قضاة يغادرون القضاء: كيف نفهم “أصعب القرارات”؟

،
2024-09-17    |   

قضاة يغادرون القضاء: كيف نفهم “أصعب القرارات”؟

تعدّدت عوارض الأزمة اللبنانية داخل القضاء، وقد درسنا بعضها في الأوراق السابقة، إلّا أنّه بقي أمامنا عارضٌ قد يكون الأهمّ والأكثر تعبيرًا عن وضع القضاة اليوم، حتى ولو ما زال حجمه متواضعًا بالنسبة لأعداد القضاة الذين طالهم. نحن نتكلّم هنا عن الحلّ الجذريّ الذي يدفع قاضيًا إلى ترك القضاء بعد أن أمضى جزءًا مهمًّا من عمره داخله. إنّها ظاهرة استقالة القضاة منذ 2020، حتى ولو أخذت في بعض الأحيان شكلًا تمهيديًا ضمن حلول مؤقّتة يسمح بها القانون (أنظر أدناه). وقد وصل عدد الاستقالات في القضاء منذ أربع سنوات، إذا استثنينا الاستقالات المرتبطة بملفات تأديبية، إلى عشرين استقالة تقريبًا كما علمت “المفكرة القانونية”، معظمها مرتبط بتدهور أوضاع القضاة المادية والنفسية في الفترة الماضية. إلّا أنّ المشكلة الحقيقية أكبر من ذلك بكثير، كما سنرى في هذه الورقة.

نحن نقصد هنا طبعًا الاستقالات أو حالات ترك القضاء الأخرى وإن بشكل مؤقّت، التي تختلف عن الحالات الفردية التي كنّا نراها كلّ سنة بين صفوف القضاة لأسباب مختلفة قد تكون مرتبطة بأوضاع شخصيّة معيّنة أو بملاحقات تأديبية يتجنّبها القاضي عبر ترك القضاء. استقالات لجأ إليها بعض القضاة لأنّهم لم يعودوا يجدون في القضاء ما يلبّي طموحاتهم المعنوية والمهنية وحاجاتهم المادية، فقرّروا اختيار مسارات مهنيّة أخرى تؤمّن لهم ما لم يعد القضاء قادرًا على تأمينه. والقضاة الذين استقالوا فعليًا منذ 2020 هم قلّة بالنسبة لعدد القضاة الذين تراودهم فكرة الاستقالة بشكل جدّي متى سنحت لهم فرصة عمل لائقة خارج القضاء. وتبدو هذه الظاهرة خطيرة لدرجة أنّه قد يصحّ وصف القضاء اليوم في لبنان بأنّه مجموعة من القضاة بعضهم استقال وبعضهم يفكّر في الاستقالة وبعضهم يحلم بها وبعضهم يائس من الحصول عليها بسبب غياب الظروف المناسبة. إنّه قضاء قضاته العاملون معظمهم “على وشك الاستقالة”، ينظرون بتحسّر حينًا وبإعجاب أحيانًا نحو القضاة المحظوظين الذين تجرّأوا، أو سمحت لهم الظروف بمغادرة قضاء باتت معركته تبدو خاسرة للعديد منهم.

نوّد الإشارة هنا إلى أنّ قانون الموظّفين يمنح الموظّفين كما القضاة[1] عددًا من الأوضاع القانونية التي يمكن أن يلجأوا إليها لمدّة محدّدة في حال كانوا في حاجة إلى “استراحة” من القضاء، وللاستفادة من تجارب مهنيّة أو شخصية أخرى، مثل “الوضع المؤقّت خارج الملاك”[2] أو “الاستيداع”[3]، الأمر الذي عاينّاه بالفعل خلال مقابلاتنا مع قضاة في مختلف هذه الأوضاع القانونية، لكن جميعهم يتشارك الإرادة في ترك القضاء. وتتيح هذه الحلول للقاضي اليوم، وبعكس هدفها الأصلي، تحضير نفسه ماديًا ونفسيًا قبل اتخاذ القرار الكبير، وهو غالبًا ما يكون قرار الاستقالة في السنوات الأخيرة. فقد فضّل العديد من القضاة في السنوات الأولى للأزمة عدم قطع الصلة بينهم وبين القضاء كليًا ومباشرة، حتى ولو حصلوا على فرصة عمل أخرى، فأعطوا أنفسهم فترة سماح، أملًا ربما في تحسّن وضع القضاء أو لحفظ طريق العودة، أو للتخفيف من حدّة التغيير الكبير في حياتهم. وتشمل كلمة “الاستقالة” كما نستعملها في هذه الورقة، وكذلك عبارة “القضاة المستقيلين”، جميع حالات ترك القضاء بشكل نهائي، من دون التوقف عند التمييز التقني القانوني بين “الاستقالة” و”إنهاء الخدمة بناءً لطلب القاضي”[4]. في جميع الأحوال وكما سبق وقلنا، إنّ أرقام الاستقالات الرسمية خلال السنوات الأربع الأخيرة لا تعبّر عن حقيقة الوضع وحجم المشكلة.

كما أنّ لهذه الاستقالات أثرٌ واضحٌ على المؤسّسة القضائية، فهي تضخّم مشكلة النقص المهمّ في عدد القضاة. والعدد الإجمالي للقضاة قليل نسبيًا في لبنان، لذلك فإنّ كلّ موجة استقالات، حتى وإن بدا حجمها متواضعًا، تؤثّر بشكل ملحوظ على قدرة القضاء على تلبية متطلّبات العدالة. وظهر ذلك بوضوح في شغور عدد كبير من المراكز القضائية، أبرزها رئاسة غرف محكمة التمييز ورئاسة غرف استئناف في بيروت والمناطق، وبالتالي تعاظم ظاهرة انتداب القضاة بشكل مفرط في مركزين أو ثلاثة فضلًا عن مراكزهم الأساسية، الأمر الذي يرهقهم ويشتت انتباههم ويؤدي الى تكدّس الملفات والبطء في البت بها. وتضاف ظاهرة استقالة القضاة إلى مشكلة عدم تنظيم مباريات دخول إلى القضاء منذ بضع سنوات، إضافة إلى إحالة عدد معيّن من القضاة إلى التقاعد كلّ سنة بشكل طبيعي: تتضافر إذًا هذه العوامل الثلاثة لتعطّل بشكلٍ جدّي عمل القضاء اللبناني، فيما البلد والناس هم بأمسّ الحاجة إليه.

نحاول في هذه الورقة أن نبحث في ظروف وخلفيات وتبعات هذا القرار الصعب الذي تأخذه القاضية. فهل هي المرة الأولى التي يلجأ فيها القضاة في لبنان إلى استقالات تتعدّى الحالات الفردية المعتادة، للتعبير عن استيائهم من الأوضاع القضائية السيّئة؟ كيف يأخذ القاضي قرارًا كهذا، بماذا يفكّر ومن يستشير، وما الذي يدفعه إلى حسم أمره بعد طول تردّد، أو يمنعه من ذلك؟ وماذا يحصل مع القاضي عندما يترك المهنة القضائية التي أمضى فيها سنوات عديدة، نحو مهن أخرى طبيعتها مختلفة جدًا؟ هل يندم القضاة الذين ذهبوا، وكيف ينظرون إلى السنوات التي أمضوها في القضاء، وإلى زملائهم السابقين الذين لا يزالون قضاة في بلد منهار؟ أسئلة، سنحاول الإجابة على بعضها في الصفحات التالية، علّنا نساهم في فهم ظاهرة باتت تهدّد أيّ إمكانية لتعافي القضاء مستقبلًا في لبنان.

ظاهرة تذكّر باستقالات القضاة بعد الحرب

ليست المرّة الأولى التي يرى فيها اللبنانيون قضاتهم يقدّمون استقالاتهم الواحد تلو الآخر. يعيدنا المشهد اليوم إلى الفترة الممتدّة من أواخر ثمانينيات حتى أوائل تسعينيات القرن الماضي، عندما بدأ القضاة يفقدون الأمل في تحسين أوضاعهم بعد الحرب، وفي رؤية توجّهات إصلاحية لسياسة الدولة القضائية ما بعد الطائف، فأتت استقالات القضاة جماعية[5] وفردية، بعضها ذهب إلى خواتيمه بينما لم تُقبَل بعض الاستقالات الأخرى.

 ومن الملفت للنظر تشابه أسباب هذه الاستقالات بين الأمس واليوم، وأبرزها انهيار العملة الوطنية حينذاك ومعها قيمة رواتب القضاة، بالإضافة إلى تدهور معنويات القضاة لأسباب عديدة ليس أقلّها ضعف سلطان الدولة نتيجة الظروف التي مرّ بها لبنان. هم لم يشعروا آنذاك، كما اليوم، أنّ دولة ما بعد الحرب مهتمّة ببناء قضاء مستقلّ وفعّال. وتُظهِر دراسة الأرشيفات الصحافية لتلك الفترة كيف أنّ قضاة لبنان كانوا يشكون، مثل قضاة اليوم، من أنّ الاحترام الذي كان يشعر به القاضي لم يعد قائمًا، وأنّ الناس بدأوا ينظرون إلى القاضي وكأنّه موظّف يقبض راتبه من دون تأدية خدمات جدّية للدولة والمجتمع.[6] وكان قد عبّر القضاة عن هذين الشقين المادي والمعنوي في نصوص استقالاتهم، واصفين واقعهم بأنّه واقع “الجوع للرغيف والكتاب”[7].

والواضح هنا بالنسبة لنا هو تقارب هذه الهموم القضائية في بداية التسعينيات مع هموم العديد من القضاة الذين قابلناهم اليوم، سواء لناحية المشاكل المادية، أو بخاصّة من ناحية الشعور العارم بفقدان احترام الناس والمؤسّسات الأخرى، وعدم اكتراث السلطتين التنفيذية والتشريعية لمصير القضاء في لبنان. يتولّد عن هذه العوامل إحباط عميق دفع العديد منهم إلى ترك القضاء، فيما جعل من مسألة الاستقالة قضية مركزية في أذهان القضاة الصامدين منذ أربع سنوات. وتسمح لنا هذه المقارنة بالاستفادة ممّا حصل قبل ثلاثين عامًا من أجل فهم أفضل للأزمة القضائية الحالية وسبل الخروج منها، من دون تكرار أخطاء التسعينيات عندما ركّزت السلطة السياسية على حلول مادية فقط للحدّ من ظاهرة استقالات القضاة (مثل تفعيل صندوق تعاضد القضاة)، مع إهمال واضح للبعد المعنوي والسياسي المتعلّق باستقلال القضاء اللبناني وفعاليّته. وهو ما دفعنا ثمنه غاليًا في العقود الثلاثة اللاحقة وصولًا إلى الانهيار القضائي الحالي. كما تُمكّننا هذه المقارنة من عدم الاستسلام لهذا الواقع اليوم، وبالنظر إلى ظاهرة الاستقالات وإلى الوضع القضائي العام بشيء من النسبية تضع الواقع الحالي الرديء ضمن تاريخ قضائي طويل مليء بالفترات السوداء والبيضاء، للاقتناع بأنّ ثمّة حلولًا ممكنة ومخارج مقنعة من الأزمة الحالية.

إلّا أنّه إذا كان هناك تشابه على صعيد دوافع الاستقالة المادية والمعنوية، يبقى من الملفت أنّ أسلوب الاستقالة الذي لجأ إليه القضاة حينها يختلف جذريًا عن أسلوب استقالة القضاة الحاليين. فلا يمكن إلّا التوقّف عند طريقة تقديم القضاة استقالاتهم[1]  في بداية التسعينيات، عبر نصوص احتجاجية واضحة وجّهوها إلى وزير العدل أو الحكومة أو حتى الرأي العام، اختاروا نشرها أحيانًا[8]. ومن أبرزها نصّ استقالة القاضي منيف حمدان، الأمين العام للجنة القضائية الشهيرة في الثمانينيات[9]، أو نصّ استقالة القاضي جوزيف غمرون التي ما زال القضاة يتداولون به حتى اليوم.[10] وقد احتلّت هذه الاستقالات حيّزًا من النقاش العام وكانت موضوع تداول إعلامي في ذلك الوقت، كما تمّت مناقشتها في المجلس النيابي.[11]

وعليه، نلاحظ أنّ الاستقالات التي حوّلها القضاة آنذاك إلى أسلوب احتجاجي على لامبالاة السلطة السياسية وذلك في خروج سافر عن التفسيرات المحافظة لموجب التحفّظ والسائدة آنذاك، تختلف جذريًا عن أسلوب استقالة قضاة اليوم، بالرغم من الانحسار الذي شهده هذا المفهوم في السنوات الأخيرة بعد إنشاء نادي قضاة لبنان. فقضاة الأزمة الحالية يذهبون بصمت (بالرغم من تناول الاستقالات في بعض المقالات الصحافية هنا وهناك)، بعيدًا عن الأضواء، وكأنّ ظلام قصور العدل يرافقهم حتى في رحيلهم، أو كأنّه لم يعد لديهم الطاقة حتى على مخاطبة السلطة أو أصحاب النفوذ لحظة مغادرتهم. ولا شك أنّ هذا الاختلاف الكبير في أسلوب الخروج من القضاء هو أكثر ما يقلقنا اليوم، إذ أنّنا لم نعد نجد الحماسة والاندفاع اللذين ميّزا قضاة بداية التسعينيات حتى في استقالاتهم، بينما يظهر أنّ قضاة اليوم لا يطلبون سوى “السّترة”، ولا يريدون سوى مغادرة قضاء خذلهم وخيّب آمالهم بأسرع طريقة، بدون اعتراض أو مطالبة. تظهر استقالات التسعينيات كاستقالات مواجهة وانتفاضة للدفع إلى تحسين الأوضاع القضائية آنذاك. وتُرجم ذلك فعليًا في خطوات جدّية اتخذتها وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى في حينها والتي سمّيت “سياسية وقف النزف القضائي”[12]، ومن ثمّ عودة بعض القضاة المستقيلين عن استقالاتهم. فيما تعبّر الاستقالات اليوم عن إرادة واضحة بترك القضاء، التي لا يفسّرها سوى اليأس الكلّي من إمكانية إصلاح الأوضاع المادية والمعنوية. تبدو استقالات الأزمة اللبنانية الحالية وكأنّها استقالات الانسحاب الهادئ و”الروحة من دون رجعة”، ولا ذكرى.

القضاة المستقيلون: بعض الخصائص لفهم أفضل

نلاحظ أوّلًا أنّ قضاة عدّة التقيناهم خلال بحثنا، ممّن تركوا القضاء بعد 2020 مرحليًا أو نهائيًا، يتشاركون ميزة قد تساهم في تفسير قدراتهم على اتخاذ القرار الصعب، إذ كانوا قد أقدموا على خطوة مماثلة في سنوات 2010-2020، وإن كانوا قد غيّروا رأيهم بعدها وقرّروا العودة إلى القضاء. ففي السنوات العشر التي سبقت بداية الأزمة في لبنان، شاهدناهم يتركون القضاء لبضعة أشهر، أو لسنة أو سنتين، للالتحاق بالمحاماة، أو العمل الاستشاري، محلّيًا أو دوليًا، أو لإتمام تخصّصهم القانوني. وهم غالبًا ما برروا أمامنا هذه المغادرة المؤقّتة حينذاك، بكونهم لم يكونوا راضين عن أوضاع القضاء كما أصبحت في سنوات ما قبل الأزمة، سواء بسبب تعاظم التدخّلات السياسية في العدلية أو بسبب غلاء المعيشة، أو بسبب اضمحلال الأفق الفكرية والمهنية المتاحة أمام القضاة في العقد أو العقدين اللذين سبقا الأزمة. بمعنى آخر، إنّ لبعض القضاة الذين تركوا القضاء اليوم “سوابق”، أو استعداد، فيما يخصّ التعبير عن عدم الرضى من الأوضاع القضائية لدرجة المغادرة، إذ سبق لهم أن بنوا نتائج عملية على إحباطهم أو خيبتهم، فأتت الأزمة وحسمت الأمر دافعةً بهم نهائيًا خارج القضاء. واعترف بعضهم بالتحضير لإمكانية الاستقالة منذ زمن طويل، حيث شعروا بأنّهم غير “منسجمين مع الجو القضائي” الذي بدأ يخيّم على العدلية في العقد الأخير، فحضّروا أنفسهم لسنوات حتى أتت الأزمة وأكدت لهؤلاء أنّ توجّههم صائب.

“درست وحضّرت حالي أكاديميًا وما كان هذا traditional (تقليديًا) ينعمل بالقضاء، منّك بحاجة لتعمل اللي أنا عملته، ولكن أنا عملته ليومًا ما يكون عندي الإمكانية فلّ”.[13]

“مع الجوّ العام للتشكيلات، حسّيت الأمور مش رايحة عالمحل الصحيح. قراري بالتركة كان تدريجي، ولهيك أصلًا رحت أوّل مرة (قبل الأزمة، ولفترة محدودة، ثم عدت)، والأزمة دفعتني لأخذ القرار (النهائي)”.[14]

“الوضع المادي، وأنا لديّ عائلة وأولاد، كان قد دفعني إلى ترك القضاء نحو المحاماة لبضعة أشهر (قبل الأزمة)، ثم قررت العودة”.[15]

وإن دلّ ذلك على شيء، فعلى أنّ أسباب ترك القضاء بالنسبة للعديد من القضاة لم تبدأ ولم تولد مع بداية الأزمة اللبنانية عام 2020. فالعديد من هذه الأسباب بدأ يتطوّر ويتفاقم داخل الجسم القضائي على الأقلّ مع بداية الألفية الجديدة، أي ما يقارب عشرين عامًا قبل الانهيار اللبناني: ضائقة مالية للقضاة الذين لديهم عائلات وأولاد (عالجت جزءًا منها تحسينات 2011، وإن بشكل محدود)، ضائقة معنوية للقضاة الذين يطمحون إلى قضاء مستقل وشفّاف، أو الإثنين معًا، إلخ. ويلقي ذلك الضوء على عوامل الاستمرارية فيما يخصّ مشاكل القضاء بين ما قبل الأزمة وما بعدها، وهو ما سنسلّط الضوء عليه في مكان آخر.

ومن اللافت، متى درسنا جداول القضاة المستقيلين منذ 2020 لأسباب غير الملاحقة التأديبية، أنّ الأسماء تتوزّع بشكل شبه متوازن بين الجنسين،[16] كما بين مختلف الفئات العمرية،[17] ما يوحي للوهلة الأولى بأنّه ليس للعوامل الجندرية أو العمرية دورًا يُذكر في تفسير الاستقالات. وإذا كان للفئات المتوسّطة (40-55 سنة) وزن أكبر بقليل من وزن الفئات الأخرى، يمكن تفسير ذلك قانونًا بإتمام هؤلاء القضاة فترة العشرين سنة من الأقدمية في القضاء، حيث يمكن لهم بعد هذه المدة إنْ استقالوا، الاستمرار بالاستفادة من تقديمات القضاء الصحية والمدرسية والراتب التقاعدي. وهو ما يجعلنا نتوقع زيادة في أرقام الاستقالات القضائية في الفئة العمرية المعنية بهذه المسألة في السنوات القليلة المقبلة، إن لم يحصل القضاة على ضمانات ودوافع تشجّعهم على البقاء. أما القضاة الأصغر سنًّا والبعيدون عن إتمام فترة العشرين سنة، فلا ينطبق عليهم هذا المعيار، إذ قد يكونون غير مهتمّين بإمضاء سنوات كثيرة وطويلة في القضاء، في الوضع الحالي، للوصول إلى هذه المدة المفصلية.

طبعًا، هناك ملاحظتان يمكن تدوينهما على هذا الصعيد قبل بناء استنتاجات قد تكون خاطئة. الملاحظة الأولى منهجية، إذ أنّنا لم نتمكّن من مقابلة جميع القضاة الذين قدموا استقالاتهم خلال السنوات الأربع الأخيرة، ما يمنعنا من أن نفهم بشكل معمّق دوافع استقالة كلّ قاض من هؤلاء، وهو ما قد يعيد للعوامل الجندرية والعمرية أو حتى الاجتماعية بعض الوزن في معادلة فهم منطق الاستقالة اليوم.

أمّا الملاحظة الثانية، فهي أنّ عدد الاستقالات الرسمية التي اطّلعنا عليها لا يعبّر عن حقيقة ظاهرة ترك القضاء اليوم، إذ أنّ عددًا من القضاة تركوا القضاء مؤقتًا، ولكن لم يستقيلوا رسميًا بعد، بل استفادوا من الوسائل الأخرى المتاحة لهم ليبتعدوا سنة أو سنتين عن الجسم القضائي، فلم تبلغ بعد استقالاتهم مراحلها النهائية، ما يمنع هنا أيضًا الوصول إلى إجابات كاملة.

وحتى إذا صحّت فرضية تمثيل مختلف الفئات القضائية في لائحة القضاة المستقيلين أو العازمين على الاستقالة، إلّا أنّ أسباب الخروج من القضاء ليست بالضرورة نفسها، كما تظهر المقابلات التي أجريناها. ترك القضاة الشباب القضاء خوفًا على مستقبل لم يبنَ بعد، وعلى مسار مهني لم ينطلق فعليًا، إذ أنّ الاستقالة تساهم في إبقاء المساحات المهنية الأخرى متاحة أمامهم، فما زال لديهم الوقت، والليونة، لتعلّم قواعدها وإتقانها. ولا شكّ أنّ الرغبة في المغامرة تكبر لدى هذه الفئة الشابة من القضاة، إذ لا مسؤوليات عائلية كبيرة لديهم إجمالًا، ولا مجازفة كبيرة يقومون بها عند الاستقالة، علمًا أنّه كان من المفترض أن يكون هؤلاء الشباب مندفعين ليصبحوا قضاة أصيلين جيّدين، فيبنون قضاء مختلفًا في لبنان، إلّا أنّهم بدلًا من ذلك يحسبون كلّ يوم منافع ومساوئ مغادرة القضاء نهائيًا. فأيّ قضاة سيصبح هؤلاء في حال قرّروا البقاء؟ ومن الممكن توقّع ازدياد نسبة الاستقالات في هذه الفئة العمرية الشابة في السنوات المقبلة، إضافة إلى التراجع الكبير في رغبة طلّاب الحقوق في الانتساب إلى القضاء. ولا بدّ هنا من أن نشير إلى حادثة رواها لنا أكثر من قاضٍ، وكان لها وقع سلبي لدى بعض القضاة الشباب، حيث يروي لنا أنّ أحد كبار المسؤولين القضائيين توجّه بعد بداية الأزمة وانهيار أوضاع العدلية إلى القضاة المتدرّجين المشتكين، أثناء تواجده في معهد الدروس القضائية، قائلًا: “اللي مش عاجبه، يفلّ”،[18]ما أقنع بعض القضاة أنّ الهرمية القضائية لا تأخذ أوجاعهم على محمل الجدّ، ولا داعٍ بالتالي للتضحية لوقت أطول.

أما داخل الفئة العمرية المتوسطة، فلا شكّ أنّ الاستقالات قد ارتكزت من ناحية على الهشاشة المادية الكبيرة التي وجد القضاة أنفسهم فيها منذ أربع سنوات، كما على انسداد الأفق المهني والإصلاحي في القضاء. إلّا أنّ ثمن الاستقالة أكبر بالنسبة لهؤلاء القضاة الذين لدى معظمهم عائلات وأولاد لا يمكن المجازفة بمصيرهم عبر استقالة غير محسوبة  ٍ، لا يتبعها وظيفة تؤمّن مردودًا ماديًّا مضمونًا وكافيًا، وهو ما سمعناه من قضاة عدّة من هذا الجيل. وأمّا الفئات العمرية الأكبر سنًّا، فلا شك أنّها الأكثر بعدًا عن الاستقالات على المدى المتوسط والبعيد (قاضٍ واحد مولود في الستينيات استقال مثلًا)، ويمكن تفسير ذلك بقرب موعد التقاعد، وبضيق الأفق المهني خارج القضاء بالنسبة للعديد منهم وصعوبة الانطلاق بمسارات مهنية جديدة في هذه الأعمار المتقدّمة نسبيًا.

“هناك أيضًا مسألة العمر، فنحن قضاة أصبحنا في عمر معيّن وها نحن نودّ أنّ ننطلق بمهن جديدة، وهو أمر صعب جدًا لقضاة عمرهم 50 أو حتى 40 عامًا، وقد بقوا في مهنة واحدة لسنوات طويلة”.[19]

وهناك ميزة أخرى للقضاة المستقيلين، على الأقلّ بين الفئات العمرية الشابّة أو المتوسطة، وهي “قدرتهم” على تأمين فرص عمل لائقة. وبالقدرة نعني هنا، وسنعود لاحقًا إلى هذه المسألة، الخصائص الاجتماعية والمهنيّة لقاضية ما، تسمح لها بالقيام بهذه الخطوة التي تبدو مستحيلة عمليًّا بالنسبة للعديد من الزملاء. والخصائص الاجتماعية هذه، التي وجدناها في بحثنا الميداني عند قضاة عدّة قرّروا ترك القضاء، تعني مثلًا حيازتهم شهادات عليا من جامعات معروفة، والتركيز على التكوين المستمرّ سواء عبر شهادات حصل عليها القاضي خلال مساره القضائي، أو عبر علاقات شخصية مهنية تمكّن من تنميتها خلال السنوات الماضية عبر الخروج من القضاء لسنة أو سنتين كما سبق ورأينا، أو عبر رأس المال الاجتماعي والعائلي الذي قد يتمتّع به القاضي. وقد منحتهم هذه الخصائص فرصًا داخل أفلاك مهنية مختلفة وبعيدة أحيانًا عن القضاء (عالم الأعمال، العالم الجامعي، عالم المنظمات الدولية، إلخ..) لم يحظَ بها زملاؤهم الذين أبعدتهم عواملهم الشخصية التي تناولناها في الورقة السابقة أو مساراتهم المهنية عن هذه الدروب، فوجدوا أنفسهم سجناء عالمهم القضائي الذي أصبح يضيق بهم ويخنقهم.

تبريرات الرحيل

من البديهي أنّ تراجع وضع القضاة المادي، وهو ما تناولناه سابقاً بشكل موسّع، هو أحد أبرز الدوافع لاستقالاتهم. شعر القضاة المستقيلون الذين التقيناهم أنّ عملهم لم يعدْ له مقابل ماديّ: يعملون شبه “مجانًا” (سمعنا العبارة في مطلع 2023)، لا وبل يتكبّدون تكاليف العمل لناحية اللوازم اللوجستية من قرطاسية وكهرباء وتنظيف وغيرها، أقلّه في سنوات الأزمة الأولى. من الواضح إذًا أنّ الضرورة المادية فرضت على بعض القضاة الاستقالة من أجل تأمين معيشتهم اللائقة.

إلّا أنّ اللافت اليوم هو تعاظم العنصر المعنوي خلف قرار بعض القضاة الخروج من القضاء. اقترن الوضع المادي بالوضع المعنوي المنحدر للقضاة، لا سيّما على صعيد الضغط النفسيّ الذي يتركه العجز عن تلبية توقّعات الناس في إحقاق الحق، وبالتالي الشعور بتغيّر نظرة الناس لهم وتراجع ثقتهم في أنفسهم، ما دفع بعضهم إلى أخذ “استراحة” مرحلية أو دائمة من كلّ هذه الضغوطات التي باتوا يمرّون بها كقضاة.

“أنا مش الوضع المادي يلّي خلاني فلّ، أنا أولادي كانوا أنهوا الدراسة فكانت بالتالي الضائقة المالية أقل وقعًا عليّ بالنسبة للعديد من الزملاء، إلّا أنّ الفرق هو أنّه في الفترات السابقة للأزمة كان هناك أمل، كنّا نعتقد حتى في أصعب الفترات أنّه كان بالإمكان تحسين الوضع أو إصلاح القضاء. ولكن عندما أصابني اليأس بالنسبة لإمكانية التغيير مع الأزمة، عندها قرّرت الاستقالة. واعتبرت أنّه واجب عليّ أن أستقيل لأنّه لا يجوز أن يبقى قاضٍ في العدلية يحكم بقضايا الناس بينما هو لم يعد يؤمن في إمكانية التغيير أو إحقاق العدل. بعد الانفجار وتبعاته القضائيّة، لم يعد هناك أمل. أصبح العامل المعنوي أساسيًا بالنسبة للعديد من القضاة عندما يفكّرون في الاستقالة، فغياب الأمل في التّحسين والتّغيير أصبح طاغيًا ومحرّكًا أساسيًا للرغبة الجامحة في ترك القضاء”.[20]

وإذا كان الإحباط سببًا معروفًا خلف استقالة بعض القضاة أو ابتعادهم، إلّا أنّ شهادات القضاة المستقيلين تسمح لنا بالذهاب أبعد من ذلك في استكشاف أفكار القضاة عندما يقرّرون ترك القضاء أو عندما تراودهم هذه الفكرة بشكل جدّي. يؤكّد هذا البحث في خطابات القضاة، أنّ تدهور أوضاع العدلية الماديّة ليس دائمًا السبب المباشر خلف قرار المغادرة، إنّما يكمن قلب هذا القرار في نظرة القضاة للمستقبل. فطالما هناك أمل أو اقتناع لدى القضاة في إمكانية تحسّن الوضع خلال السنوات المتبقية لهم في المهنة، تبقى الاستقالة مسألة يتمّ التحدّث عنها إلّا أنّه غالبًا ما يتمّ تأجيلها بشكل مستمرّ. إلّا أنّ الميزة الأساسية للفترة الحالية، لا سيما بالنسبة لأزمات سابقة مرّ بها القضاء اللبناني، هي أنّها لم تترك مجالًا لأمل التحسين عند العديد من القضاة، الذين اقتنعوا أنّ الوضع ذاهب إلى الأسوأ لا محالة، فقرّروا طيّ الصفحة.

“فلّيت لأنّي كرهت القضاء، ما كان بدّي إرجع، بدّي روح فتّش ع شغل، أخذت كل أغراضي، حتى شلت اسمي عن الباب”.[21]

“إلّا أنّ التحسّن لم يحصل وقد ذهب البلد والقضاء إلى مكان آخر وأسوأ، ودخلت السياسة على القضاء بشكل غير مسبوق (…)، فقررت المغادرة”.[22]

ويسرد لنا القضاة المستقيلون الضربات المتتالية التي تلقّوها، وأبرزها في 2005 والأمل في بناء دولة جديدة مثلًا، وصولًا إلى حراك 2019 طبعًا، والأمل في التغيير الذي حمله، أو قضية انفجار المرفأ والكارثة القضائية التي نتجت عنها، وكلّها محطات تاريخية حملت وعودًا بدور مختلف للقضاء في لبنان، وكلّها وعود لم تتحقق: أصبح هناك شعور بأنّ هناك “خيبة أخرى تنتظرهم” في حال تركوا للأمل مجالًا مرة أخرى، إلّا أنّ القاضي لم يعد يتحمّل، فتصبح الاستقالة هي المنفذ الآمن. أمّا الوجه الآخر لمسألة الأمل هذه، فتتجلّى في انهيار قناعتهم بقدرتهم على التأثير على مجرى الأمور في لبنان، وعلى حماية حقوق الناس. ردّدها أمامنا قضاة مستقيلون: قضاة فقدوا إيمانهم لا يمكن أن يبقوا قضاة. باتت تسكن روح القاضي مجموعة من المشاعر السلبية تجاه المهنة، تدفعه إلى المغادرة.

“ما كان في trigger (سبب) محدّد، الانفجار مثلًا عملّي صدمة، ولكن أنا عملت تخطيط وأخذت معي أكثر من سنة، ما صارت impulsively (بشكل متسرّع)، أنا عارف وضع البلد واللي صار أكّد لي أنّ القرار اللي عم باخذه صحيح. كنت حسّ كثير إنّي ما بدّي فلّ لأنّي شايف الغلط اللي عم يصير (وبدي ساهم بإصلاحه). بس هلكت، بدون نتيجة”.[23]

أما السبب الأساسي الآخر الذي وجدناه عندما سألنا القضاة الذين تركوا القضاء ولو مرحليًا، فهو الهمّ المركزي بالمحافظة على الذات وحمايتها من الخيبات والقهر والأزمات الشخصية التي أصبحت المهنة القضائية تسبّبها. يظهر “التعب” كأحد محرّكات الاستقالة اليوم. إنّ “همّ الذات” لدى القضاة كان طاغيًا على مقابلاتنا، إذ وجدنا قضاةً استفاقوا ذات يوم بعد عام 2020 ليعوا أنّهم لم يعيروا أنفسهم وراحتهم النفسية الاهتمام المطلوب طوال السنوات الماضية، لدرجة أصبحت صعوبات القضاء في الأزمة تهدّد توازنهم الشخصي وقدرتهم على الاستمرار، كما تهدّد صحّتهم النفسية والفكرية وحتى الجسدية. أتت الاستقالة لحماية الذات من قضاء خيّب آمالهم مرارًا، وأصبح يشكّل تهديدًا مباشرًا لسلامتهم كأشخاص (هكذا يقولون)، خصوصًا أنّ التضحية التي تُطلَب منهم منذ سنوات فقدت معناها وجدواها تدريجيًا.

“بس تكون بوضع كلّه challenging (تحدّيات)، بفضّل كون بمطرح ثاني وحافظ على حالي. هل واجبي ضلّ واقف وإتحمّل؟ هذه صورة رومنسية للقضاء، بس بتغرّقك، لازم تحافظ ع حالك، وإذا قادر بترجع، أحسن”.[24]

من الواضح أنّه ليس هناك سبب وحيد يدفع القضاة إلى مغادرة القضاء. وعندما تجتمع الخصائص الموضوعية للقضاة التي قاربناها في القسم السابق مع التبريرات الشخصية والذاتية التي استكشفناها هنا، تصبح مسألة الخروج من القضاء سهلة نسبيًا لا بل بديهية أمام القاضية. وفي ظلّ هذه العوامل الموضوعية والذاتية، نواجه سؤالًا لا بدّ من طرحه لنفهم ما هو القضاء الذي أمامنا اليوم: لماذا قرّر بعض القضاة العودة إلى القضاء بعد خروجهم مؤقتًا، أو لماذا قاوم قضاة آخرون جاذبية الاستقالة، فقرروا حتى الآن البقاء في قضاء لم يعد يقدّم لهم الكثير؟

لماذا لا يستقيل قضاة أكثر؟

عندما فهم الجميع في لبنان أنّ الأزمة الاقتصادية والمالية التي يمرّ بها البلد لن تنتهي قريبًا، ولا توجد أيّ إرادة سياسية لإيجاد حلول عادلة لها، وعندما بدا واضحًا أنّ موظفي القطاع العام هم الذين سيدفعون الثمن الأكبر للانهيار، توقّع مراقبو السلطة القضائية أن يستقيل عدد كبير من القضاة. لذا فإنّ العدد المحدود نسبيًا للاستقالات في القضاء (حوالي 20 استقالة، حتى وإن كان علينا إضافة أعداد الذين تركوا القضاء مرحليًا كما سبق وقلنا) فاجأنا وجعلنا نتساءل عن أسباب عدم إقدام أعداد أكبر من القضاة على ترك المهنة. وسمح عملنا الميداني، ومقابلاتنا مع القضاة المستقيلين والباقين، بفهم أكبر لخلفيّات هذا الوضع، نحاول عرضه فيما يلي.

أوّل ما يجب الإشارة إليه هنا هو أنّ تفسير الاستقالات أو غيابها عبر التمييز بين قضاة ملتزمين بمهنتهم وبمهمّتهم الأخلاقية يرفضون ترك المهنة في أوقاتها الصعبة، وبين قضاة آخرين غير ملتزمين وغير مؤمنين، تركوا المركب المتعثّر بأسرع وقت، هو تفسير غير مقنع، ولم يلجأ إليه أصلًا القضاة الذين قابلناهم، إن كانوا مستقيلين أم لا. وذلك بالرغم من أنّ موقف مجلس القضاء الأعلى في بداية الأزمة أوحى لبعض القضاة أنّ الاستقالات قد تُفهَم بهذا الشكل، في لعبة معنوية مورست لمدة محدّدة لإقناع قضاة معروفين بجدّيتهم ومناقبيّتهم بعدم ترك القضاء. لهذا السبب، ربما وجدنا حساسية معيّنة عند بعض القضاة المستقيلين، وليس جميعهم، تجاه تفسيرات من هذا النوع، وكأنّهم حريصون على عدم فهم استقالتهم بهذا الشكل، أو كأنّ شعورًا معيّنًا بالذنب يراودهم ويجعلهم يتساءلون إذا كان قرارهم بالاستقالة يشكّل “خيانة” أو تقصيرًا ما تجاه مهنة لطالما صُوِّرَت لهم على أنّها رسالة. ومن اللافت أن يكون تفسير من هذا النوع يحمّل القضاة المستقيلين مسؤولية مغادرتهم، غير نابع من اتهامات متبادلة بين القضاة الحاليين والسابقين، إنّما من نظرة بعض القضاة المستقيلين إلى أنفسهم وإلى قرارهم، ومن تساؤلاتهم الشخصية والأخلاقية، ما يؤكّد مجدّدًا صعوبة قرار الاستقالة، والمتاهات المعنوية والأخلاقية التي يجد القاضي نفسه غارقًا فيها عندما يأخذه، وهو ما سنعود إليه لاحقًا.

وعندما نبتعد عن هذه العوامل الأخلاقية لتفسير الاستقالات أو عدمها، يظهر أمامنا واقع خطير يشير إلى أنّ القضاة النزهاء، المستقلّين والجدّيين، قد يكونون الأكثر عرضة للتفكير في الاستقالة، وإن قرّر بعضهم عدم اللجوء إليها في النهاية، بينما القضاة المدعومون سياسيًا أو الفاسدون فهم الأبعد عن تساؤلات المغادرة ومتاهاتها الأخلاقية التي لم تزعجهم أصلًا عندما قرّروا سابقًا بناء مسارهم القضائي على السياسة أو المال. لذلك نعود إلى الصورة الداكنة التي عرضناها في بداية هذه الورقة، وهي صورة جيش من القضاة الجدّيين الذين هم قاب قوسين وأدنى من الاستقالة، لا تفصلهم عنها سوى عوامل موضوعية قد تظهر في أيّ لحظة مستقبلًا، وهو ما أكّده لنا العديد من القضاة، وإن بدرجات متفاوتة.

“كل هؤلاء القضاة هم جاهزون (للاستقالة)، ينقصهم فقط فرصة عمل جيّدة”.[25]

“كثير زملاء من اللي ما فلّوا، ح يفلّوا، آخذين قرار، الشغلة تتطلّب ترتيب أمور”.[26]

وقد تفاوتت هذه الجهوزية للاستقالة عند معظم القضاة اللبنانيين في السنوات الأخيرة في الأزمة، إذ زادت أو نقصت بناء على تطوّر عوامل عدّة، ومنها الوضع المادي للقضاة بشكل أساسي. فإلى جانب كلّ الاعتبارات المهنية والمعنوية، يبقى العامل المادي محرّكًا أساسيًا يفسّر اختيارات القضاة وقراراتهم المصيرية، عبر الدعم المادّي الخاص والعام الذي قد يتلقاّه بعض القضاة، فيسمح لهم بالانطلاق في مغامرة الاستقالة أكثر من زملاء لهم لا يتمتّعون بهذه المقدّرات المادية. وقد يكون مصدر هذا الارتياح المادي المُسَهِّل للاستقالة وضعًا ماليًا مريحًا سابقًا لدخول القضاء، عائليًا مثلًا، أو ألّا تكون للقاضية ظروف عائلية تمنعها من تغيير نمط حياتها أو السفر لعمل جديد. وهنا تكمن معضلة القضاة اللبنانيين في الأزمة: فبقدر ما تشكّل الحاجة المادية دافعًا نحو الاستقالة والبحث عن وظائف أخرى تؤمّن مدخولًا أفضل، تشكّل الهشاشة المادية نفسها أيضًا عائقًا أمام قرار الاستقالة، إذ أنّ المجازفة هنا تصبح أكثر خطورة وعواقبها ذات ضرر أكبر على القاضي وعائلته.

“لأ ما فكّرت بالاستقالة لأن ما فيي، وبظروف عائلتي ما فيي أترك البلد، تأقلمت حياتي على أساس إنّي هون بلبنان، الفلّة صعبة جدًا، لو ما هيك كنّا سعينا نفلّ من البلد”.[27]

وظهر هذا الأمر جليًا عندما وصل تأزّم وضع القضاة المادي إلى ذروته في صيف 2022، وراح العديد منهم يبحثون عن فرص عمل أخرى، لتبرز الفوارق بين أوضاعهم وقدراتهم الفعلية على ترك المهنة القضائية. وقد أتت المساعدات المادية من قبل صندوق التعاضد، ابتداء من نهاية 2022، والتي أصبحت تضاف إلى رواتبهم، لتخمد قليلًا حماسة القضاة لإيجاد فرص أخرى، بالرغم من أنّها ما زالت محدودة ومؤقّتة لا يوجد أيّ ضمانة لاستمرارها.

“لو ما لحّقونا بهالآلية (مساعدات صندوق التعاضد) كانت الاستقالات بالمئات”[28].

ثالثًا، لا يمكن الاستخفاف بأهميّة انتظار العديد من القاضيات اليوم أيّ فرصة عمل جدّية تؤمّن لهنّ مدخولًا مقبولًا ليتركن القضاء من دون رجعة. وهذا ما دفعنا إلى القول إنّ القضاء اليوم يبدو مؤلّفًا من قضاة معلّقة أوضاعهم، مترقّبين، ينتظرون أوّل فرصة جيدة ليقفزوا نحو العالم اللا-قضائي. وكانت اللجنة التي أنشأها القضاة لمتابعة أمورهم في الأزمة بعد تعثّر المؤسّسات الرسمية، قد عبّرت عن هذه الأجواء القاتمة في قضاء لبنان، عندما حذّرت رئيس الحكومة ووزير العدل بأنّه “ما حيضلّ قضاة بلبنان”،[29]هذا البلد حيث القضاة يهاجرون. وعندما يصبح السؤال الأساسي ليس لماذا استقال بعض القضاة، إنّما لماذا لم يستقل بعد القضاة الآخرون، يظهر أمامنا الواقع المقلق: يبدو غياب الفرص الجيّدة والنوعية وكأنّه العائق الأساسي الذي يمنع عشرات القضاة الإضافيين من ترك القضاء بأسرع وقت، وقد عبّر لنا عن ذلك قضاة عدّة التقيناهم.

“إنّ عدم توفّر فرصة عمل لائقة يدفع العديد من القضاة الذين يفكّرون اليوم بشكل جدّي جدًا في الاستقالة إلى البقاء، إذ لا يمكنهم الذهاب نحو المجهول المادي والمهني”.

وهذا تذكير جديد بأنّه لا يمكننا تقدير خطورة الوضع بمجرّد النظر إلى أرقام الاستقالات الرسمية التي حصلت، أو حتى أرقام الاستيداعات والوضع خارج الملاك، إذ عندما نعطي القضاة مساحة بسيطة للتعبير عن أنفسهم ورغباتهم، نرى أنّ أعدادًا كبيرة منهم يبحثون عن فرصة للمغادرة ويتمنّوها ويسعون من أجلها، إلّا أنّهم لم يحصلوا على الوظيفة الملائمة بعد ليتركوا القضاء من أجلها.

ولا تتعلّق صعوبة إيجاد فرصة عمل “لائقة” بسوء الأوضاع الاقتصادية في البلد فقط، إنّما ترتبط أيضًا بطبيعة العمل القضائي الذي مارسه القضاة على سنوات طويلة واعتادوا عليه، والذي يصعّب بدرجة كبيرة مهمّة إيجاد عمل جديد بمواصفات معيّنة. فالعديد من القضاة استمرّوا في العمل لسنوات في محاكمهم ومكاتبهم، بعيدين عن العلاقات الاجتماعية والمهنية العامّة التي تؤمّن عادة فرص العمل الجذّابة، ما وضعهم على هامش الحركة الاقتصادية والمالية التي تولّد العروض المغرية. والمفارقة هنا أنّ استقلال هؤلاء القضاة ونزاهتهم، وتمسّكهم بتقاليد المهنة القضائية التي تفرض الحفاظ على مسافة معيّنة من المجتمع وفاعليه الاقتصاديين والسياسيين، أصبح عائقًا أساسيًا أمام قدرتهم على التحرّر من قيود القضاء المنهار.

كما أنّ طبيعة العمل القضائي الذي اعتاد عليه القضاة يصعّب عليهم الانتقال إلى أيّ مهنة أخرى، حتى ولو كانت محترمة أو تؤمّن مدخولًا جيدًا. هنا أيضًا، نرى المناقبية والتقاليد القضائية ترسم وتنحت جسد القاضي وفكره، تمامًا كما وصف الباحث ألان بانكو تقاليد القضاء والقضاة الفرنسيين[30] عندما قارنها بالتقاليد والوظائف الدينية، بشكل يجعل هذا القاضي يستصعب القيام بمهمات مهنية أخرى أكثر “دنيوية”، تتطلّب مثلًا التواصل الدائم مع الزبائن أو اللجوء إلى العلاقات العامّة وتسويق الذات، إلخ. وهنا أيضًا، نرى كيف أنّ القضاة الذين لم يلتزموا بمبادئ العمل القضائي، وطوّروا خلال سنوات علاقاتهم بالسياسيّين والإعلاميين النافذين، قد يكونون مزوّدين بأدوات أكثر لمواجهة عالم الأعمال والمهن غير القضائية، إلّا أنّ هؤلاء القضاة، كما سبق وقلنا، غير مهتمين إجمالًا بالاستقالة. فعلاقاتهم القضائية والسياسية قد أمّنت لهم امتيازات مادية ومعنوية تتعدّى بأشواط امتيازات القضاة العاديين ومداخيلهم، ما يسمح لهم بتجاهل الأزمة الاقتصادية وصعوباتها بشكل كامل، فلا تُطرَح عليهم أصلًا مسألة الاستقالة التي تعذّب ذهن معظم زملائهم. وهنا أيضًا تستمرّ مفارقة القضاء اللبناني، حيث نرى القضاة الذين تسمح لهم علاقاتهم بإيجاد وظائف أخرى بسهولة، لا يريدون الاستقالة فهم ليسوا في حاجة إليها، فيما القضاة الذين هم في حاجة إلى ترك القضاء غالبًا ما تنقصهم الوسائل ورأس المال الاجتماعي والسياسي الذي يسهّل لهم ذلك.

ومن العوامل العملية التي تصعّب الانتقال إلى وظائف أخرى مثلًا: عدم الالتزام بدوام في القضاء، أو بقواعد أخرى ترعى لوجستيّات العمل وسيره، أو عدم تقبّل سلطة وتعليمات هرمية موجودة في أي وظيفة أخرى، مقارنة مع هامش الحرّية والاستقلالية الواسع الذي يتمتّعون به واعتادوا عليه كقضاة.

“بالقضاء أنت سيّد ملفّك، هناك نوع من الاستقلاليّة بالعمل. حتى إذا كنت بهيئة فيك تعمل مخالفة. زميلة لي قالت لي إنّه صعب عليها أن تلتزم بدوام وتأخذ أوامر”.[31]

“أنا ضامن أهلي وأولادي، إذا بدّي فلّ بدي أمّن البديل، مش سهلة كمان، أنا بحب العمل بالقضاء، وصرلي عروضات مغرية بلبنان والخارج، مش سهلة تعمل هالـ switch.[32]

“أخذت إجازة بدون راتب، جرّبت أعمل consultation juridique (استشارات قانونية)، ما انبسطت (…)، عالم بارد”.[33]

الجدير ذكره هنا أنّ التنوّع في المسار المهني للقاضي بين القضاء الجزائي والقضاء المدني مثلًا، أو حتى التعليم، قد يشكّل جسرًا مسهّلًا نحو مهن قانونية أخرى كالمحاماة، إذ يُثبِت القاضي أمام أعين الجهات التي ستوظّفه، قدرته على التعامل مع مختلف أنواع الملفات الجزائية والمدنية والتجارية، فيما أنّ الاستمرار لفترات طويلة في مركز واحد قد يعطي الانطباع المعاكس ويعقّد مسألة المغادرة.

كما قد تكون الأسباب التي تثني القضاة عن الاستقالة مرحلية ومؤقّتة، مثل مسألة إتمام فترة العشرين سنة من الأقدمية في القضاء التي أشرنا إليها سابقًا، حيث يتريّث القضاة الذين لهم أقدمية تقترب من هذا الفاصل الزمني، باعتبار أنّ الاستقالة بعد هذه المدة سوف تضمن لهم الاستفادة من التقديمات القضائية لاحقًا. يرى القضاة أنّ إتمام هذه المدّة يشكّل منعطفًا أساسيًا في مسارهم، “يتحرّرون” من بعدها حيث يبقى الخيار لهم بأن يبقوا أو يغادروا مع المحافظة على كلّ امتيازاتهم. ولكلمة “التحرّر” من القضاء التي استعملها أمامنا أكثر من قاضٍ في هذا السياق معانٍ بليغة، لا داعٍ إلى شرحها هنا.

“نحن بس يصير إلنا 20 سنة، نتحرّر، نبارك لبعضنا، اللي بيبقى بعد العشرين سنة، يبقى بقراره”.[34]

كيفية اتخاذ “القرار”: مسار تفاوضي طويل، مع الذات والآخرين

إنّ قرار الاستقالة، أو حتى طلب الاستيداع أو الوضع خارج الملاك، قرار صعب للغاية لا تأخذه القاضية في يوم أو بسرعة، لذا من المحبّذ التكلّم عن مسار ترك القضاء أكثر مما هو قرار محدّد في الزمان والمكان. فبالإضافة إلى الشكوك العميقة والقديمة التي تسكن منذ زمن، ذهن بعض القضاة المستقيلين، ومهّدت الطريق أمام قرار ترك القضاء بعد 2020، نتكلّم هنا عن فترة طويلة، قد تمتدّ أشهرًا وأحيانًا سنوات، تتساءل خلالها القاضية عن جدوى البقاء أو الاستقالة وضرورتها، وقد تغيّر رأيها حول هذا الموضوع مرات عدّة قبل الاستقرار على القرار الأخير (وهو لن يكون نهائيًا في جميع الأحوال لو قرّرت البقاء، إذ أنّ أيّ تطوّر سلبي جديد في البلد أو القضاء سيعاود إنعاش حركة التساؤل والتردّد الجهنّمية). وقد أكّد لنا كلّ القضاة الذين التقيناهم، سواء المستقيلين أم غير المستقيلين، أنّ هذا القرار هو من أصعب القرارات في حياتهم، ولا يُتَّخَذ إلّا بعد فترة طويلة من التشاور والتردّد. ويبرز هنا اختلاف قرار الاستقالة من القضاء عن قرارات الاستقالة التي قد يتّخذها أي موظف في شركة أو مؤسّسة ما، إذ أنّ هذه المسألة لا تبدو للقضاة مجرّد مسألة تغيير عمل أو وظيفة، بل معضلة متّصلة بهويّتهم الشخصية والمعنوية ومعنى حياتهم أكثر من أيّ مكان آخر.

وقد وثّقنا مشاعر عند القضاة تتأرجح بين الحماس والتردد، بين الشعور بالنخوة وبالخيانة، بين الطموح والخوف من أن يخذل القاضي نفسه وزملاءه ومؤسّسته، والشعور أحيانًا بأنّ القاضي يرسب في مهمة نبيلة كان قد وضعها هدفًا لحياته منذ سنوات، عندما دخل المؤسّسة القضائية. سرد لنا القضاة مسارًا شاقًا وجافًا قد لا ينتهي مع قرار ترك القضاء. تقيّم القاضية يومًا بعد يوم ما للاستقالة وما عليها، ماديًا ومعنويًا ومهنيًا وفكريًا، وتطول لائحة النقاط الإيجابية أيامًا، فيما تقصر أيامًا أخرى. يسكنهم هاجس أنّ ما يتركه القاضي إذا قرّر الاستقالة قد لا يجده مجددًا في مكان آخر، وأنّ جوهر الوظيفة القضائية، أي فكرة الفصل في قضايا الناس وضمان الحقوق وحماية الحريات، لن يلاقيه القاضي في أيّ مهنة أو وظيفة أخرى في حياته، حتى ولو كانت تجربة بعض القضاة بعد الاستقالة جيّدة ومريحة. رأينا أمامنا على الأرض خوفًا عميقًا من خسارة شيء لا يمكن تعويضه. إنّ قرار الاستقالة، إذا اتخذ، فهو يتّخذ بعد هذا الكمّ من التردّدات والتساؤلات والتناقضات، وقد تحسمه العوامل الذاتية أو الموضوعية التي قد تكلّمنا عنها سابقًا. وحتى عندما يتلقى القاضي عرضًا مغريًا خارج القضاء، بعد أن راودته فكرة الاستقالة لفترة طويلة، يبقى القرار صعبًا. بمعنى آخر، حتى لو أزيل عامل المجهول من أمام القاضية واتّضح طريق المستقبل المهني، تبقى العوامل العاطفية والأخلاقية عائقًا أمام حسم الأمر واتخاذ القرار الأخير بسهولة.

“مرت أشهر بعد أن تلقّيت العرض للعمل الجديد وأنا أفكر في هذا العرض وفي مسألة ترك القضاء. كان يجب أن تتخمّر الفكرة في ذهني، لذا أخذت أشهرًا أفكر فيها، وأعتقد أنّني لو لم آخذ كلّ هذا الوقت لأفكّر في الاستقالة، لكانت فترة التأقلم اللاحقة أصعب بكثير ممّا هي عليه”.[35]

وما يعقّد أيضًا فترة التردد هو القلق المهني التقني. فصحيح أن القاضي المستقيل سيبقى في مجال القانون إذا ذهب إلى المحاماة أو إلى الاستشارات القانونية، إلّا أنّ مقاربة المادة القانونية والملف والقضية سيكون مختلفا جدًا. وقد أكّد لنا أكثر من قاضٍ أنّ من يفكّر في الاستقالة للذهاب إلى ممارسة المحاماة، يفكّر بشكل أساسي في هذه النقطة: كيف يترك القوس، حيث هو فوق القضية والمتقاضين، ليذهب إلى مكان آخر حيث هو مجرّد فاعل بين فاعلين كثر؟ ولربما كانت العملية أسهل بكثير لو أنّ الانتقال كان نحو مهن لا علاقة لها بالقضاء أو بالعدلية، حيث يتمكّن القاضي من البدء من نقطة الصفر، مجهولًا. إلّا أنّه في حال الانتقال إلى المهن القانونية، يبقى القاضي المستقيل في الفلك نفسه، ومع الفاعلين القضائيين أنفسهم، ومع الملفات القضائية نفسها فيما المطلوب منه أن يتعامل مع كلّ هؤلاء بطريقة مختلفة جذريًا عمّا كان يفعله عندما كان قاضيًا. أصبحت مثلًا مصلحة الزبون هي المسألة الأولى والأخيرة، فيما الأمر لم يكن هكذا على الإطلاق عندما كان قاضيًا، حيث عليك فقط أن تحكم بالقانون والعدل. والدليل على ذلك أنّ القضاة الذين انتقلوا إلى المحاماة أو الاستشارات كان أسهل عليهم العمل مع مكاتب وعلى ملفّات لها علاقة بالخارج، إذ يسمح لهم ذلك بتفادي الالتماس مع الفاعلين الذين كانوا يتعاملون معهم في السابق عندما كانوا قضاة، كالزملاء والمحامين والمساعدين القضائيين أو القوى الأمنية، ما يجنّب القاضي المستقيل الإحراج في التعايش اليومي مع هذا التغيير المهمّ في الموقع وفي العلاقات الرمزية.

وبالإضافة إلى المدة الزمنية الطويلة التي يتطلّبها قرار الاستقالة، يبقى هذا المسار مسارًا جماعيًا وليس فرديًا، بمعنى أنّ تفكير القاضي وتردّده حول هذا الموضوع يرافقه العديد من النقاشات والمشاورات مع الزملاء والرؤساء والعائلة والأصدقاء. وللجميع رأي في مسألة الاستقالة، ما يعقّد مهمّة القاضي المعقّدة أصلًا: منهم من يدعم الاستقالة بسبب سوء أحوال القضاء المادية والمعنوية، أو بسبب غياب أي أفق للإصلاح، ومنهم من يعارضها لأنّهم يعتبرون أنّ القاضي لا يمكنه أن يتأقلم مع وظائف أخرى لا تؤمّن له الاستقلالية المعنوية والمهنية نفسها، أو لأنّهم يريدون أن يبقى في القضاء قضاة يمكن الوثوق بهم. وقد يضيع القاضي بين الآراء والآراء المضادّة، علمًا أنّه يتمّ التعبير عنها بعاطفية وحدّة أحيانًا، وبأسلوب قد لا تغيب عنه في بعض الأحيان وسائل الابتزاز العاطفي أو حتى المهني، وإن أخذ أشكالًا ملَطَّفَة وكان له أهداف نبيلة.

” قالوا لي: إذا أنت والقضاة من أمثالك تركتم العدلية، فمن سيبقى فيها ومن سيحكم بالعدل؟”[36]

“أما الذين كانوا يدعمون قرار الاستقالة، فيقولون لي إنّ هذه الفرصة لن تأتي مرة ثانية، وإذا رفضتها فسأبقى سجينًا في قضاء لم يعد يقدّم لي شيئًا يذكر، فعليّ إذًا أن آخذ الفرصة”.[37]

“قالوا لي: اذهب وما تنظر خلفك، أحسن شي بتعملو بحياتك”.[38]

ولا بدّ من التوقّف هنا عند موقف المسؤولين عن القضاء اليوم، إن كان في الوزارة أو في مجلس القضاء الأعلى، والذين كان لهم في معظم الأحيان في السنوات الأخيرة موقف سلبي إلى حدّ كبير من قرار بعض القضاة ترك القضاء، أو حتى تفكيرهم في هذا الموضوع. فنرى الهرمية القضائية والسياسية تعارض استقالة القضاة ولا تشجّعها، وتتشدّد في قبول الاستقالات، فيما هي عاجزة عن تأمين أيّ حلول جدّية للوضع المادي المزري للقضاة، أو لمشكلة التدخّلات الدائمة والفاقعة في عمل القضاء، أي من دون تقديم أيّ أفق مادّي أو معنوي يشجّع القضاة المتردّدين على البقاء أملًا في مستقبل أفضل.

“وقت اللي بدأت الأزمة، قضاة كثار قدّموا طلبات استيداع وانرفضت، كانت الحجّة إنّه ح تفضى العدلية. خصوصًا إنّهم القضاة الصغار اللي بعد عندهم energy (طاقة)”.[39]

فقد حاول العديد من الرؤساء إقناع القضاة الذين ينوون الاستقالة بعدم ترك القضاء، وطلبوا منهم “أخذ الوقت” و”التريّث” و”التفكير جيّدًا”. وقد استُعمِلت أحيانًا ورقة الابتعاد المؤقّت عن القضاء، عبر الاستيداع أو الوضع خارج الملاك، والتي يسمح بها قانون الموظفين كما سبق وأشرنا، لإقناع القضاة بتأجيل قرارهم النهائي قليلًا أملًا في أن يؤدّي ابتعادهم المؤقّت عن القضاء إلى تغيير رأيهم وأن يجعلهم ذلك يشتاقون إلى خصائص المهنة القضائية، وهي حيلة قد نجحت في بعض الحالات.

“كانوا يقولون لي انتظر سوف يتحسّن الوضع، اصبر، إلّا أنّ مع كلّ نهار يمرّ كان قراري يصبح واضحًا أكثر. كنت قد وصلت إلى نقطة بعد الـ 2020 وأنا مقتنع أنّ التغيير غير ممكن، إذ لم يعد هناك أمل وبالتالي لم يعد هناك سبب للبقاء”.[40]

ما بعد الاستقالة: يوميات “السّلخ”

بعد أن درسنا “مسار” القاضية على درب ترك القضاء، من الشكوك والتساؤلات الأوّلية حول بقائها في المهنة، مرورًا بالتردّد والمناقشات والنصائح المتضاربة، وصولًا إلى القرار النهائي، لا بدّ من تخصيص مجهود لدراسة تجربة ما بعد الاستقالة، أي عندما يترك القاضي مساحته لينتقل إلى مساحات مهنية واجتماعية جديدة تختلف اختلافًا كبيرًا عمّا اعتاد عليه. ولكي نفهم جيّدًا المناخ المسيطر على فلك القاضي بعد أن يترك القضاء، لم نجد أكثر تعبيرًا من الكلمات التي اختارها قاضٍ استقال، إذ وصف لنا فترة ما بعد القرار، في نهاية كلّ هذا المسار الطويل والمعقّد، قائلًا إنّ الشعور الطاغي عند الاستقالة هو “الشعور بالسّلخ”.

“إنت متجذّر لسنوات طويلة داخل القضاء وبالوظيفة القضائية، وها أنت تتركه فجأة لتذهب إلى مكان آخر، وهي عملية مؤلّمة جدًا تمامًا كالسّلخ”.[41]

يوميات السّلخ إذًا، يعيشها كلّ قاضٍ على طريقته وبأسلوبه، لفترة من الزمن على الأقلّ، حتى يعتاد ويتأقلم مع نشاطه المهني الجديد، علمًا أنّ القضاة أكّدوا لنا أنّه إذا اختفت بعض معالم السّلخ مع الزمن أو خفّ وهجها، فإنّ بعض أوجهه الأخرى ترافق القاضي طوال حياته. وفي جميع الأحوال، تختلف تجارب ومصير القضاة بعد الاستقالة كثيرًا بين قاضٍ وآخر، وإن بقي معظمهم في فلك القانون، يمارسون المحاماة أو يقدّمون الاستشارات القانونية المحلّية والدولية على اختلافها. فمنهم من التحق بمؤسّسات دولية، ومنهم من قرّر متابعة دراسته أو القيام بأبحاث في مؤسّسات أكاديمية، وبعضهم من قرّر ببساطة الابتعاد عن أجواء العدلية الضاغطة في الأزمة، فطلب إجازة بدون راتب، قبل أن يتّخذ قراره النهائي.[42]

وظهرت كلمة “الحنين” في خطاب بعض القضاة الذين تركوا، ولهذا الحنين في بعض الأحيان آثار عملية، إذ دفع أحد القضاة مثلًا إلى العودة إلى القضاء بعد مغادرته لفترة قصيرة. وحتى الذين لم يعودوا إلى القضاء، وقرروا المضي في حياتهم الجديدة بعيدًا عنه، فقد شاركونا شعورهم بفقدان شيء ما، نوع من “الشغف” لن يجدوه في أيّ مهنة أخرى داخل أو خارج لبنان.[43]

“حنّيت للقضاء، قلت منيح اللي تركت لأن حنّيت. أنت (كقاضي) تعطي حقوق للعالم، تفهم القانون، تؤنسنه. هذه الأشياء بيعنولي كثير، رحت على مطرح جامد (عندما تركت)، العمل القضائي فيه روح وإنسانية”.[44]

هل يندم القاضي الذي ترك القضاء بعد 2020؟ هل يعتبر هؤلاء القضاة أنّهم تسرّعوا نوعًا ما في اتخاذ قرار مصيري بهذا الحجم، ربما لم يكن عليهم أن يأخذوه؟ أكّد لنا القضاة الذين التقيناهم أنّه إذا كان لديهم حنين معيّن في بعض الأوقات، فإن الندم ليس موجودًا عندهم، إذ أجمعوا أنّهم لو كان عليهم أن يتّخذوا القرار مرّة ثانية لأخذوا القرار نفسه اليوم، إذ صدقت كلّ توقعاتهم السلبية بخصوص البلد أو القضاء. يبقى قرارهم صائبًا سنة أو سنتين أو ثلاث بعد اتخاذه، ما يدلّ على أنّ تشاؤمهم واضمحلال أملهم كان في محلّه، أو هكذا يظنّون.

“لا مكان للندم أبدًا، ولا أشعر بالندم أبدًا، وكذلك ليس هناك أي كآبة أو نوستالجيا بالنسبة للعمل القضائي، وأحيانًا ألوم نفسي بسبب غياب هذا الشوق للعدلية وأشعر بالذنب”.[45]

“مع إنّي بزعل اليوم بالرغم من كلّ شي إنّي مش بلبنان، وإنّي مش قاضي وما عم بقدر فكّر وأكتب مثل ما أنا بدّي، لأن صحيح هيدي شغلة ما كنت إحلم فيها أنا وصغير (القضاء)، بس وقت اشتغلتها، عشقتها، القضاء هو عمل intellectual (فكري) وإنّك تحلّ مشكلة. بس هالشي منّو كافي للرجعة. (…) بتمنى إقدر إرجع إذا كانت الظروف منيحة، مش ضروري 100%، أقلّ، وإشتغل وأعطي (…)، بس ما ح أعملها، منّي مضطرّ”.[46]

وإلى جانب مشاعر الحنين والشوق والذنب متى وجدت، يواجه القاضي مجموعة من التحدّيات العملية والمهنية، تبدأ بنفسه، ثم تنتقل إلى علاقته مع زملائه السابقين، وصولًا إلى الفاعلين الآخرين داخل العدلية أو خارجها. فعلى صعيد القاضي الشخصي، هناك فترة طويلة نسبيًا، وصعبة، يواجه خلالها القاضي تحدّي التأقلم مع المساحة المهنية الجديدة التي دخل إليها مؤخرًا، والتي هي في غالب الأحيان لا تقدمّ الضمانات نفسها، ولا تضعه على المسافة نفسها مع المحامين والزبائن والناس. قد يستغرب القضاة السابقون مثلًا طريقة العمل الجديدة: عندما كان قاضيًا، هو لا يذهب إلى المكتب سوى مرّة أو مرّتين في الأسبوع، إذ أنّ غالبية الملفّات يعالجها في المنزل. أما الآن وقد أصبح محاميًا أو مستشارًا، فقد انعكس الوضع إذ أصبح يذهب إلى المكتب كلّ يوم، ما ينتج فارقًا كبيرًا في التموضع داخل مساحة العمل وفي العلاقات المهنية الاجتماعية مع الآخرين. وكدليل على صعوبة العبور نحو العالم الجديد، ما زال بعض القضاة المستقيلين “يفكّرون بذهنية القاضي” في عملهم الجديد، وهي ظاهرة قد يكون لها بعض المنافع كما سنرى، إلّا أنّ لها أيضًا العديد من الجوانب التي تعقّد اندماج القاضي السابق في محيطه المهني الجديد.

“أنا عندما يأتي إليّ زبون ملفّه غير صحيح، أو فيه مشاكل، لا أقول له (مثل بعض المحامين) تعال لنعالج الأمر ولا يهمّك. بالعكس، أقول له أنت خاسر، وأفضل لك ألّا تسير قدمًا. إذًا، ما زلت أفكر كالقاضي، وهذا الشيء يقدّره زملائي، وحتى الزبائن إذ يعرفون أنّهم يتكلّمون مع قاضٍ سابق”.[47]

أمّا بالنسبة للعلاقة مع القضاة الزملاء السابقين الذين سيلتقيهم عاجلًا أم آجلًا، لم يقل لنا أحد إنّ القضاة الحاليين يلومون المستقيلين على رحيلهم، أو ينتقدون قرارهم أو يعتبرونه خطأ أو تقصيرًا. ولا شك أنّ إجماع القضاة المستقيلين على مسألة غياب التوتّر، ومعه غياب أيّ لوم من قبل زملائهم السابقين، يؤمّن لهم شيئًا من الراحة النفسية في هذه الفترة العصيبة. إنّها إشارة أخرى إلى سوء الأوضاع الذهنية والمادية داخل القضاء، والتي لم يطرأ عليها أيّ تحسّن جوهري منذ أن قرّروا الاستقالة.

“بعض القضاة الزملاء السابقين يقولون لي اليوم لقد أحسنت، انظر أين نحن اليوم وقد ساء الوضع أكثر فأكثر. وأنا أقول لهم ليتني كنت مخطئًا، ولكن ليس هناك أمل بعد في تحسين الوضع في العدلية. عندما ألتقي مع قضاة زملاء لي ما زالوا في مراكزهم، يقولون لي شيئين إجمالًا: أوّلًا يقولون لي نيالك، وأنا لا أحبّ هذه الجملة، وثانيًا يقولون لي أنت رأيت قبلنا وعرفت أننا سنصل إلى هنا”.[48]

“في قضاة قالوا لي ما تطّلّع وراك، بس ما حدا قلّي رجاع”.[49]

وبمقارنة بسيطة بين القضاة الباقين الذين التقيناهم والقضاة الذين غادروا، يعتبر العديد من الأوائل أنّهم كانوا على خطأ في بقائهم، أو أنّهم غير محظوظين في حال أرادوا “التحرّر” ولم يتمكّنوا، فيما المستقيلون يعتبرون أنّهم كانوا على حق، لدرجة أنّ بعض هؤلاء بدأوا اليوم يعطون النصائح للقضاة الباقين حول مقاربة الوضع القضائي وخطط الخروج منه ومستقبلهم داخل القضاء أو خارجه: إنّ الخارج من القضاء هو الذي في موقع إعطاء النصيحة لمَن بقي فيه.

“لقد قلت لزملائي القضاة الذين لم يستقيلوا بعد ألّا يستخفّوا بقرار الاستقالة وما يتبعه إذ سيكون عليهم أن يجتازوا فترة تأقلم أليمة وصعبة، قلت لهم لا تفكروا إنّها كبسة زر أو فتحة باب وتسكير باب، إنّ الخروج هو أمر صعب”.[50]

كما يعتبر القضاة الذين سلكوا هذا الطريق أنفسهم “محظوظين” (“منشعر إنّو زمطنا”، قال لنا أحدهم). ويؤكّد القاضي المستقيل، وهو شديد الحساسية بالنسبة لهذه النقطة، أنّ زملاءه السابقين لا “يزايدون” عليه، ولا يعتبرون أنفسهم في موقع أفضل معنويًا وأخلاقيًا لأنّهم اختاروا البقاء في القضاء. إنّها تضحية لم يعد أحد يرى أيّ معنى لها. وهي مسألة عذّبت ضمير معظم القضاة المستقيلين لحظة تركهم القضاء، إذ كانوا يخشون القيام بالخيار الأخلاقي الخاطئ، إلّا أنّ لقاءاتهم مع زملائهم السابقين أبعدت عنهم هذا الهمّ: قليلون هم الذين يدافعون عن البقاء في القضاء اليوم.

أمّا العلاقة مع المحامين، وهم الزملاء الجدد متى أصبح القاضي محاميًا أو مستشارًا قانونيًا في لبنان، فيلاحظ القضاة استغرابهم بادئ الأمر، إذ عليهم أن يجلسوا مع القاضي السابق لمعالجة ملف ما مثلًا، وهم اعتادوا عليه كقاضٍ على القوس، هو جالس وهم واقفون، يتكلّمون معه بطريقة معيّنة، وها هم اليوم زملاء له في المحاماة على الطاولة نفسها. وبعد أن يتخطّى المحامون الاستغراب الأوّل، سرعان ما يفهمون أنّ القاضي السابق الذي يجلس الآن بينهم لديه نظرة مختلفة للملفات والقضايا القانونية، كما له خبرة ثمينة من داخل أروقة المحاكم وقصور العدل. ويروي لنا قاضٍ سابق أنّ زملاءه الجدد يقدّرون تلك النظرة ويثمّنونها، فيطلبون من المحامي- القاضي أن يكون جزءًا من الفريق الذي سيعالج بعض الملفات الساخنة أو المعقدة، ويتوقّعون منه أن يشخّص نقاط الضعف في الملف بطريقة لا يتقنها دائمًا المحامون، فينصحون مثلًا الزبون بالذهاب نحو تسوية في حال قال لهم إنّ القضاة لن يقتنعوا بنقطة أو حجّة معيّنة. إنّ القاضي المستقيل يعرف كيف يفكّر القضاة، وهذا أمر ثمين في عالم القانون اللبناني.

وتستمرّ تجارب القاضي المستقيل، وتتغيّر علاقته مع معظم الأمور المهنية والعامّة. لاحظنا ذلك على صعيد التعليم الجامعي مثلًا، الذي يمارسه عدد لا يستهان به من القضاة منذ زمن. فوثّقنا حرج القاضي المستقيل – الأستاذ الجامعي عندما يسأله طلّابه إذا كان ينصحهم بالدخول إلى القضاء في لبنان اليوم. فهو لا يريد من ناحية أولى أنْ “يعديهم”، أي أن ينقل لهم عدوى التشاؤم حول أحوال القضاء، أو تجربته الشخصية السلبية في السنوات الأخيرة، كما لا يريد من ناحية ثانية تشجيعهم على دخول القضاء، فيصبح “شاهد زور” إذا لم يخبر الطلاب على مشاكل القضاء الكبيرة والكثيرة. ومن اللافت هنا الفرق بين ما قاله القضاة الحاليون حول علاقتهم بالطلاب والشباب عمومًا على مستوى النصائح هذه، وما قاله لنا القضاة المستقيلون الذين لديهم نوع من الحرج بالنسبة لفضح وضع العدلية الحقيقي والتكلّم عن القضاء بشكل سلبي، لذا يواجهون هذه المعضلة. أمّا القضاة الذين التقيناهم والذين ما زالوا في القضاء، فيظهرون وكأنّ لا مشكلة لديهم بمصارحة الطلاب وفتح ملف الأوضاع المزرية داخل القضاء اللبناني، والانحدار المستمرّ لهذه المؤسسة منذ سنوات. إنّ الخروج من القضاء وما قد يتولّد عنه من حنين إليه يفرض على القضاة السابقين شيئًا من الحشمة التي يبدو القضاة الحاليون وكأنّهم تخلّوا عنها بفعل ما يعانونه يوميًا من صعوبات مادية فائقة وإحباط معنوي عميق، في قضاء ما زالوا هم يواجهون مشاكله كلّ صباح.

هل يعود يومًا ما القضاة الذين غادروا في حال توفّرت لهم فرصة قانونية لذلك؟ سؤال صعب تردّدنا قبل طرحه، وسنختتم هذه الورقة بجواب أحد القضاة السابقين، وهو أبلغ وصف لوضع القضاء الحالي ولمعضلة البقاء والمغادرة التي بنينا هذه الورقة حولها.

“إذا اعتبرنا إنّه بعد سنين مشي الحال؟ أتصوّر أنا فكريًا وشخصيًا صرت بغير محل. كان طموحي، ويمكن بعده، كون قاضي جيّد، بس الأزمة كسرت كثير من القضاة، كسر إحساسي بأنا وين مطرحي، وبمن محاط، والهدف من وراء هذه المؤسسة”.[51]

إنّه الوضع الذهني لجزء مهمّ من قضاة لبنان الذين يعيشون المأزق ولا يعرفون كيف يخرجون منه، أو الذين خرجوا ليجدوا مرارة تطبع روحهم حتى ولو كانوا راضين عن قرارهم ومسارهم بعد القضاء، وهم ينظرون اليوم إلى جزء مهمّ من حياتهم الماضية محطّمًا تحت أعينهم، بعدما كسرته الأزمة ومن قبلها السياسة اللبنانية وفشل قيام دولة قانون بعد الحرب ومسؤولية بعض القضاة عن ذلك. وعلى كلّ قاضية أن تقرر اليوم ماذا تفعل بهذا الحطام: هل يمكن فعلًا إصلاح ما انكسر والنهوض مجددًا بقضاء مختلف في لبنان، أم أنّ ذلك مستحيل على المدى المنظور، فتترك القاضية الوعاء الجميل المحطّم على الأرض كما هو، بقِطَعه الألف المبعثرة، وتسير نحو أهداف شخصية أخرى جديدة؟


[1] المادة 132 من قانون القضاء العدلي (المرسوم الاشتراعي رقم 150 تاريخ 16/9/1983): “تطبّق على القضاة أنظمة الموظفين في كلّ ما لا يتعارض مع أحكام هذا المرسوم الاشتراعي”.

[2] المادة 50 من نظام الموظفين (المرسوم الاشتراعي رقم 112، من العام 1959): يجوز وضع الموظف مؤقتًا خارج الملاك لأجل إلحاقه بإحدى الإدارات العامّة، أو المؤسّسات العامّة، أو البلديات، أو شركات الاقتصاد المختلط اللبنانية أو المؤسّسات الدولية أو الدول.

[3] المادة 52 من النص ذاته: يجوز وضع الموظف في الاستيداع بناء على طلبه إذا أصيب بحادث جسيم، أو في حالة مرض زوجه أو أحد فروعه، أو لأجل قيامه بدراسات تتوخّى الإدارة منها نفعًا عامًا، شرط ألّا تتجاوز مدة الاستيداع سنة قابلة للتجديد مرتين.

[4] نعني بالاستقالة خروج القاضي من القضاء بعد أن يكون قد أتمّ العشرين سنة أقدمية في القضاء، أمّا إنهاء الخدمة بناء لطلب القاضي فهو حالة الخروج من القضاء قبل إتمام العشرين سنة أقدمية.

[5] أعدّ ثلاثون قاضيًا كبيرًا استقالاتهم من وظائفهم لتقديمها في حال فشل تحقيق مطالبهم في بداية عام 1991. أنظر: نزار صاغية وسامر غمرون،  حين تجمّع القضاة في لبنان، المفكرة القانونية، 2018، ص. 66.

[6]  خاطر محاضرًا عن استقالة القضاة: كأنّ المقصود هو المفعول الإعلامي، فضل فارس، السفير، 24 ت2، 1992.

[7] من كتاب استقالة القاضي منيف حمدان إلى وزير العدل، “من أجل المحافظة على قصور العدل وعدم تحويلها إلى أبراج بابلية”، السفير، 7 ت1، 1992.

[8]  الاستقالة “النذير”، محمد محي الدين، السفير، 7 ت1، 1992.

[9] أنظر: السفير، 7 ت1، 1992. وهي اللجنة التي كلّفها القضاة في بداية الثمانينيات بمفاوضة مجلس القضاء الأعلى لمطالبته بإجراء الاتصالات اللازمة لتحسين أوضاعهم، وهي شبيهة، إلى حد ما، بلجنة المتابعة التي أنشأها القضاة لمتابعة شؤونهم خلال أزمتنا هذه. أنظر: حين تجمّع القضاة في لبنان، نزار صاغية وسامر غمرون، المفكرة القانونية، 2018، ص. 66.

[10] السفير، 9 شباط 1993. أنظر مثلًا منشور نادي قضاة لبنان على صفحة فيسبوك في 23 أيار 2019.

[11] حين تجمّع القضاة في لبنان، المفكرة القانونية، ص. 70، 2018.

[12] حين تجمّع القضاة في لبنان، ص. 67، المفكرة القانونية، 2018.

[13] مقابلة مع قاضٍ ترك القضاء، شباط 2023.

[14] مقابلة مع قاضٍ آخر ترك القضاء، شباط 2023.

[15] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[16] 11 قاضية و7 قضاة.

[17] ستة من بينهم يتراوح سنّهم بين 30 و40 عامًا، وأربعة من بينهم يتراوح سنّهم بين 40 و50 عامًا، وأربعة من بينهم يتراوح سنّم بين 50 و60 عامًا، وخمسة من بينهم يتراوح سنّهم بين 60 و70 عامًا.

[18] مقابلة مع قاضٍ سابق، حزيران 2024.

[19] مقابلة مع قاضٍ ترك القضاء، حزيران 2024.

[20] مقابلة مع قاضٍ ترك القضاء، حزيران 2024.

[21] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[22] مقابلة مع قاضٍ سابق، حزيران 2024.

[23] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[24] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[25] مقابلة مع قاضٍ سابق، حزيران 2024.

[26] مقابلة مع قاضٍ، آذار 2023.

[27] مقابلة مع قاضية، نيسان 2023.

[28] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[29] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[30] Bancaud Alain, 1993, La haute magistrature judiciaire entre politique et sacerdoce ou le culte des vertus moyennes, Paris: LGDJ, coll. “Droit et Société”.

[31] مقابلة مع قاضٍ ترك القضاء، حزيران 2023.

[32] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[33] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[34] مقابلة مع قاضية، نيسان 2023.

[35] مقابلة مع قاضٍ ترك القضاء، حزيران 2024.

[36] المرجع نفسه

[37] المرجع نفسه.

[38] مقابلة مع قاضٍ ترك القضاء، شباط 2023.

[39] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023

[40] مقابلة مع قاضٍ ترك القضاء، حزيران 2024.

[41] المرجع نفسه.

[42] المادة 37 من نظام الموظفين: يجوز منح الموظف لدواع خاصة، وبناء على طلبه، اجازة بدون راتب لا تزيد على ثلاثة أشهر يمكن تمديدها ثلاثة أشهر أخرى، شرط الا يتجاوز مجموع الإجازات الخاصة ستة أشهر خلال خمس سنوات متواصلة.

[43] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[44] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.

[45] قاضٍ ترك القضاء، حزيران 2024.

[46] قاضٍ سابق، حزيران 2024.

[47] مقابلة مع قاضٍ سابق، حزيران 2024.

[48] مقابلة مع قاضٍ سابق، حزيران 2024.

[49] مقابلة مع قاضٍ سابق، شباط 2023.

[50] المرجع نفسه.

[51] المرجع نفسه.


انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني