تم تعديل هذا النص بشكل طفيف ليتناسب مع غايات نشره ضمن الأوراق البحثية بعنوان “القضاء اللبناني في الأزمة (2019-؟)”.
عاش اللبنانيون منذ بداية الأزمة، ولا سيّما الحقوقيّون منهم، مترقّبين قرارات القضاة في جمعيّاتهم العمومية الفعلية والافتراضية: يُضرِبون أو لا يُضرِبون؟ يتوقّف العمل في المحاكم أم لا يتوقّف؟ وإذا أضفنا إلى هذا التساؤل القضائي النقاشات حول إضرابات المساعدين القضائيين أو حتى المحامين، تصبح مسألة الإضراب، أو التوقّف عن العمل، مسألة محوريّة في النقاش الحقوقيّ العام. وقد يُغرق القضاة أنفسهم أحيانًا في هذه المسألة، كما دلّت نقاشاتهم الداخلية الحادّة أحيانًا، حول ضرورة أو مشروعيّة التوقّف عن العمل، أو حول كيفية تسمية هذا التوقّف (إضراب، اعتكاف، توقّف قسري، استحالة القيام بالعمل إلخ.). كلّها أجواء تعطي مسألة التوقّف عن العمل حجمًا أساسيًّا ومصيريًّا. فإذا قرّر القضاة التوقّف، لا عدالة في البلد، ولا حماية قضائية للحقوق. أمّا إذا قرّروا الاستمرار في العمل أو العودة إليه، فسيبدو كلّ شيء على ما يرام في فلك العدالة اللبناني خلافًا للحقيقة.
نودّ في هذه الورقة أن نتخطّى مسألة التوقّف عن العمل هذه، أو أن نحجّمها، لدراسة ما الذي يحصل فعليًا عندما “يعمل” القضاة منذ 2020، وأيّ نوع من العدالة هم يؤمّنون فعلًا. فالواقع المادي السيّئ في قصور العدل، مقترنًا بانهيار أوضاع القضاة النفسية والمادية، جعل مسألة الوصول إلى العدالة في لبنان أمرًا أكثر تعقيدًا من أن يحدّده معيار الاعتكاف أو عدمه. فالأوضاع الصعبة هذه، المعيقة لعمل القضاة وإنتاجيّتهم، لا تبدأ عند إعلان الاعتكاف ولا تنتهي عند تعليقه. لا بل نريد أن نظهر هنا أنّ تسليط الضوء على الإضرابات القضائية أو توقّفها لم يعد يسمح بفهم ماذا يحدث فعليًا داخل المحاكم اليوم. فإنّ يوميات القضاة عندما يعملون في الأزمة، وعلاقتهم بعملهم، تشير إلى عدالة درجة ثانية، عدالة “بالموجود”، عدالة تراجعت كمًّا ونوعًا منذ أربع سنوات، بالرغم من جهود ونوايا مئات القضاة الذين ما زالوا يحاولون رغم كلّ شيء. اعتكاف أم لا اعتكاف، أصبح مجرى العدالة متباطئًا وملتويًا في قصور العدل، لا تقدر على إصلاحه أذهان القضاة المنهكة والمثقلة بالهموم.
واختصر أحد القضاة الذين التقيناهم في بحثنا هذا، الواقع القضائي الجديد بأفضل تعبير عندما قال لنا إنّ “الاعتكاف القضائي هو لمصلحة العدلية، لأنّ الناس تقول: القضاة معتكفون فمن الطبيعي ألّا تكون هناك عدالة، أما إذا ذهبنا إلى عملنا ولم نتمكّن من تأمين العدل، فهذه مصيبة كبرى، وسيعرف الناس أنّنا عاجزون، فمن الأفضل أن نبقى في بيوتنا ونعتكف”[1]. فعندما يصبح الاعتكاف الخيار الأفضل لحفظ ماء الوجه وإخفاء العجز القضائي، نعلم أنّ العمل الذي يقوم به القضاة عندما لا يعتكفون، تعتريه مشاكل كبيرة لا يمكن التغاضي عنها.
“إضراب أو مش إضراب، العمل القضائي مشلول. يتصرّفون مثل كأنّ إذا ما في إضرابات، كلّ شيء ماشي”.[2]
وسنرى فيما يلي مختلف جوانب هذا العمل القضائي المتلكّئ الذي أصبح يميّز القضاء اللبناني منذ 2020، لدرجة أنّنا أعطينا هذا الوضع القضائي الجديد تسمية “الإضراب المقنّع”. تبخّرت الحدود القديمة التي كانت تفصل بين الإضراب والعمل، لتحلّ مكانها منطقة رمادية يختلط فيها الشلل والإنتاج، تهيمن على الواقع القضائي بشكل دائم لتُنتج عملًا قضائيًا هجينًا متعثّرًا. تتحوّل أروقة قصور العدل إلى ما يشبه “غرف الطوارئ”[3]، يقدّم فيها القضاة الحد الأدنى المستطاع وبعض الإسعافات القانونية الأوّلية بأدوات محدودة، من دون القدرة على تأمين العناية القانونية المتكاملة لأصحاب الحقوق، التي من المفترض أن يؤمّنها نظام قضائي منتج وفعّال. فما هو واقع “غرف الطوارئ” القضائية العاملة اليوم في لبنان، وما هي مزايا هذا الإضراب المقنّع المستجدّ؟
عندما تفرض الأزمة التباطؤ في العمل
طبعًا، كان للظروف التي مرّت بها البلاد منذ نهاية 2019 تأثير مباشر على قدرة القضاة على الذهاب إلى محاكمهم وعلى إنتاج الأحكام. فقد بدأت فترة تدنّي إنتاجية القضاء منذ ما قبل بداية الأزمة اللبنانية، عندما اعتكف القضاة[4] لأكثر من شهر ابتداء من أيار 2019 على خلفية المسّ بحقوقهم، ما عطّل العمل القضائي لفترة طويلة تلك السنة. وما إن انتهى الاعتكاف حتى تعطّل العمل مجدّدًا، هذه المرّة من دون أن يكون لأيّ إضراب صلة بذلك، مع بداية الأزمة في خريف 2019 وتزامنًا مع التحرّكات الشعبية. وبالرغم من أنّ هذه الاحتجاجات قد شكّلت حالة تحفيزية لبعض القضاة للعمل ومحاكاة مطالب الشارع، إلّا أنّها قد أعاقت الوصول إلى المحاكم في العديد من الأحيان بسبب تسكير الطرقات وغيرها من الاضطرابات، ما أجبر البعض على أن يبقى فترة طويلة في المنزل في هذه المرحلة[5]: “كذا مرّة حاولت ورجعت عالبيت لأنّ الطرقات مسكّرة”[6].
ومن ثمّ اتصلت هذه الفترة بجائحة كورونا والإغلاق العام، التي امتدّت لوقت طويل بين عامي 2020 و2021، ما سهّل، بشهادة أحد القضاة، عملية التطبيع مع حالة “التراخي في العمل”، الأمر الذي ساهم في “تراكم الملفات والجمود القضائي واستسهال قلّة العمل”[7] حتى عندما انتهت فترات الإقفال. ولم يلتقط القضاة أنفاسهم بعد هذه المرحلة، فأتتهم الأزمة الاقتصادية المتسارعة، ومعها انهيار سعر صرف الليرة للدولار وقيمة رواتب القضاة والموظفين، مقابل ارتفاع كلفة الوصول إلى المحاكم ومستلزمات العمل وغيرها. شكّلت هذه العوامل مجتمعةً جوًّا مناسبًا لتباطؤ العمل القضائي، وسببًا مشروعًا لتراجع إنتاجية بعض القضاة، كما شكّلت في بعض الأحيان تبريرًا ممتازًا لبعض القضاة لعدم القيام بمهامهم مثل السابق، على حدّ قول بعض زملائهم: “صار التفكير إنّه إذا أنا ما عم بقدر أوصل عالعدليّة، ما ح إشتغل”.[8]
وقد سبّبت كلّ هذه العوامل منذ 2019، وحتى قبل فترات الإضراب أو خارجها، أزمة تكدّس الملفات التي تراكمت على مدى سنوات، خصوصًا المدنيّة منها بعد إعطاء الأولويّة للدعاوى الجزائية ذات الطبيعة الملحّة، تحديدًا المتعلّقة بموقوفين. وزادت صعوبة تخطّي هذا الواقع لاحقًا بسبب العوائق البشرية والنفسية والمادية التي تراكمت مع الملفّات، في ظلّ الاستقالات في صفوف القضاة وتقاعد قضاة آخرين، وإرهاق من بقي منهم بانتدابات تجعل القاضي يتبوّأ مركزين وثلاثة في الوقت نفسه، بينما يفشل مجلس القضاء الأعلى في إجراء تشكيلات قضائية تضمن تفرّغ القاضي لمركزه وتحسين سير العمل، بفعل التدخّلات السياسية الطاحنة.
بغضّ النظر عن وضع القضاة الشخصي إذًا، جعلت كلّ مقوّمات الأزمة منذ خمس سنوات عالم القضاء اللبناني عالمًا متباطئًا متعثّرًا، تطول فيه المحاكمات والإجراءات أكثر من قبل، وتقلّ فيه الأحكام بدرجات غير مسبوقة، ما يجعل إمكانية الوصول الفعلي إلى القاضي وإلى حكم فعّال، وهي من أسس المحاكمة العادلة، مهدّدًا بشكل معمّم وبنيوي ومستمرّ في لبنان. وليس في متناول اللبنانيين أي حلّ لهذه المعضلة، سوى الحلّ الأخطر الذي يدفعهم إلى تجنّب القضاء والمحاكم بشكل كامل، إذ أصبحت كلفة اللجوء إليه أعلى من كلفة اللجوء إلى أيّة وسيلة أخرى، حتى ولو على حساب جزء من الحق المطالب به. فهل أصبح القضاء اللبناني مقبرةً للحقوق في نظر اللبنانيين؟
تراجع الإنتاجية أو لجوء أقلّ إلى القضاء؟
تتعدّد منذ 2020 الإشارات المباشرة وغير المباشرة إلى أنّ شيئًا ما لا يعمل في قصور العدل. المراقب يرى ذلك، يسمعه ويلاحظه. عمّ السكون في مساحات العدل وخارجها، حتى التي كانت تعجّ بالناس: “قبل، كنّا نطلع ع بعبدا نقضّي نصف ساعة لنلاقي صفّة سيارة، هلق بتطلع بتصفّ بوجه العدلية دغري، ما في حركة أبدا.”[9] مثل آخر تقدّمه بعض الهيئات الاتهامية، التي باتت تستعمل دفتر أساس واحد بالسنة بينما كانت تستهلك ثلاث على الأقل في السنوات السابقة، بسبب تدني حجم الورود إليها[10]. وإلى ما هنالك من مظاهر ازدادت منذ بضع سنوات لتشير إلى تباطؤ أكيد في الحركة القضائية.
لكن أبعد من المواقف والصفحات الفارغة، من الممكن تتبّع تدهور إنتاج القضاء من خلال مؤشّرات كميّة بسيطة مثل مقارنة أعداد الأحكام الصادرة عن بعض المحاكم في السنوات الأخيرة، حيث يظهر تراجع مهمّ في معظم الأحيان. ومن المهم هنا أن نوضح أنّ شحّ المعطيات والأرقام لا يسمح لنا بالتوصّل إلى أيّ خلاصات نهائية حول عمل القضاة وإنتاجيّتهم الفعلية، إذ قد يكون وراء تراجع أرقام الأحكام عوامل عديدة لا تعني القضاة وحدهم. وكنّا قد راسلنا وزارة العدل من أجل الحصول على أرقام رسمية دقيقة تسمح لنا بمعالجة مسألة إنتاجية المحاكم كميًّا وبمنهجيّة أكثر صلابة، إلّا أنّ الوزارة لم تستجب لطلبنا قائلة إنّ ليس بحوزتها هكذا أرقام، وإنّ الحصول عليها يتطلّب مجهودًا وموارد بشرية ليس باستطاعة الوزارة تأمينها الآن. كما لم نحصل على أيّ جواب عندما راسلنا مجلس القضاء الأعلى والتفتيش القضائي بهذا الخصوص. لكن في جميع الأحوال، إنّ التراجع الملفت في أعداد الدعاوى والملفّات في المحاكم القليلة التي تمكنّا من الحصول على بعض أرقامها (غير الرسمية) يشير إلى تباطؤ كبير في عمل المؤسّسات القضائية مهما كان سببه، إلّا أنّ نتيجته واحدة وهي تراجع في الإنتاج.
من الأمثلة التي تعطي صورة واضحة عن الانحدار الحادّ في الأرقام، الغرفة الابتدائية الناظرة في قضايا الإفلاس في بيروت. ففيما سجّلت فيها 220 دعوى واردة و33 دعوى مفصولة سنة 2019، بلغ عدد الدعاوى الواردة إليها 37 والدعاوى المفصولة منها 10 في سنة 2022. كذلك أمر القاضي المنفرد الجزائي في الدامور، حيث تنحدر الأرقام من 1014 دعوى واردة و467 دعوى مفصولة عام 2019 إلى 202 دعوى واردة و115 دعوى مفصولة عام 2021، وإلى 657 دعوى واردة و126 دعوى مفصولة عام 2022. ويشتدّ الانحدار في أرقام مجلس العمل التحكيمي في بعبدا من 1689 دعوى واردة و762 دعوى مفصولة عام 2019 إلى 255 دعوى واردة و283 دعوى مفصولة عام 2022.
يشار إلى أنّه بالنسبة لجميع هذه الأرقام والمحاكم، ينقصنا دائمًا عدد الدعاوى المدوّرة، ما يجعل من المستحيل تتبّع عدد الملفات التي تنتقل من سنة إلى أخرى من دون أن يبتّ فيها القضاة. كلّها صعوبات ونواقص في الأرقام تجعل مقاربة إنتاجية القضاة بشكل علمي غير ممكنة حاليًا، إلّا أنّها تسمح برؤية تراجع مهمّ في الإنتاج منذ 2020 قد تكون أسبابه متعدّدة. فبالاضافة إلى فترات الإقفال والإضرابات، لا سيّما قبل 2022، قد يعني هذا التراجع أنّ ظروف العمل لم تعد تسمح بالقيام بالمهامّ القضائية بشكل مقبول، أو أنّ اجتهاد القضاة في عملهم لم يعد كما كان من قبل، أو بشكل أكثر خطورة قد يعني هذا التراجع في أرقام الدعاوى الواردة، كما رأينا أعلاه، أنّ اللجوء إلى القضاء قد تراجع بشكل كبير منذ بداية الأزمة، ما يعني تراجع الثقة في قدرة المؤسّسة القضائية على بتّ النزاعات وضمان الحقوق. وهو دليل آخر على تراجع كبير في مكانة القضاء في المجتمع اللبناني، وبروز مراجع أخرى أكثر سرعة وفعاليّة تلبّي مطالب الناس وتحلّ نزاعاتهم أو تحصّل حقوقهم، فيما تنمو بشكل مواز مشروعيّتها السياسية على حساب القضاء والدولة.
قضاة غائبون؟ تراجع الحضور إلى المحاكم
حتى بعد انتهاء فترة الاحتجاجات والإقفال العام وخارج فترة الإضرابات، تراجع بشكل كبير تواجد القضاة في محاكمهم ومكاتبهم منذ أربع سنوات. فبحسب المسح الميداني الذي أجرته “المفكرة” في صيف 2023، برزت ظاهرة حضور بعض القضاة مرّة كلّ أسبوعين أو حتى مرّة في الشهر إلى مكاتبهم في بعض المحاكم، مقارنةً مع معدّل يومين بالأسبوع في السنوات التي سبقت عام 2019. وهذه الظاهرة كانت واضحة منذ 2020 و2021 في مجالس العمل التحكيمية مثلًا، حيث كان الأجراء يمضون الوقت وهم يتساءلون متى يأتي القضاة (أو ممثلو العمّال وأصحاب العمل). كما أكّدت هذه الظاهرة كلّ المقابلات التي أجريناها مع المحامين والمتقاضين في العامين الأخيرين: بالرغم من بعض التحسينات المحدودة في السنة الماضية، أصبح تواجد القاضي والموظف والمحامي في الوقت نفسه في المحكمة، لكي تسير الإجراءات القضائية بشكل طبيعي، ضربًا من ضروب الحظّ يتمنّاه المحامون والمتقاضون أكثر ممّا يتوقّعونه.
تتعدّد الأسباب التي يعتدّ بها القضاة لتبرير تراجع تواجدهم في قصور العدل، أو حتى تراجع عدد الأحكام والقرارات التي يصدرونها في السنوات الأخيرة. فعندما سألنا القضاة أنفسهم عن وتيرة عملهم وذهابهم إلى المحكمة، رأينا أوّلًا كيف يبقى هذا الموضوع مصدر إحراج للعديد منهم، كما عبّر لنا أحدهم بخجل واضح: “هذه ليست الإنتاجيّة التي تمثّلني”.[11] ومعظم القضاة واعون أنّهم لا يعملون كالسابق، ويسبّب هذا التبدّل في أدائهم تساؤلات وشكوكًا لدى بعضهم، حتى الذين أصبحوا مقتنعين أنّ لا أحد يمكنه الطلب منهم أن يعملوا كالسابق وكأنّ شيئًا لم يكن. برّر قضاة تقنين توجّههم إلى المحكمة بأسباب ترتبط جميعها بصعوبة أوضاعهم المادية الشخصية والمهنية. قاضٍ لا يستعمل سيارته كالسابق لأنّه لم يعد باستطاعته تأمين كلفة صيانتها، أو لأنّ راتبه كان بالكاد يغطّي كلفة الوقود (قبل المساعدات المالية التي قدّمت لهم عبر صندوق التعاضد). لقد أصبح الوصول إلى المحكمة، حتى قبل دخولها ومواجهة كلّ مشاكلها، أمرًا معقّدًا.
“اليوم الوصول للمحكمة صار شغلة problématique (إشكالية) وأنا منّي من القضاة اللي بتتغنّج أو بتتكسلن، كنت إنزل ست أيام عالمحكمة، عامل 12000 قرار بسبع سنوات (قبل الأزمة)”.[12]
وحتى عندما يحضر القاضي إلى مكتبه، يكون ملزمًا بعدد ساعات محدّدة بحسب التغذية الكهربائية ويضطرّ لترك مكتبه مبكرًا عندما لا يعود قادرًا على قراءة ملفّاته: “علْ 2:30 بيطفوا الموتور، عنّا كهرباء من الـ 8:30 للـ 2:30 فقط، قبل كنت إبقى بالمكتب للـ 7-8 بالليل، هلّق ما فيّي لأن ما في كهرباء”.[13]
ويبتكر القضاة بعض الحلول العمليّة لتأمين سير العمل في العدلية في ظلّ تقنين حضورهم وحضور الموظفين. فبتنسيق بين النيابة العامّة والمحاكم، تمّ مثلًا الاتفاق على تأمين حضور النيابة العامّة لأربع جلسات من أصل ثمانية في محكمة الجنايات في مرحلة من المراحل، وجلستين فقط من أصل كلّ ثمانية في محكمة الجنح في بيروت. أمّا في مجلس شورى الدولة، فإنّ أكثر القضاة يحضرون (في صيف 2023) يومي الاثنين والخميس، مقارنة بثلاثة أيّام في الأسبوع قبل الأزمة، من دون أن يكون هناك طلب رسمي بذلك، ولكن بناء على التنسيق بينهم. كلّها مساومات يتفاوض عليها القضاة مع أنفسهم أولًا، ليقتنعوا بوتيرة العمل هذه التي لا تتناسب مع قناعاتهم السابقة، ومع زملائهم ثانيًا، ومع واقع الأزمة ثالثًا وبشكل يسمح لهم بالاستمرار بالقيام بوظيفتهم إلى درجة ما بالرغم من الظروف السيّئة، وحتى لو لم يعد عملهم بالكمية أو النوعية أو الزخم الذي كان عليه قبل بضع سنوات. وإذا كان واضحًا أنّ العمل القضائي اليوم يتقدّم بشكل أفضل من بداية الأزمة بفعل هذه المساومات والحلول الوسطى، إلّا أنّ هذا التحسّن يبقى نسبيًا ومتواضعًا: فباعتراف كلّ القضاة الذين قابلناهم، لا مجال لمقارنة عمل القضاء والمحاكم مع ما كان عليه قبل 2019.
ويؤكّد المحامون هذا التباطؤ في العمل القضائي، فيتحدّثون عن “مماطلة بالملفات” حتّى بعد عودة الكاتب والقاضي إلى العمل (أي بعد الإضراب). تأخذ هذه المماطلة المستجدّة شكل قرارات إعدادية مثلًا، تطيل أمد المحاكمة، الأمر الذي يُشعِر المحامي بأنّ أمورًا بسيطة مثل تعيين موعد جلسة محاكمة أصبحت اليوم صعبة وبعيدة المنال. كما يصف المحامون قرارات تأجيل مبالَغ بها لجلسات المحاكمة، تكاثرت في السنوات الأخيرة، مثل تأجيل جلسة لدى القاضي المنفرد الجزائي في تاريخ 27 شباط 2024 إلى 16 كانون الأوّل 2025، أي ما يقارب سنتين من التأخير.[14] ويسوء الأمر في قضاء العجلة الذي من المفترض أن يُصدر قرارات عاجلة في قضايا ملحّة لمنع حصول ضرر، حيث يتمّ إرجاء مواعيد الجلسات لفترات تتراوح بين ثلاثة وعشرة أشهر من تاريخ تقديم الدعوى[15]، الأمر الذي يؤدّي إلى انتفاء الغاية من قضاء العجلة وإفراغه من مغزاه.
وما فاقم طبعًا هذه المشكلة، قانون تعليق المهل القانونية والعقدية والقضائية الذي شكّل، حسب بعض القضاة والمحامين، كابحًا أساسيًا للعمل القضائي منذ إقراره للمرّة الأولى في أيار 2020 مع مفعول رجعي لـ 17 تشرين الأوّل 2019، وتجديده مرّات متتالية حتى آذار 2021. ومن مفاعيل هذا القانون كان إبقاء الملفّات المتراكمة على حالها لثلاث سنوات من دون تحقيق أيّ تقدّم فيها ، ليس بسبب البطء القضائي هذه المرّة، بل لأنّه لم يكن لدى أيّ من الأطراف دافعٌ لإتمام الإجراءات القضائية أو تقديم اللوائح، ممّا أدّى بالتالي إلى عدم انعقاد الجلسات. أمّا الأمور التي يشكّل الوقت فيها عاملًا أساسيًا، مثل قضايا العنف الأسري وغيرها، فقد اضطرّ الأطراف في ظلّ هذا الوضع إلى اللجوء إلى المحاكم التي تعتمد مهلًا موجزة مثل محاكم الأحداث وقضاء العجلة، بالرغم من عللها الكثيرة.[16]
انهيار إداري عام يخنق القضاء
يشتكي القضاة من بطء عمل الإدارات العامّة في السنوات الأخيرة، ما يؤثّر سلبًا على وتيرة إتمام المعاملات القضائية. وقد يكون هذا التأثير السلبي مباشرًا، أي عندما يُضرب موظفو العدلية مثلًا، أو في حالة هيئة القضايا، التي قد يتعطّل عملها بسبب عدم تحضير المطالعات المطلوبة من قبل الإدارات في الدعاوى المقدّمة ضدّ قراراتها. وليس هذا التباطؤ الإداري بالأمر المفاجئ أو الجديد، إنّما ازداد حدّة في الأزمة مع انهيار أوضاع الإدارات وإضرابات الموظفين. ومن بين مشاكل تعطيل الإدارة العامّة التي ضربت العمل القضائي، تكلّم الجميع عن مشكلة أساسية أثرت على قطاع العدالة عمومًا وعمل المحامين خصوصًا، وهي تعطيل صناديق وزارة المالية في قصور العدل والتي شهدت إقفالًا واسعًا لأسباب عدّة تارة بسبب عدم وجود كهرباء وطورًا بسبب عدم حضور الموظّفين. وقد أدّى ذلك إلى ازدحام عارم في الصناديق القليلة التي بقيت تستقبل المحامين لدفع رسوم بسيطة مثل رسم تبلغ قيمته ستّين ألف ليرة لبنانية، يشكّل شرطًا شكليًا من شروط تسجيل الدعوى، أجبر المحامين على الانتظار لساعات طويلة من أجله. فما فائدة الكلام عن إنتاجية القضاة في ظلّ هكذا وضع في الإدارات العامّة التي يبقى عملها مرتبطًا بالعمل القضائي بشكل وثيق؟
“عشرات المرّات بقيت أسبوع أو أسبوعين لإدفع الرسم لأنّ المالية عم تسكّر. طبعًا بقصر العدل في صندوق للمالية تدفع فيه، أوقات تضطرّ تروح على منطقة ثانية فيها صندوق. بفترة كان فقط صندوق صيدا شغّال، أصبحوا من كلّ مناطق الجنوب يروحوا ع صيدا، أو مثلًا من المتن وبعبدا يضطرّوا ينزلوا ع بيروت، أنا ناطر ساعات لدفع الرسم، آخر شيء يتعطّل السيستم وما إقدر إدفع، كان يفتح مرّة بالأسبوع أو الأسبوعين، أوقات يمرّ شهر بدون ما يفتح”.[17]
هذا بالإضافة إلى تسكير الإدارات التي يعنى بها المحامون خصوصًا، مثل الدوائر العقارية التي كانت تشكّل جزءًا كبيرًا من عملهم قبل الأزمة، ما أدّى إلى “تراكم المعاملات بشكل مرعب”[18] وإلى التسبّب بمعاناة كبيرة، كانتظار المحامين لساعات طويلة من أجل إنهاء معاملة.
“صارت تجي العالم الساعة 4 الصبح لتوقف بالصف وأحيانًا تنتظر كلّ النهار وما تخلّص معاملتها. أنا انتظرت مرّة واحدة، مثل الأفلام النازية، كانوا يمشّوا الناس بالشمس، صف يمتد 100 متر، فجأة تلاقي شخص كبير بالعمر أغمي عليه أو امرأة انهارت أعصابها لأنّ إلها كذا ساعة واقفة بالشمس”.[19]
وتسمح كلّ هذه المعطيات بالتخفيف من مسؤوليّة القضاة المباشرة في تراجع إنتاجية المحاكم في الفترة الأخيرة. فلا يمكن تحميل القضاة مسؤولية هذا التراجع في ظلّ انهيار البنية التحتية للعدالة والإدارة اللبنانية بشكل كامل، ما يجعل دور القضاة الفردي أو حتى الجماعي هامشيًا أمام هذه الضغوطات البنيوية والمؤسّساتية العظيمة التي جعلت من البطء والغياب والمماطلة والتأجيل الطبيعة الجديدة للمؤسّسات العامّة. هذا لا يعني طبعًا أنّه ليس للقضاة أي دور في تراجع إنتاج المحاكم وقصور العدل، وهذا تحديدًا ما سنتطرق إليه فيما يلي.
من ضحايا الأزمة : نوعيّة عمل القضاة
يُجمِع القضاة على أنّ وضعهم النفسي المتدهور الذي تناولناه في الورقة السابقة، يؤثّر بشكل كبير على إنتاجيّتهم. وهم يتساءلون كيف لهم أن يؤمّنوا حماية حقوق الناس بفعالية، فيما هم غارقون في همومهم المادية اليومية، وفيما لا يلتفت أحد إلى تأمين حقوقهم وكرامتهم. حتى عندما علّقوا الإضراب وعادوا إلى مكاتبهم، يشرحون لنا كيف يعودون بوضع نفسي لا يسمح لهم أن يكونوا قضاة منتجين مؤمنين بوظيفتهم.
“حتى لو انفكّ الإضراب، كقاضي حترجع على شغلك ما إلك نفس تشتغل، ما عم تنتج، ثلاثة أرباع القضاة ما عم يشتغلوا. اللي عم يشتغل هو اللي عنده مصدر رزق من زوج أو هو مرتاح ماديًا”.[20]
ولم تغيّر محاولات تحسين أوضاع القضاة هذا الواقع، إذ أنّ المبالغ المحدودة وغير المضمونة التي باتوا يتلقّونها عبر صندوق التعاضد لم تُرحْهم نفسيًا، وإن خفّفت الضغط المادي عليهم: فهم شعروا أنّ هذه الحلول المجتزأة والنصفية وغير الثابتة قد كرّست واقعهم القضائي الجديد، وهو واقع يكون فيه راتب القاضي متواضعًا بالكاد يكفي المصاريف اليومية عدا عن كونه هشًّا وغير مضمون، وتكون فيه المساعدات الاجتماعية التي يتلقّاها محدودة، ويكون فيه وضع محكمته ومكتبه سيّئًا، بالإضافة إلى الاستخفاف الهائل بالسلطة القضائية واستقلاليّتها منذ أربع سنوات وبشكل غير مسبوق. هي جميعها عوامل تطبّع مع صورة قاضٍ متعب يعمل بجزء من طاقته فقط، ما ينتج عدالة الدرجة الثانية التي سبق وأشرنا إلى خطورتها.
“مرّة برمت 6 صيدليات ما لقيت دواء لمرتي، رجعت عالبيت مخّي عم يوجعني، كيف بدّي أنظر بالملف؟”[21]
ولم تؤثّر أوضاع العدلية على معنويات القضاة فقط وبالتالي على إنتاجيتهم، إنّما ساهمت في تشتيت تركيز جزء منهم على عمله وملفاته. دفع الوضع ببعض القضاة إلى البحث عن موارد مالية أخرى بشكل غير مسبوق، للتعويض عمّا خسروه في رواتبهم، لا سيّما من هو مسؤول عن إعالة عائلة أو أهل. ففي حين سبق لهذا الوضع أن شجّع بعض القضاة على ترك السلك القضائي نهائيًا، بات معظم القضاة الذين لم يستقيلوا، يرصدون إمكانية تأمين مدخول إضافي تمامًا مثل سائر موظّفي الإدارات العامّة والأجهزة الأمنية، في ظلّ تعميم نموذج هذا الازدواج المهني داخل أجهزة الدولة اللبنانية مع ما يستتبعه من عواقب تضرب فعاليّتها. إلّا أنّ القضاة خاضعون لقيود إضافية لا يخضع لها سائر موظّفي الدولة في سعيهم هذا، إذ عليهم ممارسة نشاطات مهنية بشكل يتوافق مع متطلّبات الوظيفة القضائية من حيادية وتحفّظ واستقلالية، وهو أمر ليس بالسهل في بلد صغير مثل لبنان، قضاته معروفون بفعل قلّة عددهم. ولا شك أنّ التعليم الجامعي احتلّ المرتبة الأولى بين هذه الوظائف “الثانوية” التي سعى إليها القضاة، بما أنّه المتنفّس الأهم الذي بإمكان القضاة تقليديًا اللجوء إليه كمصدر رزق مكمّل. إلّا أنّ القضاة يشكون من ضآلة مداخيل التعليم متى أتيح لهم، إذ هي أيضًا غير كافية لتأمين حاجات عائلة إلى جانب راتب القاضي. والمشكلة الأساسية التي تهمّنا هنا هي أنّ هذه الوظائف التعليمية الإضافية، لا سيّما متى تكاثرت بعد الأزمة من أجل تأمين بعض الدولارات، مكلفة جدًا على صعيد الوقت والطاقة بسبب ما تتطلّبه من تحضير للدروس وتطويرها وتأمينها، إضافة إلى تحضير الامتحانات وتصحيحها، إلى ما هنالك من نشاطات إدارية وأكاديمية قد تطلبها الجامعات من جميع أساتذتها ومن بينهم القضاة، الذين باتوا يركضون ليلًا نهارًا من محكمتهم إلى صفّهم ومن صفّهم إلى محكمتهم. وهذه مسألة كانت قد أثارت بعض النقاشات داخل القضاء في سنوات ما قبل الأزمة عندما طلب مجلس القضاء من القضاة الحدّ من ساعات التعليم تطبيقًا للقواعد التنظيمية التي حدّدتها بـ 125 ساعة في السنة بعد حصول القاضي على ترخيص مسبق[22] لعدم تشتيت قدراتهم على حساب وظيفتهم القضائية، إلّا أنّ هكذا توجيهات لم تعدْ ممكنة في زمن الأزمة بسبب انهيار أوضاع القضاة المادية والنفسية، فلا يتجرّأ أحد على أن يطلب من القاضي عدم العمل خارج القضاء لإطعام أولاده.
“عم بشتغل ثلاث أشياء، بعلّم بالجامعة، وبشرف على رسائل حتى قول إنّي عم سكّج، بس شو بقي وقت لشغلي الأساسي اللي هو القضاء؟”[23]
بالإضافة إلى التعليم، رصدنا ظاهرة جديدة في سنوات الأزمة وهي ظاهرة القضاة الباحثين عن استشارات قد يقدّمونها إلى بعض الجمعيات أو المؤسّسات الدولية، أو عن إمكانية وضع خبراتهم القانونية في خدمة منظمات مختلفة وورش عمل حول المواضيع الحقوقية، وهي نشاطات قد تؤمّن لهم أيضًا مداخيل هامّة لم تعد الدولة اللبنانية قادرة على تأمينها. هنا أيضًا، يلوح خطر تشتيت ذهن القاضية بين الملفّات والتقارير والمداخلات التي لم تعد وليدة رغبة علمية تتخصّص بها كالسابق، إنّما أصبحت وليدة الحاجة الملحّة إلى المال الإضافي لتأمين الحدّ الأدنى من مستوى معيشة فقده معظم القضاة منذ 2020. وفي جميع الحالات، نجد أنفسنا اليوم أمام قضاة مشتتي الذهن بين هموم عديدة ومهام مهنية متعدّدة داخل القضاء وخارجه، تضعف قدراتهم على معالجة الملفات بشكل مناسب كمًّا ونوعًا.
وما يزيد الوضع سوءًا هو افتقاد القضاة في هذا الإطار لعامل الاستقرار الضروري لإنتاجيّتهم، وللعمل القضائي بشكل عام، والاستقرار المادي مرتبط هنا بشكل مباشر بالاستقرار النفسي والمعنوي. يعتبر القضاة الذين التقيناهم أنّ هذا الاستقرار المفقود “أهمّ من الأرقام” (أي المداخيل التي قد تأتيهم من صندوق التعاضد) لضمان قدرة القاضي على التركيز والإنتاج، إذ أنّه يولّد الاطمئنان المطلوب لممارسة العمل القضائي. أمّا بالنسبة للقضاة اليوم، فلا استقرار ولا اطمئنان ولا قدرة على استشراف المستقبل القريب والبعيد، ما يولّد قلقًا عارمًا يشغل بالهم ويدمّر قدرتهم على العمل على ملفّاتهم الصعبة أصلًا.
“ما في وضوح، أنا مش بس بالفترة القادمة ما بعرف شو ح أقبض، الشهر هيدا ما بعرف أدّيش حأقبض. عايشين كل شهر بشهره. مثلًا الزودة اللي أقرّت مبارح ما منعرف إذا رح تطالنا أو لاء. حتخلص سلفة مساعدات صندوق التعاضد، يعني خلصوا الستة أشهر، وهالشهر مش عارفين شي، أنا بعرف أديش بقبض وقت اللي أقبض، مش قبل”.[24]
والقاضي الذي فقد قدرته على التركيز والإنتاج بفعل ضبابية المستقبل بالنسبة له ولعائلته، هو أيضًا قاضٍ رأى القيمة الاجتماعية لمهنته تتدهور أمام عينيه (كما أشرنا في الورقة السابقة). وإذا كان القلق من المستقبل يُفقد القاضي القدرة على الإنتاج، فإنّ تدهور النظرة للذات وللمهنة يفقد القاضي الرغبة في الإنتاج، الرغبة في “حرق” ما تبقى من ساعات نهاره وأيام أسبوعه وسنوات عمره من أجل خدمة مهنة ومؤسّسة لم تعد تعيرهم أي اهتمام، أو هكذا يشعرون.
نحو تصحّر فكري في العدلية؟
أخطر مفاعيل الأزمة نوعية القاضي الذي تنشئه، أو بالأحرى نوعية الفكر القضائي والعمل القضائي الذي قد تفرضه. قضاة لبنان يشكون أمامنا من وضعهم الفكري المتدهور، حيث أعدمت الأزمة طموحاتهم الفكرية القانونية التي كان يصرّ بعضهم على تطويرها في سنوات ما قبل الأزمة. ولهذا الاضمحلال الفكري نتائج ملموسة ويومية على عملهم القضائي، مثل تراجع اطّلاعهم على الاجتهادات الحديثة أو التعمّق في المراجع حول النقاط القانونية وأبعادها الاجتماعية التي عليهم تناولها في أحكامهم وقراراتهم. أوّلًا، من ناحية معنويّة، لم يعد يشعر القضاة بالاندفاع لبذل المجهود الشخصي الضروري لتطوير الذات والاجتهاد. وما ساهم في تغذية حالة الخمول هذه هو غياب الآليات الرسمية التي تلزم القاضي بتطوير نفسه علميًا في القضاء اللبناني منذ ما قبل الأزمة، ما يترك هذه المهمّة الشاقّة على عاتق قضاة أفراد أصبحوا منهكين ومحبطين: “المجهود شخصي، ولكن حتى المجهود الشخصي لم أعد أشتغله”.[25] أما على الصعيد المادي، فإنّ أوضاع العدلية اللوجستية السيّئة تجعل مهمّة القضاة في إجراء البحث العلمي صعبة ومعقدة، حيث أنّ المراجع المتوفّرة محدودة جدًا. وحتى هذه الموارد العلمية المتواضعة ليست متاحة بشكل سهل، إذ ليس هناك مكتبة حقوقية في وزارة العدل، ما يجبر القاضي على الاستعانة بمكتبة نقابة المحامين أو مكتبات بعض كليات الحقوق الخاصّة.
ولا شكّ أنّ الوضع المادي للقاضيات لم يعد يسمح لهنّ بشراء الكتب أو دفع تكاليف اشتراكات المدوّنات أو المجلّات القانونية بمالهنّ الخاص، ما ساهم في تصحّر عالمهنّ الفكري والقانوني. وفي حين كان الوضع ما قبل الأزمة صعبًا للقضاة الذين كانوا يريدون تطوير أنفسهم، أتت الأزمة لتعطّل التطلّعات الفكرية كلّيًا لدرجة جعلها ترفًا لا مجال لمقاربته جدّيًا اليوم، حيث أنّ هناك قضاة “صرلهم سنين مش قارئين كتاب”.[26] ومن الواضح أنّ العديد من القضاة يعبّرون عن قلق كبير تجاه هذا الواقع الجديد الذي يساهم في تغذية إحباطهم، إذ يقارنون أنفسهم بسائر المهن القانونية والحرّة التي لم تنفصل بهذا الشكل عن النقاشات الفكرية الجارية: إنّ تراجع إطلاع القضاة على أحدث الكتابات والاجتهادات الدولية والعربية يساهم في تدهور وضعهم النفسي وثقتهم في أنفسهم، كما نوعية عملهم على المدى الطويل، من ضمن دائرة مفرغة مرهقة بين الإحباط والخمول لا يعرف أحد كيفية الخروج منها.
“بتعزّ عليي إنّو القاضي مش بس بياكل وبيشرب، القاضي بده يشتري مرجع، بده يقرأ، يشتري كتاب، وأجدد كتاب، مش معقول ما يكون القاضي قادر يتابع أجدد معطيات واجتهادات”.[27]
ويشاركنا قاضٍ آخر تجربته، إذ لم يعد قادرًا على الاستمرار بدفع رسم اشتراك مدوّنة قانونية تمنحه أحدث الاجتهادات (الإدارة القضائية لا تؤمّن المراجع والكتب والمدوّنات الحقوقية المستحدثة)، مع أنّه قاضٍ أعزب غير مسؤول عن عائلة وأولاد. ها هو يستعمل اليوم أعدادًا قديمة اشتراها سابقًا، أحدثها عدد عام 2018. ويأخذ اضمحلال البعد الفكري أشكالًا أخرى بين جدران قصور العدل، حيث حلّ مكان نقاشات القضاة القانونية والفكرية أحاديث وشكاوى عن الوضع المادي السيّئ والمعاناة التي يعيشونها.
“الجوّ العام صار إنّه بس نلتقي ما منحكي بالملفات، كان مختلف الوضع كلّيًا، كان قبل كيف ما تفوت ع مكتب قاضي تسمع نقاشات واتصالات عن الملفات”.[28]
لكلّ هذا عواقب وخيمة على نوعية العمل القضائي وجودة الأحكام التي يصدرها القضاة. لا نعني بذلك صوابيّة القرارات بالضرورة، إنّما ما يحمل القرار من قيمة علمية وفكرية وقانونية تسمح بتشكيل الاجتهادات والمراجع التي يلجأ إليها القضاة والمحامون والناشطون وطلاب الحقوق: “مثلًا إذا بيحمل القرار خمسة jurisprudences (اجتهادات – مراجع يذكرها القاضي في حكمه)، بتحطّ واحد، أصبح المهم أن نحلّ الملف أكثر من أن نحكم فيه”.[29] لا وقت للبحث والاجتهاد اليوم، الأولويّة هي للتخلّص من الملفّات المتراكمة على المكتب وفي البيت بالطريقة الأقلّ كلفة على صعيد الوقت والطاقة، ليتمكّن القاضي من العودة إلى هموم المنزل أو العائلة أو العمل الآخر.
فرضت الأزمة فلسفة التخلّص من الملفّات بدل الحكم بها. إنّه إضراب مقنّع لا يقول اسمه، يكرّس حقبة جديدة للقضاء اللبناني، حقبة خمول زاحف يأكل عزيمة القضاة وتصعب مقاومته. فصبر القضاة ينفد، والمال ينفد، والأمل ينفد، ونشاطهم ينفد، ويبقى القاضي وحيدًا أمام ملفّاته لا قوّة لديه لمعالجتها، فيما ينتظر المتقاضون طويلًا على أبواب المحاكم، إلى أن ينفد صبرهم بدورهم واحدًا تلو الآخر، فتقلّ أعدادهم أمام قصور العدل بينما يطول صف الانتظار أمام قصور الزعماء.
[1] مقابلة مع قاضٍ، آذار 2023.
[2] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.
[3] مقابلة مع محامية، أيار 2023.
[4] قضاة لبنان يعتكفون ضد المسّ بحقوقهم المالية: استمرار لحراك بدأ منذ ثلاث سنوات، لور أيوب، المفكرة القانونية، 8 أيار 2019.
[5] مقابلة مع قاضٍ، حزيران 2023.
[6] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.
[7] المصدر السابق.
[8] المصدر السابق
[9] مقابلة مع محامية، أيار 2023.
[10] مقابلة مع مساعد قضائي، تموز 2023.
[11] مقابلة مع قاضٍ، حزيران 2023.
[12] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.
[13] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.
[14] شهادة من محام متدرّج، شباط 2024.
[15] “لا عجلة في القضاء”، الأخبار، 6 حزيران 2023.
[16] مقابلة مع المحامية فاطمة الحاج من جمعية “كفى عنف واستغلال”، 2024.
[17] مقابلة مع محامٍ، آب 2023.
[18] المصدر السابق.
[19] المصدر السابق.
[20] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.
[21] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.
[22] رواتب القضاة ومداخيلهم، ص. 47، المفكرة القانونية، 2017.
[23] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.
[24] مقابلة مع قاضية، نيسان 2023.
[25] مقابلة مع قاضية، شباط 2023.
[26] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.
[27] المصدر السابق.
[28] مقابلة مع قاضٍ، شباط 2023.
[29] مقابلة مع قاضٍ، حزيران 2023.