تحظى مسألة العروبة، ولاسيما في إطار التغييرات السياسية والاجتماعية العميقة التي تشهدها الساحة السورية، بأهمية بالغة تماثل أهمية مسألة الإسلام وتأثيرهافي ركائز الدولة السورية وبنيتها وتكوينها للهوية الوطنية. بل ويذهب البعض إلى اعتبار تأثير الإسلام ثانوياً في الحالة السورية مقارنة مع تأثير العروبة، مرتكزين في ذلك على أنّ النظام السوري وخلال فترة حكمه في العقود الماضية قد استبعد الأيدلوجيا الدينية لصالح تعزيز الأيدلوجيا العروبية. فهذه الأخيرة يمكن أن تعوّض له وإلى حدٍ ما انعدام شرعية الحكم على أساس الدين نظراً لانحدار رئيسه من أقلية دينية لا تمثل الغالبية في سوريا. وفي هذا الصدد ارتكز النظام السوري في حكمه بشكل أساسي على أفكار حزب البعث العربي الاشتراكي المبنية على أيدلوجيا القومية العربية. وقد استتبع ذلك تعزيز لعروبة سوريا وصلت إلى درجة اعتبار جميع المواطنين عربا في انتهاك صارخ وتجاهل واضح للمكونات غير العربية في هذا البلد كالأكراد والسريان والأرمن والشركس والتركمان. وكحال العلاقة بين الدين والدولة، لا يقتصر الجدل في مسألة العروبة بين النظام السوري ومعارضيه، بل يشمل أيضاً جدلاً في أوساط المعارضة السورية أسفر عن اختلافات جسيمة ولاسيما بين ممثلي أغلب الأحزاب الكردية من جهة، وبعض المعارضين القوميين العروبيين، من جهة أخرى.
نشأة العروبة في تاريخ سوريا
تنامى الفكر القومي العربي في سوريا، كغيرها من دول المنطقة العربية، في مراحل النضال ضد الاستعمار العثماني وأيضاً الانتداب الفرنسي، وقد جاء كردّة فعل على سياسة "العثمنة" و"الفرنسة"، بهدف تحقيق الوحدة وتعزيز التضامن العربيين. ولا يخفى في هذا الصدد ما لغير المسلمين العرب من دور في تعزيز الفكر القومي العربي الذي أسفر حتماً عن تراجع التأثير الإسلامي وبالتالي البدء بإرساء هوية قومية ذات أساس غير ديني أسهمت في انحسار هيمنة الأمة الإسلامية مقابل تعزيز فكرة الوطن العربي الجامع للمسلمين وغير المسلمين على السواء. ونذكر من بين هؤلاء بطرس البستاني (1883-1819) وإبراهيم اليازجي (1817-1906)، وهم من أبرز مفكري النهضة العربية، ولاحقا ميشيل عفلق (1910-1989) وهو من مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي الذي أوصل العديد من التيارات السياسية إلى السلطة، ولاسيما في العراق وفي سوريا. أمّا عن عربية الدولة في سوريا، فيعود تاريخها بشكل أساسي إلى الخامس من شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 1918 وذلك إبان دخول الأمير فيصل بن الحسين، أحد قادة الثورة العربية الكبرى، إلى دمشق حيث أعلن فيها عن تشكيل "حكومة دستورية عربية مستقلة استقلالاً مطلقاً لا شائبة فيه"[1]. وقد استمر تأثير العروبة على سوريا كما يتبين من خلال دساتيرها المتعاقبة، إلى أن وصل أوجّه في ظل حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد كما سنبينه أدناه.
العروبة ودساتير ما قبل 1973
بدأ تأثير العروبة وبدرجات متفاوتة منذ المراحل الأولى لتأسيس الدولة السورية وقد سميت عام 1920 ب"المملكة السورية العربية،"ودأب مباشرةً القائمون على هذا الكيان الجديد، وعلى رأسهم فيصل الأول كملك لها وهاشم الأتاسي الذي ترأس المؤتمر السوري المنعقد في 6 آذار/مارس من نفس السنة، بإعداد مشروع دستور تضمّن 148 مادة. وعلى الرغم من اعتبار العربية لغة رسمية (المادة الثالثة)، فإنّ هذا المشروع انطلق بشكل أساسي من قاعدة التساوي أمام القانون في الحقوق والواجبات (المادة 11)، ولم يحدد هوية ثقافية قومية شمولية لجميع السورين وبالتالي لم تٌفرض العروبة فيه كوسيلة ضم صهري دمجي كما هو حال بعض الدساتير اللاحقة[2]. الا أن مشروع الدستور هذا لم يتم اعتماده نتيجة لبدء مرحلة الانتداب الفرنسي في سوريا ووصول القوات الفرنسية إليها في 24 تموز/يونيو عام 1920. وقد شهدت فترة الانتداب الفرنسي اعتماد دستور عام 1930 الذي اقتصر على ذكر "الجمهورية السورية"من دون إطلاق صفة العربية على الدولة الناشئة. أمّا دستور عام 1950، فقد تمّ تبنّيه من طرف الجمعية التأسيسية المشكّلة ديمقراطياً في26 تشرين الثاني/ نوفمبر1949. وعلى الرغم من ديمقراطية اعتماده وأيضاً تركيزأحكامه على حقوق المواطنين وسُلطة الشعب[3]، الا أنه كانعرضة للكثير من الانتقادات ولاسيما من ناحية تحديده لهوية الدولة الثقافية وخاصة العروبة[4]. فتنصّ مقدمة هذا الدستور على العبارة التالية "نحن ممثلي الشعب السوري العربي (…)". وتتكرر نفس هذه العبارة في المقطع الأخير من مقدمة الدستور والذي يُشير أيضاً بأنّ "هذه المقدمة جزء لا يتجزأ من هذا الدستور". أمّا المادة الأولى منه، فتشير إلى أنّ "سورية جمهورية عربية ديمقراطية" وأنّ "الشعب السوري جزء من الأمة العربية" وتعتبر المادة الرابعة بأنّ العربية هي اللغة الرسمية، دون أية إشارة إلى اللغات الأخرى كالكردية أو السريانية. كما يبرز الطابع الأيديولوجي القومي العروبي في نصوص متعددة من دستور عام 1950، ومنها ما جاء في المادة 75 المتعلقة بقسم اليمين من طرف رئيس الجمهورية الذي يجب أن يلتزم فيه بالعمل "على تحقيق وحدة الأقطار العربية"[5].
وقد شهدت حقبة الخمسينات وما تلاها مجموعة من الانقلابات العسكرية التي تخللها تعطيل العمل بدستور عام 1950 وأيضاً اعتماد تعديلات دستورية واستصدار دساتير مؤقتة بدأت تهيمن عليها تصاعدياً أفكار القومية العربية. كما توقف العمل مجددا بدستور عام 1950 إبان عهد الوحدة مع مصر، وإعلان "الجمهورية العربية المتحدة"، حيث اُعتمد فيها دستور مؤقت استمر إلى تاريخ الانفصال عام 1961، أعيد بعدها العمل بدستور عام 1950 بعد إجراء بعض التعديلات عليه، ولاسيما تسمية "الجمهورية العربية السورية" بدلاً من "الجمهورية السورية". وقد أُطيح بهذا الدستور نهائياً عام 1963 على إثر الانقلاب العسكري، المعروف باسم "ثورة الثامن من آذار"، الذي قادته مجموعة من الضباط البعثيين ولاسيما الرئيس الراحل حافظ الأسد. فاعتمدت هذه السلطة الجديدة بعض الدساتير المؤقتة التي تهيمن عليها أفكار حزب البعث العربي الاشتراكي كان آخرها دستور عام 1973 والذي استمر العمل به حتى عام 2012، أي الى ما بعد عام من تاريخ انطلاق الاحتجاجات الشعبية ضد الاستبداد.
العروبة في دستور 1973
تبرز بشكل واضح هيمنية الأيدلوجيا البعثية العروبية على دستور عام 1973، الذي كرّس نظام الحزب الواحد المهيمن على مختلف مفاصل الحياة. فقد طبعت إيدلوجيا الحزب الحاكم العديد من المواد الدستورية، ولاسيما المادة الأولى التي اشتملت على مصطلحات "عروبية" عديدة منها "دولة اتحاد الجمهوريات العربية"، "الجمهورية العربية السورية"، " القطر العربي السوري"، " الوطن العربي"، "الامة العربية". كما ألغت مادته الثامنة التعددية السياسية بنصّها صراحة على أنّ "حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة اهداف الامة العربية". ويهدف نظام التعليم والثقافة، بحسب المادة 21 من هذا الدستور، " إلى انشاء جيل عربي قومي اشتراكي علمي التفكير مرتبط بتاريخه وارضه معتز بتراثه مشبع بروح النضال من اجل تحقيق اهداف امته في الوحدة والحرية والاشتراكية (….)". وتعتبر المادة 23 بأن "الثقافة القومية الاشتراكية اساس بناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد وهي تهدف الى تمتين القيم الاخلاقية وتحقيق المثل العليا للامة العربية (….)". أمّا القسم الدستوري، وكما جاء في المادة السابعة، فيلزم بالعمل "لتحقيق اهداف الامة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية". وقد انسحب هذا الالتزام على القوات المسلحة ومنظمات الدفاع الاخرى التي تكون مسؤولة، بحسب المادة 11، "عن سلامة ارض الوطن وحماية اهداف الثورة في الوحدة والحرية والاشتراكية"[6]. وحتى الأحكام القضائية تصدر، بحسب المادة 134، "باسم الشعب العربي في سوريا".
وقد امتد تأثير هذه النصوص الدستورية على مختلف مناحي الحياة التشريعية والسياسية والاجتماعية وحتى الاقتصادية. فقد كان من أهم ملامح العقود الماضية اضطهاد غير العرب بشكل أساسي، ولكن أيضاً غير البعثيين أو المؤيدين للنظام الحاكم ولأيدلوجيته. ونذكر على سبيل المثال تجريم أي قول أو فعل من شأنه مناهضة تحقيق الوحدة بين الأقطار العربية أو أي هدف من أهداف الثورة[7]. وقد حُرم الأكراد والسريان من تعلم لغتهم وأحياناً التخاطب بها، بالإضافة إلى تعرضهم لأوجه تمييز عديدة شملت الحرمان من المناصب العامة والتمييز في إطار العمل والتعليم وحرمان آلاف الأكراد من الجنسية السورية، الخ.
دستور عام 2012 وهوية الدولة
بقي دستور عام1973 سارياً حتى انطلاق الثورة السورية في آذار/ مارس2011 ، حيث اعتمد نظام الأسد دستورأً جديداً، في الشهر الثاني من عام 2012، في إطار ما يعرف "بإصلاحات النظام"، سعياً منه إلى التخفيف من حدّة التوتر السياسيوإعادة استقراره وتأمين استمراره في السلطة. ومع ذلك جاء نصّ هذا الدستور الجديد مخيباً للآمال، ليس فقط من خلال تكرار أغلب ما ورد في الدستور السابق، خاصة من ناحية نظام الحكم وإمكانية تجديد السلطة لبشار الأسد لولايتين أخريين، إنما أيضاً من خلال طريقة صياغته الآحادية والاستفتاء عليه الذي يفتقر لأدنى معايير النزاهة في ظل من القمع والتنكيل بغير المؤيدين واستمرارالعمليات العسكرية وغياب الحلّ السلمي. فقد حافظَ النصّ الدستوري الجديد على أيديولوجيا النظام البعثي الحاكم وعلى طريقته في إدارة السلطة وذلك على الرغم من التراجع عن المادة الثامنة التي كانت تُشير الى أنّ "حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع". فيشهد الدستور الجديد، كحال دستور عام 1973، على تأثير أيديولوجيا القومية العربية، من ناحية، و الدين[8]، من ناحية أخرى.
هذا وينصّ الدستور الجديد في مقدمته: "تعتز الجمهورية العربية السورية بانتمائها العربي، وبكون شعبها جزءاً لا يتجزأ من الأمة العربية مجسدة هذا الانتماء في مشروعها الوطني والقومي، وفي العمل على دعم التعاون العربي بهدف تعزيز التكامل وتحقيق وحدة الأمة العربية."ويكرر الدستور السوري المصطلحات العروبية الواردة في دستور عام 1973، بل ويضيف عليها مصطلحات مثل "الحضارة العربية" "الدور العربي السوري"، "قلب العروبة"، الخ. والمادة الرابعة تؤكّد بأن "اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة"، دون الإشارة إلى اللغات الأخرى والحقوق الثقافية للناطقين بها. أمّا المادة السابعة المتعلقة بالقسم الدستوري فقد استمدت صياغتها أيضاً من الدستور السابق في إشارة إلى ضرورة العمل من أجل تحقيق "وحدة الأمة العربية".
صحيح أنّ اعتبار العروبة كأساس أيديولوجي جامع لكل القاطنين في العالم العربي قد نجح في توحيد صفوف المسيحيين والمسلمين خاصة في منتصف القرن الماضي وفي فترات النضال ضد الاستعمار، إلا أنّ هذه الأيدلوجيا أثبتت عجزها لاحقاً عن تعزيز مبدأ المواطنة وتحقيق اندماج المنتمين للأقليات غير العربية، كما أنها لم تحقق حتى اليوم أياً من أهدافها وجلبت لقاطني هذه المنطقة الكثير من أعمال الاضطهاد تحت مسميات الشعارات التي رفعتها الأحزاب السياسية الحاكمة والعاملة بأسمها. كما أدّى تأثير التشريعات الدينية وإقامة الصلة بين الدين والدولة إلى انتهاك حقوق أتباع الديانات غير االمسلمة كما سبق وبيناه في مقال سابق[9]. وبالتالي تتشابه أيدلوجية العروبة مع ما يمكن أن نطلق عليه ″الإسلاموية″ من حيث أنّ الأولى ساهمت بانتهاك حقوق غير العرب والتأثير سلباً في اندماجهم بينما عانى غير المسلمين أو حتى غير الإسلاميين من الثانية. وفي هذا الإطار، تتعالى الأصوات من أجل تجريد الدولة من الأيديولوجيا، سواء أكانت الدينية أو القومية لصالح إقامة الدولة المدنية التي تقدّم خدماتها للمواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية. وهذا الأمر ينسحب حتى على المطالبين بالانفصال كبعض الأكراد، من حيث أنّ إقامة دولة على أساس عرقي سيؤدي حتماً إلى التمييز ضد غير الأكراد ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية. وفي هذا الإطار، يُطرح تساؤل عن ماهية الهوية الوطنية الجامعة للسوريين، ومدى إمكانية تعزيز النزعة الوطنية على أساس مبدأ المواطنة الانسانية أي الانتماء إلى سوريا أولاً واحترام التعددية الأثنية والدينية فيها مع تعزيز التكافل الانساني تجاه شعوب المنطقة العربية وتطوير التعاون المشترك بينها كحال العقد المبرم بين دول الاتحاد الآوروبي.
للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك الضغط هنا
[1]أنظر محمد جمال باروت، المؤتمر السوري العام (1919-1920): الدستور السوري الأول، في: الدستور في الفكر العربي الحديث : تواريخ وقضايا،
جريدة تبين، العدد 3، المجلد الأول، شتاء 2013، ص 23-24.
[3]وذلك على عكس دستور عام 1930 الذي يعود تبنيه بشكل أساسي إلى الإرادة المنفردة لسلطة الانتداب الفرنسي.
[4]تجدرالإشارة إلى الأصوات السورية المعارضة العديدة التي تنادي بالعودة إلى دستور عام 1950، إلا أننا لا نتفق معهم في ذلك. فليس هيمنة الأيدلوجية القومية والدينية على هذا الدستور مبعثا لرفضه فحسب، ولكن صياغتهوتبنّيه كان قد سبق مصادقةسورياعلىالمواثيقالدوليةلحقوقالإنسان، وبالتاليينبغياليومصياغةدستورجديديُكرّسالتزاماتسوريا بهذهالمواثيق ويتماشى مع روح العصر ومع التطورات السياسية المختلفة التي شهدتها سوريا مؤخراً. كما ينبغيإدراج ضمانا دستورية لتجنب تكرار الانتهاكات المُمنهَجةلحقوقالانسان التي شهدتها العقود الأخيرة الماضية، كالاختفاءالقسريّالذيزادتمنتعقيداتهحصانة الأجهزةالأمنية
.
[5]أنظر أيضاً المادة 46 التي تتضمن على نصّ مشابه متعلق بقسم اليمين للنواب.
[6]يتعلق هذا القسم بكل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ونوابه والوزراء ونوابهم وأعضاء مجلس الشعب. أنظر المواد الدستورية التالية : 63، 90، 96، 116.
[7]أنظر على سبيل المثال قانون مناهضة أهداف الثورة الصادر بموجب المرسوم التشريعي رقم /6/ بتاريخ 7 كانون الثاني/يناير 1965 وأيضاً اختصاصات محكمة أمن الدولة العليا المنشئة بموجب المرسومرقم/47/ لعام
1968.
[8]أنظر للكاتب، قضايا جدلية في الدستور السوري (1): نحو دستور لجميع السوريين، الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية، 25-8- 2014.
متوفر من خلال: