشاء المشاريع. وبالتالي تأتي هذه المشاريع لتؤكد مجدداً على السياسات المعتمدة منذ عقود تحت ذريعة تنظيم الشاطئ والتي لم تصبّ سوى في مصلحة نافذين وسياسيين عبر الاستيلاء على الملك العام وحرمان الناس من الوصول إليه.
وترتدي المنطقة التي انعقدت فيها حلقة الحوار أهمية بالغة، نظراً لكون شواطئ جل الديب الواقعة شمال بيروت، تتعرض للانتهاك أيضاً من قبل شركات سياحية، وتنظيمها تحت جسر جل الديب على بعد خطوات قليلة من التظاهرة التي ينفذّها الأهالي وقرب مركز تجاري تابع لشركة "آيشتي باي ذا سي" يستحوذ على 10 آلاف متر مربع من الأملاك العامة البحرية ويحجب البحر.
في بداية الجلسة تطرّقت سقسوق إلى الرؤية العامة تجاه الشاطئ في لبنان حيث أكدت أنّ التعدّي على الشواطئ ليس وليد اليوم بل بدأ منذ إعلان دولة لبنان الكبير. ولفتت إلى صدور تشريعات عدّة كانت السبب وراء رفع أسعار العقارات على الشواطئ وبالتالي حصر امتلاكها بالأثرياء. واعتبرت سقسوق أن هذه التشريعات شجعت على الاستثمار على الشاطئ وهمشت في الوقت نفسه أشكالاً أخرى من الاقتصاد المنتج، مثال السهول الساحلية الموازية للشاطئ والصيد وأيضاً السياحة الداخلية.
تستشهد سقسوق بمرسوم إشغال الأملاك العامة البحرية رقم 4810 الذي صدر في الستينيات الذي ينصّ على "أنه مسموح إشغال الأملاك العامة البحرية من قبل مالكي العقارات الموازية للشاطئ". وتُضيف، بعدها صدر عدة مراسيم تنظم الشواطئ، منها مرسومان أحدهما ينظم الشواطئ الجنوبية وآخر الشمالية.
ولفتت سقسوق إلى أن مرسوم الشواطئ الشمالية أسس للمشاريع التي نظمت شاطئ المتن الشمالي، وهذا ما تحدثت عنه المهندسة تالا علاء الدين التي تطرقت إلى مشروعي "لينور" والواجهة البحرية في ضبيّة. وأشارت إلى أنّ الكلام عن تطوير ساحل المتن الشمالي، على طول 9 كيلومترات، من نقطة مكب برج حمود إلى مصب نهر الكلب، بدأ في ثمانينيّات القرن الماضي. آنذاك كان أمين جميل لا يزال نائباً في البرلمان اللبناني وكان أول من اقترح فكرة تطوير الشاطئ اللبناني، وبعد حين، أصبح رئيساً فتم إصدار مرسوم وضع المنطقة تحت الدرس عام 1983 وذلك بموجب المرسوم رقم 2085. حينها، تم تلزيم تصميم المشروع وتنفيذه لدار الهندسة، وقسّمت الـ9 كيلومترات إلى أربعة أجزاء. ويُشار إلى أنّ المرسوم نصّ على ردم أجزاء من البحر، وعلى أن يكون للشركة التي ستلزّم تنفيذ المشروع نسبة 35 بالمائة من المساحة المردومة والمساحة المتبقية للدولة.
وبحسب علاء الدين، "حينها ربح التلزيم المقاول جوزيف خوري، وهو مقرّب من الجميّل ومالك لكسارة في وادي نهر الكلب. ولكن توقّف المشروع عند بداية الحرب الأهلية في لبنان، ومع انتهاء الحرب، تم إخراج المشروع من الأدراج عام 1992 في ظل حكومة الرئيس الراحل رفيق الحريري. ولكن رئيس الحكومة الأسبق سليم الحص أصدر قراراً بإلغائه لتعود حكومة الحريري الإبن وتطرحه من جديد وهذا ما يثير مخاوف جديدة من انعكاساته الاقتصادية على المنطقة.
وأشارت علاء الدين إلى أنّ المتعهّد جوزيف خوري تابع عمله في المساحة التي استحوذ عليها بعد تنفيذه مشروع ردم البحر. وأنشأ مجمّعاً سكنياً مقابل الشاطئ بالشراكة مع شركة ماجد الفطيم، وهو مجمّع يحوي أبنية عقارية ذات كلفة باهظة، وطوابق عالية حجبت منظر البحر. وأكدت علاء الدين أنه "لم يستفد من هذه المشاريع سوى القادرين على السكن فيه، وأن الحدائق العامة والمطاعم الفاخرة التي تم إنشاؤها فيها لم تخدم سوى سكان هذه المجتمعات الصغيرة، أي الأغنياء".
انطلاقاً مما تقدم، عرض الصحافي الاقتصادي محمد زبيب الانعكاسات الاقتصادية لهذا النوع من المشاريع على المجتمع. وأشار إلى أنّ الدخول إلى صلب الموضوع يتطلّب عرض نوعية الاقتصاد في لبنان، مشيراً إلى الأزمة التي يواجهها لبنان اليوم التي يطالب في صلبها اللبنانيون بالعدالة الاجتماعية من نواحي عدة سواء لناحية الحق في السكن، والعلم، والطبابة والدخل المناسب وغيره.
واستخرج زبيب من النماذج التي طُرحت في النقاش، أي مشروع "لينور" والواجهة البحرية في ضبية ومشروع سوليدير، أمثلة على تداعيات هذه المشاريع على المجتمع، وهي بحسب قوله جزء من التراكمات التي أوصلت لبنان إلى هذه الأزمة اليوم.
وقال زبيب إنّ "الأسباب التي دفعت الحكومات إلى اللجوء إلى هذا النوع من المشاريع، (أي تقديم عقارات للمتعهد بدل المال) كانت بذريعة عدم وجود أموال لدى الدولة لتنفيذ المشاريع". وفي الوقت عينه، فإن هذا الادعاء يُناقض ما كان يحصل في المصارف، والتي شهدت موجوداتها نمواً وتضخماً كبيراً بسبب السياسات المصرفية غير العادلة". ومن هاذين العاملين المتناقضين، انطلق زبيب بالكلام عن سوليدير، وهو مشروع صادر حقوق أكثر من 260 ألف شخص. فقد وقعت الدولة مع سوليدير عقداً لتنفيذ مشاريع "تجهيز وإعادة بناء البنية التحتية وإنشاء جدار الحماية البحرية وردم البحر"، وذلك مقابل إعطاء الشركة عقارات مردومة في البحر. ولفت إلى أنّ "الأشغال التي قامت بها سوليدير آنذاك قُدرت بـ 475 مليون دولار، وذلك لإعادة بناء البنى التحتية في بيروت وردم البحر". وخمّن المساحة التي ستأخذها سوليدير بما يعادل ثلثي المساحة التي ستردم، ومساحتها الإجمالية 800 ألف متر. وأكّد أنّ العيّنة التي استحوذت عليها الشركة، تُقدّر اليوم بما يقارب 10 مليارات دولار.
وشرح زبيب أنّ هذا النوع من المشاريع يؤدي إلى ارتفاع حدة المضاربات العقارية، بحيث ترفع هذه المشاريع من قيمة العقارات وذلك يؤدي إلى تحقيق أرباح هائلة. وأشار إلى أنّ "المضاربات امتدت إلى المناطق المحاذية لوسط بيروت، وأثرت على الأحياء مما هجر السكان وبات أهالي المنطقة غير قادرين على تحمّل كلفة السكن". واعتبر أن مشروع "لينور" لو تم تنفيذه سيؤدي إلى المصير نفسه. وأكد أن هذا النوع من المشاريع لا يُمكن أن يحصل في دولة تتبنى مبادئ الحكم العادل والاقتصاد العادل. ولفت إلى أن "هذه المشاريع تبنى على دعاية تنظيم الشواطئ، وبأنها ستكون مفتوحة للعموم، وستفتتح مناطق سياحية وتخلق فرص عمل جديدة، إلّا أنها تُظهر في النهاية عكس ذلك".