يناضل أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان منذ أربعين عامًا، سنوات مرّت عليهم ثقيلة، موجعة وبائسة، إلّا أنّ البحث عن أحبّائهم أمسى خبزهم وملحهم، لم ييأسوا من إشهار حقهم بشجاعة، وتمسّكوا بمن غُيّبوا ظلمًا على يد أمراء الحرب والسلم، في ظلّ سلطات متعاقبة متلكّئة عن تحمّل أي مسؤولية في هذه القضية.
وخلال هذه المسيرة “طُحنت” قلوبهم نتيجة الظلم والانتظار واستمرّوا بفعل الحب والشوق، ومن هنا جاء عنوان كتاب “طواحين الهوى” الذي تطلقه لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان والمركز الدولي للعدالة الانتقالية في الأول من حزيران المقبل. يتضمّن الكتاب قصصًا قصيرة من تأليف 15 سيدة من أهالي المفقودين والمخفيين قسرًا في لبنان، يحكي عن حاضر ليس سوى استمرار لماض مؤلم، محمّلًا بذكريات تقاوم محاولات النسيان.
عنوان الكتاب اختارته رئيسة لجنة المخطوفين والمفقودين في لبنان وداد حلواني وهو يحمل دلالات على المأساة التي عاشها أهالي المفقودين والمخطوفين والمخفيين قسرًا، كما تقول لـ”المفكرة القانونية”. ولفظ “طواحين” كما فسرته حلواني، “يحمل معنى الطحن والسحق، أما الهوى فهو الحب والشغف والشوق لحبيب طال غيابه”.
وفي مقدمة الكتاب، تذهب حلواني أعمق في شرح الحالة الإنسانية التي كانت السبب في ولادته: “المأساة طالت وصار لزامًا علينا أن نبوح. صحيح أنّنا استطعنا، بعد نضال شاق، انتزاع قانون كرّس حقنا في معرفة مصير ذوينا، ونناضل من أجل فرض تطبيقه، لكننا، حتى اليوم، لم نتكلّم عمّا يعتمر في دواخلنا، أحد لم يسألنا عن أحوالنا، وعن كيف تمرّ أيامنا، أحد لم يقترب ليسمع دقات قلوبنا ليستمع إلى معاناتنا وكوابيسنا. كأننا وجدنا في الدنيا لنكون أهالي مفقودين”.
من فسحة حب إلى ساحة حرب
في إحدى الحكايات بعنوان “اسألني” تسأل سهاد سالم، زوجها الذي فقد على طريق الشام في 1 شباط عن 1983 عن طول غيابه وتحثه على سؤالها:
“سالم اسألني: هل تفتقدوني؟، اسألني: هل حاولتم كل الطرق لكي أعود إليكم؟، اسألني: سهاد، أحاولت تحقيق أمنياتنا المشتركة؟
اسألني: هل حصل أولادنا على كل ما حلمنا به؟
انده بأسمائنا، فنحن قد اشتقنا إلى سماعها منك.
مهلك يا سالم. دعني أرد على تساؤلاتك”.
وفي حكاية أخرى تأخذنا وداد إلى “شاناي: من فسحة حب إلى ساحة حرب”. تستحضر وداد المرة الأولى لانفصالها المؤقت، لـ “بعض الوقت” عن حبيبها عدنان، زوجها الذي خطف من منزلهما في بيروت في 24 أيلول 1982.
تروي وداد بعضًا من يوميّاتها في شاناي مع طفليها زياد وغسان، حيث العودة إلى بيروت أصبحت متعذّرة، بعد إعلان إسرائيل الحرب على لبنان تحت مسمّى عملية “السلام للجليل” وانتشار الحواجز المسلحة على الطرقات، “وهكذا انشطرت عائلتي إلى قسمين. إنّها المرة الأولى.. إنها التجربة الأولى لنا نحن الثلاثة ولرابعنا عدنان المستوحد في بيروت”.
تكتب وداد: “عذرًا عدنان، “بعض الوقت” تعبير مرفوض من الآن وصاعدًا، عدنان، أنا بحاجة إلى أن تكلّمني بقلبك لا بعقلك هذه المرة”… وفي موضع آخر تقول: “مع تباشير استعادة غسان السريع للنطق بشكل سليم ولفصاحته المعهودة، بدأت حكاية أخرى: إنها حكاية الحكايات، فصلها الأول عنوانه: خطف حبيبي”.
“أمي المتسوّلة” عنوان حكاية أخرى عن أم أحمد التي قضت حياتها تتسوّل حقيقة مصير ولدها أحمد الذي خطف في آذار 1975. فهي حتى قبيل وفاتها، تقول ابنتها سعاد: “لم تغفل في وصيّتها تذكيري بمتابعة قضية أخي: “إياك أن تنسي في حال عودة أحمد اذهبي إلى قبري ودقي عليه وأخبريني أنه عاد، لكي يرتاح قلبي ويثلج التراب فوق رأسي”.
وفي القصة تخبرنا سعاد: “في أحد الاعتصامات لم تحتمل أمي سماع مسؤول كبير في الدولة، حين صرح أمام الأهالي بأن أولادهنّ المفقودين أموات، منهم من رُمي في البحر ومنهم من صبّ فوقه الإسمنت. صرخت بغضب تلقائي: “أولادنا ليسوا أمواتًا بل أحياء” ثم خلعت حذاءها ورمته في وجهه”.
“من خلف المرايا تأتي الحكايا”، عنوان قصة ليلى التي فُقد شقيقها أنطون على طريق زحلة في حزيران 1986.
تأخذ ليلى بمخاطبة أخيها أنطوان: “ماذا أكتب! لا بدّ أن تخدم قصتي قضيتك يا أخي”. وإذ بهمس عميق يجلجل داخلها: “حاكمي خاطفي” فتبدأ ليلى بسماع صدى أنينه يتعذّب، وتتصوّره “يُجلد خلف قضبان زنزانة معتمة قذرة، مكمّم الفم وجلاده يضحك منتشيًا”.
مريم بدورها صنعت مجسّمًا لماهر بكرها الذي فقد في حزيران 1982، وأسكنته بجوارها في غرفتها. تكتب في حكايتها المعنونة “عاصفة داخل جسد” “ذاك المجسم أدخل إلى وريدي رعشة ولادته من جديد، وذكّرني برهبة المخاض، تلك العاصفة التي لازمتني لكي أعيش، حتى آخر رمق”.
البوح لتخفيف شيء من العبء
“هذه حكايتي” لـ فاطمة، “ويبقى الامل” لـ فردوس، “رحلة في ماض أليم” لـ سعاد، “واقع يفوق الخيال” لـ نبال، “من غير وداع” لـ مي، “ماض لا ينسى” لـ حياة، “سأستمر” لـ إنجاد، “لم يعد بعد” لـ يولّا، “خطوات وأثر” لـ سوسن، و”وراء كل باب حكايا” لـ نهاد. حكايات أخرى، لكاتبات بعضهنّ لا يستطعن الكتابة والقراءة، وأخريات لم يخضن تجربة الكتابة من قبل، كما تقول المشرفة على ورش التدريب على الكتابة الإبداعية للسيدات الـ 15 الكاتبة فاطمة شرف الدين لـ “المفكرة”، واصفة إياهنّ بـ “البطلات”. وتضيف: “لم تكن المرة الأولى التي أشارك فيها في ورش تدريب نساء على البوح للتخفيف بعض الشيء من عبء المشاعر المؤلمة الذي يحملنها، فقد سبق وشاركت في ورش عدة كان آخرها مع نساء عانين من “داعش” أثناء حصار الموصل في العراق”. مع ذلك تضيف شرف الدين لـ “المفكرة” “هذه أصعب ورشة كتابية عملت عليها وأحلاها وأعتبر نفسي محظوظة فهي تجربة طوّرتني شخصيًا وأغنت روحي”.
واعتبرت شرف الدين أنّ “التحدّي الأساسي كان بناء الثقة بيني وبين المشاركات وبناء الثقة بينهن، وذلك عبر الحرية في التعبير عن أي أمر كان، وفي إظهار المشاعر والمخاوف ومشاركة الأسرار”.
“من رحم الأمل ولد هذا الكتاب” تقول مديرة البرامج في المركز الدولي للعدالة الانتقالية في لبنان واليمن نور البجاني في مقدمته، وهي من تبنّت فكرة الكتاب وبادرت عبر المركز إلى تأمين الدعم المادي والمعنوي والمتابعة الحثيثة في سبيل إنجازه. وتضيف: “في هذه الصفحات، تأتمننا النساء على قضية حملنَها حيثما درن وكيفما دار الزمن. تأتمننا عليها اليوم عسى أن تثمر غدًا قمحًا “طواحين الهوى”.
يذكر أنّ مصممة الغرافيك تانيا رضوان صمّمت الكتاب ورسومات القصص برسومات، ووزّعه دار نلسن وسيكون متوفّرًا في الأسواق بالعربية والإنكليزية والفرنسية، ابتداءً من الخميس الأول من حزيران ويعود مردود هذا الكتاب، لدعم لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين لدعم نضالها المستمر منذ عقود لكشف الحقيقة والحفاظ على الذاكرة وتحقيق العدالة.
وسيطلق الكتاب الخميس في “دار الوردية” في الحمرا، الساعة الرابعة من بعد الظهر، ويتخلّل الإطلاق قراءات لمقتطفات من الكتاب ومعرض صور، ويختتم بتحية غنائية-موسيقية مع الفنانة أميمة الخليل والمؤلف الموسيقي هاني سبليني.