قصة بيروت ومرفئها: انهيار الاقتصاد وكورونا سبقا انفجار المرفأ إلى تقليص حركته


2020-08-25    |   

قصة بيروت ومرفئها: انهيار الاقتصاد وكورونا سبقا انفجار المرفأ إلى تقليص حركته
جزء من المرفأ المدمّر (تصوير ماهر الخشن)

شكّل تفجير 4 آب 2020 منعطفاً تاريخياً في علاقة بيروت بأهمّ مرفأ في لبنان، مرفئها. طالما اختلف الباحثون والمتحمّسون للمدينة من جهة وللمرفأ من جهة ثانية، في تحديد من صنع من؟ هل ولد المرفأ من رحم بيروت؟ أم نمت بيروت على ضفافه وحوله؟

وأخيراً، في لحظة مأساوية، خلطت مجزرة بيروت الأوراق ليلتحم المرفأ والعاصمة، وها هي المدينة تصاب في قلبها بشراً وحجراً وتفقد أجزاءً منها، فيما كان معظم المرفأ يحترق مع عنابره وأبنيته وأحواضه، على وقع الأضرار القاتلة التي لحقت بآلياته التشغيلية والسوق الحرة. نُكب الإثنان بما هما حاضنتان لبعضيهما البعض ولكل الناس. هُدمت بيوت المدينة على رؤوس قاطنيها من مختلف المناطق اللبنانية ومن أجانب، فيما احترق أو غرق أو أصيب مئات العمّال والموظفين في المرفأ المُدمّر. خرجت التوابيت من مركز البلاد، من بيروت ومرفئها باتجاه كل لبنان، والخارج، فيما شخصت العيون والقلوب باتجاههما بحثاً عن المفقودين ورجاء لشفاء آلاف الجرحى.

اليوم، يقول البعض إنّ الانفجار لم يطِح بالجدل بل حوّره مِن سؤال: “مَن صنع مَن؟” إلى سؤال “من قتل مَن؟ المرفأ كونه مركز الانفجار؟ أم العاصمة بما هي مركز السلطة التي أدّى إهمالها وفسادها وتواطؤها إلى التفجير؟” الجدل لم يعد ذا شأن، انتقلت بيروت والمرفأ من فاعل إلى مفعول بهما من السلطة ومعهما كل الضحايا من شهداء ومفقودين وجرحى ومن تبقّى من أحياء، ومن اقتصاد البلاد ومقدّراتها.

“المفكرة القانونية” تبحث في هذا التحقيق في علاقة المرفأ ببيروت وبإقتصاد لبنان بصفته أحد أهم مرافقه العامّة، بما تمّ إحصاؤه من خسائره وأضراره حتى اليوم، وقدرته التشغيلية وفرص النهوض وتنظيم العلاقة بين الدولة وبين اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت، بالإضافة إلى دوره بعد الإنفجار في إعادة إعمار سوريا؟

مرفأ بيروت: واحد على واحد

احتلّ مرفأ بيروت المرتبة 73 بين 960 مرفأً حول العالم، والمرتبة التاسعة بين 61 مرفأ عربياً على مؤشّر الارتباط بـ”شبكة النقل البحري المنتظم للمرافئ للعام 2019″، الذي تصدره منظمة “مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية” UNCTAD. تبلغ مساحة مرفأ بيروت الإجمالية 1.2 مليون متر مربع، فيما يمتدّ مسطّحه المائي على مسافة تقارب مليون متر مربع. ويتألّف المرفأ من أربعة أحواض، ويراوح عمق بعضها بين 15.5 و16.5 متراً. وتبلغ مساحة أحواضه نحو 660 ألف متر مربع. أما عدد الأرصفة فيه فيبلغ 16 رصيفاً، تنتشر عليها المستودعات المسقوفة والمكشوفة.

يوثق طالب الماجستير في العلاقات الدولية في جامعة القديس يوسف جو خوري في رسالة تخرّجه أهمّية مرفأ بيروت مستنداً، إضافة إلى معطيات المرفأ ومساهمته في الإقتصاد اللبناني، إلى دراسة عالمية (Data Envelopment Analysis) أجريت على المرافئ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ( 2015)، حيث حلّ لبنان في المرتبة الأولى مع مرفأي دبي وصلالة في سلطنة عمان.

واعتمدت الدراسة في تقييمها على معايير: عمق البحر في المرفأ، وسعة باحة الحاويات (Containers) وطول الرصيف وعدد الرافعات الجسرية (الخاصّة بتنزيل الحاويات) وآلاتها التشغيلية، وطريقة تشغيل المرفأ وفعاليته. ونال لبنان مجموع علامات تقييمية بلغت واحداً على واحد، متفوّقاً على قناة السويس (0.8) وأشدود (0.4) وحيفا (0.5) في فلسطين المحتلّة والدمّام (0.6) في السعودية، برغم أنّ الأخير أكبر من مرفأ بيروت بعشر مرات. وارتكز التقييم على مدى فعالية العمل داخل المرافئ مقارنة بين العرض والطلب. فمثلاً هناك عرض خدمات كبير في الدمّام وحيفا ولكن الطلب على هذه الخدمات أقلّ من العرض، بينما يتناسب حجم الطلب في مرفأ بيروت مع العرض تماماً. وإذ يتحسّر خوري على مرفأ بيروت الذي درسه في الحقبة الممتدة منذ 1990 ولغاية اليوم، يؤكّد أنّ “الصورة التي يتداولها الناس عن عدم فعالية المرفأ خاطئة، وذلك يعود إلى الفساد وعدم الثقة في السلطة والخلافات السياسية، بينما في الواقع مرفأ بيروت ممتاز، وهذا ما تثبته الأرقام والدراسات”.

يقول رئيس لجنة إدارة واستثمار مرفأ بيروت بالوكالة باسم القيسي (تم تعيينه بعد توقيف رئيس اللجنة حسن قريطم) لـ”المفكرة” أنّ مرفأ بيروت “مهمّ استراتيجياً ومصنّف في المرتبة العاشرة بين مرافئ البحر المتوسط، بما فيها المرافئ الأوروبية”. ويرى أنّ “مرفأ بيروت يشكّل خطراً على مرفأ حيفا، وهو أقرب المرافئ جغرافياً إلينا، بسبب طول الرصيف 16 A و B (1200 متر)، ولأنّه يمكنه استقبال الجيل الرابع والخامس من أمّهات البواخر التي سيتمّ وضعها في سوق الشحن قريباً مع مثيلاتها التي تشتغل اليوم، ولأنّ باحة الحاويات فيه تتّسع لـ20 ألف حاوية نمطية دفعة واحدة”. تبلغ سعة الحاوية النمطية 20 قدماً (حوالي ستة أمتار)، فيما يبلغ حجم الحاوية الكبيرة 40 قدماً (حوالي 13 متراً)، كما أنّ المرفأ مجهّز بـ16 رافعة جسرية.

محطة الحاويات وأهميتها للمرفأ

حصل تحوّل في آليات الشحن البحري على مستوى العالم بدءاً من 1986، حيث بدأ الشحن بالحاويات، وطبعاً لم يكن مرفأ بيروت قبل الحرب اللبنانية (1975-1990) مجهّزاً لاستقبال بواخر الكونتينرز، أي الحاويات. كانت الحرب اللبنانية ما بين 1975 و1990 قد دمّرت مرفأ بيروت فيما تناهشت مقدراته الميليشيات المتقاتلة وسيطرت القوات اللبنانية على الحوض الخامس كما فعلت ميليشيات أخرى في مرافئ الأوزاعي والجية وجونية وطرابلس وغيرها.

بعد انتهاء الحرب في 1990 بدأ إعمار مرفأ بيروت. يربط طالب الماجستير في جامعة القديس يوسف جو خوري، في رسالة تخرجه عن مرفأ بيروت، بين تطوّر النقل البحري منذ 1986 حيث تأتي المستوردات في حاويات مقفلة، وليست حرّة (فلت) كما كانت تُشحن سابقاً، وإعادة إعمار المرفأ. وشكّل تحوّل الشحن بالحاويات مفصلاً جوهرياً في تميّز المرافئ وتحوّلاً مفصلياً في مدى مواءمتها للشحن الحديث. ويقوم مبدأ الشحن بالحاويات على الباخرة الأم التي تبلغ حمولة أضخمها في العالم نحو 23 ألف حاوية (عبرت أكبر باخرة أم قناة السويس في أيار 2020 متجهة من الصين إلى روتردام في هولندا) وتصل إلى المرافئ المجهّزة بمحطّات حاويات لتوزّع حمولتها على سفن صغيرة تعرف ببواخر التغذية، إذ تقوم بنقل حمولة الباخرة الأم من المرفأ المركزي إلى مرافئ في دول الجوار، في ما يعرف بالمسافنة، وهو التعبير التقني للترانزيت البحري.

وانطلاقاً من انعطافة الشحن العالمي في النصف الثاني من الثمانينيات، كان على مرفأ بيروت أن يواكب ما حصل مستفيداً من فرصة إعادة إعماره، التي لم يكن من الممكن أن تنجز وفق وسائل الشحن القديمة. ومن هنا جاءت محطة الحاويات، ومعها تميُّز مرفأ بيروت، حيث لم تكن مرافئ المنطقة، من حيفا إلى أشدود ولارناكا وليماسول ومرافئ تركيا، قد تجهزّت للشحن بالكونتينرز، وهي تجهيزات تختلف كلياً عن الشحن العادي.

يقول خوري إنّ هذه النقلة منحت لبنان مميزات كبيرة على كل المرافئ، حيث تم شراء الرافعات الجسرية التي بلغ عددها اليوم 16 رافعة (وهي الرافعات الضخمة التي نراها من طريق المرفأ بلونيها ألأزرق والأحمر)، ومعها كلّ معدات الشحن للكونتينرز من أوناش صغيرة وحاملات. وهناك نوعان من الكونتينرز، النمطي وحجمه 20 قدماً والأكبر يصل إلى 40 قدماً، ولكن حمولة البواخر تقاس بالحاوية النمطية أي 20 قدماً حتى وإن حُملت بحاويات من حجم أربعين قدماً، فيتمّ احتساب كل واحدة حاويتين نمطيتين بقياس 20 قدماً.

مع تجهيز محطة الحاويات في مرفأ بيروت ووضعها في الخدمة، وقّع مرفأ بيروت أوّل عقد دولي لاستقبال أمّهات البواخر مع إحدى الشركات السويسرية، فقفز عدد الحاويات التي فُرّغت في بيروت من 460 ألف حاوية إلى 945 ألفاً خلال عامين فقط، أي بنسبة خمسين في المئة، ما يفوق التطوّر الطبيعي لحركة المرافئ التي تقدّر بـ 10% سنوياً. ومع تكريس مرفأ بيروت كأحد أبرز مرافئ المنطقة في الشحن بالكونتينرز، وقّع المرفأ عقداً ثانياً مع شركة شحن دولية ثانية، وعليه فاق الطلب العرض، وكان لا بد من تمديد الرصيف 16 للمرة الأولى، حيث نشأ الرصيف 16A، وصار بإمكانه استقبال باخرة أضخم بسعة حاويات أكبر ووتيرة تشغيل أوسع حيث توسّعت مع الرّصيف محطة الحاويات وباحتها حيث ترصف الكونتينرات.

المرفأ بوابة لبنان

تشير أرقام إدارة الجمارك في تقرير حركة الاستيراد والتصدير بين عامي 2015 ومنتصف 2020 إلى أنّ مرفأ بيروت يؤمّن 73% من مجمل الاستيراد إلى لبنان، فيما تبلغ حصته من التصدير 50%. ينطلق الزميل الصحافي والمحلل الاقتصادي محمد زبيب من هذه الأرقام ليقول إنّ مرفأ بيروت طالما أدّى دوراً مهمّاً في اقتصاد لبنان منذ إنتاج الحرير وتصديره لغاية اليوم. كما أدّى دور الوساطة التجارية تاريخياً حيث قام النموذج اللبناني على مجموعة محطات متعاقبة سمحت للمرفأ أن يقوم بالدور المحوري بين بعض مراكز الرأسمالية الأوروبية ومنطقة الشرق الأوسط، وهو دور تعزز في فترة الخمسينيّات مع الظروف التي طرأت في محيط لبنان”. وأيضاً، كان للمرفأ، وفق زبيب، دور كبير في جعل بنية الإقتصاد اللبناني بنية وساطة، وهو ما دفع بعض المؤرّخين إلى وصف بيروت بمدينة التجّار.

ومن دور المرفأ كمعبر أساسي لدخول البضائع وخروجها من لبنان وإليه، يشير زبيب إلى أنّ التجارة والنقل ساهما كمتوسط عام بنحو 20% من تكوين الناتج المحلّي الإجمالي، أي الدخل العام للإقتصاد المحلي، خلال الفترة من 2004 لغاية 2018 وهي نسبة عالية جدّاً تؤكّد الدور المحوري للتجارة وبالتالي لمرفأ بيروت.

وفي الفترة الزمنية نفسها، من 2004 لـ2018 مثّلت المستوردات السلعية نحو 51% من مجمل الناتج المحلي في 2008، وبقيت طيلة الفترة الماضية فوق 35%، وبلغت 36% من مجمل الناتج المحلي في عام 2018، وفق الحسابات القومية الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي (وكالة حكومية). وهذا الموقع الرّاجح للتجارة الخارجية في الاقتصاد اللبناني شكّل سمّة تاريخية، إذ شكّلت المستوردات دائماً نسبة مرتفعة جداً من الناتج تراوحت بين 35% في عام 1967 و54% في عام 1973. وكذلك يؤدّي مرفأ بيروت دور المعبر الرئيس للصادرات اللبنانية إلى الخارج على ضعفها وهزالتها، إذ إنّ نحو 50% من الصّادرات خرجت من هذا المرفأ، علماً أنّ الصّادرات السلعية مثلت ما بين 7% و15% من مجمل الناتج المحلي طيلة الفترة بين عامي 2004 و2018، علماً أنّها كانت أعلى قبل الحرب، وتراوحت بين 13% في عام 1960 و37% في عام 1975.

ويستخلص زبيب من هذه النّسب أنّ الاستيراد “أدّى دوراً كبيراً وحاسماً وكان وزنه هائلاً جداً مع مفارقة ضرورية بأنّ الصادارات ونتيجة الظروف التي نشأت بعد الحرب الأهلية شهدت تراجعاً مطّرداَ. وشكّل مرفأ بيروت البوّابة الأساسية لعبور المستوردات والصادرات من السّلع النهائية والسّلع الوسيطة العنصر الأساسي في الإقتصاد اللبناني طيلة الفترة الماضية”.

إيرادات المرفأ وخزينة الدولة

تخرج أصوات كثيرة تطالب بضبط ملف مرفأ بيروت وإيراداته، واصفة إياه بالصندوق الأسود، وأكبر باب للهدر والفساد. يقول هؤلاء إنّ الدولة لا تحصّل من المرفأ إلا “من الجمل دينته” كما يقوله المثل الشعبي. وبعد الانهيار، احتدم جدل آخر حول العملة التي يتقاضاها مرفأ بيروت وإن كانت بالدولار أو بالليرة اللبنانية، لما يشكّله ذلك من فرق في حجم الإيرادات.

ويكتسب الجدل شرعية في ظلّ تخلّي السلطة تاريخياً، من أيام الاستعمار التركي حين افتتح المرفأ المطوّر في 1894، من قبل “شركة مرفأ وأرصفة وحواصل بيروت” الفرنسية التي تولّت توسيعه وتطويره آنذاك بموجب امتياز من السلطنة العثمانية، وفق ما توثقه عميدة كلية العلوم الإنسانية في جامعة القديس يوسف الدكتورة كريستين بابكيان في أطروحة الدكتوراه الخاصة بها. ومع الانتداب الفرنسي، تعززت سلطة الشركة ومُنحت حصرية تطوير المرافئ اللبنانية الأخرى بما لا ينافس المرفأ الأم. ووفق ما تقوله بابكيان لـ”المفكرة”،  جرى استرداد الامتياز من الشركة الفرنسية بعد الاستقلال، في 1960 ومنحه إلى “شركة إدارة واستثمار مرفأ بيروت”، برئاسة هنري فرعون، حيث أجريت ورشة لتطويره ليبقى مرفأ إقليمياً كبيراً. واستمرّ المرفأ على هذه الحال إلى أن قضت الحرب اللبنانية على دوره، وتحوّل إلى ميدان لمعارك شرسة بدأت في أيّار 1976، بغرض السيطرة عليه ونهب ثرواته من قبل الميليشيات المتقاتلة، كما بقية الموانئ اللبنانية وعلى طريقة “كل ديك ع مزبلته صيّاح”.

وفي نهاية عام 1990، انتهت مدة الامتياز الممنوح للشركة. وبانتظار وضع آليّة بديلة، وضعت الحكومة ملف هذا المرفق العام الهام في عهدة لجنة مؤقتة لإدارته واستثماره (اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت)، وما زالت حتى اليوم، على طريقة دوام المؤقت في جمهورية ما بعد الطائف.

يقول رافي أشكاريان، مسؤول المالية في اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت، لـ”المفكرة” أنّ “اللجنة تحوّل للدولة اللبنانية 40 إلى 50% من إيرادات المرفأ التي تراوح عامة، (قبل 2020) عند حوالي 450 مليار ليرة لبنانية”. وهذا ما تشير إليه أرقام قانون موازنة 2019 و2020 حيث قدّرت الإيرادات الفعلية تباعاً بـ229 مليار ليرة و175 مليار ليرة. ويشير أشكاريان إلى توزّع الإيرادات ما بين ليرة لبنانية ودولار. ويأسف كون سنة 2020 ليست سنة نموذجية، حيث تدنّت الإيرادات بسبب تردّي الوضع الإقتصادي في لبنان، وكذلك أزمة فيروس كورونا التي ضربت العالم كلّه. وتوقّع ألّا تتعدّى إيرادات المرفأ في نهاية 2020، 200 مليار ليرة في تراجع 50 إلى 60%.

التوقّع الذي يطرحه أشكاريان تؤشّر إليه إحصاءات المرفأ التي توثّق المنحى المتراجع للمستوردات حيث بلغت حركة الحاويات (الشحن بالكونتينرز) في النصف الأول من 2020 ما مجموعه 414 ألف حاوية نمطية في تراجع 33% عن 2019، منها 49% للاستهلاك المحلي. ويتبيّن تراجع الحركة إذا ما قارنّاه مع السنوات الخمس الماضية. ففي العام 2016، استقبل مرفأ بيروت مليوناً و147 ألف حاوية، برغم الأزمة المالية التي عصفت بالعالم آنذاك، ليرتفع الرقم إلى مليون و305 آلاف و32 حاوية نمطية في 2017 ومليون و305 آلاف و754 حاوية في 2018، قبل أن يتراجع إلى مليون و229 ألفاً و81 حاوية في 2019، حيث تراجعت المستوردات بدءاً من 102 ألف حاوية في تشرين الأول 2019 إلى 88 ألف و872 حاوية في تشرين الثاني، ثم 71 ألف و924 حاوية في كانون الأول 2019. وتراوح عدد الحاويات في الأشهر الستة من 2020 ما بين 80 ألفاً و78 حاوية في كانون الثاني و55 ألفاً و149 حاوية في حزيران الماضي، في تراجع عام يلامس 33.17%.

ونتلمّس حجم الأزمة الاقتصادية في لبنان (بمعزل عن كورونا) من تراجع استيراد المستوعبات الملآنة (من مطلع 2020 ولغاية نهاية حزيران الماضي) الخاصة برسم الاستهلاك المحلي بنسبة 47% مقارنة مع الأشهر الستة من 2019. في المقابل، تأثّرت حركة الترانزيت البحري عبر مرفأ بيروت خلال الأشهر الستة الأول من 2020 في تراجع نسبته 13.26%، ما يدلّ على أنّ الأزمة الاقتصادية المحلية لوحدها تسببت بتراجع لا يقل عن 35%.

المرفأ خلال الأزمة السورية

مع اندلاع الأزمة السورية ارتفع الضغط على مرفأ بيروت وكان عدد الرافعات الجسرية أربع رافعات مع تجهيزاتها ولم تعد تلبّي الطلب على المرفأ، فبدأ تمديد الرصيف الذي سمّي لاحقاً بالرصيف 16B، ومعه توسّعت محطة الحاويات وباحتها طبعاً وقفزت حركة المستوردات بالحاويات إلى مليون و41 ألف كونتينرز نمطي.

ومع استمرار الأزمة السورية وارتفاع أعداد السوريين اللاجئين والمقيمين منهم في لبنان، وهو ما تزامن مع إقفال الحدود البرية لشحن الصادرات اللبنانية عبر سوريا إلى الخارج، زاد الطلب على الشحن البحري، فاتخذ قرار بردم الحوض الرابع لتمديد الرصيف وباحة الحاويات مما يرفع قدرة استقبال الشحن من مليون و300 ألف حاوية إلى مليون و700. وما إن بدأ ردم الحوض الرابع حتى قامت القيامة لوقف المشروع وتصدرها البطريرك الماروني بشارة الراعي والتيار الوطني الحر وقوى مسيحية أخرى، كون معظم أصحاب الأوناش والعاملين على الحوض الرابع مسيحيين “لا يجب قطع أرزاقهم”. يومها، توقف المشروع وكان لبنان قد اشترى أربع رافعات جسرية استعداداً لردم الحوض الرابع، ليصل العدد إلى 16 رافعة، فتم حشرها على الرصيف نفسه 16A و 16B. ويعتبر البعض أنّه من حسن حظ لبنان وقف ردم الحوض الرابع كونه يستعمل اليوم بديلاً عن الحوض الثالث في استقبال سفن الجنرال كارغو التي تنقل الحديد والقمح ومواد البناء، مع العلم أن هناك جزءاً منه يحتوي على ردميات رميت فيه في 2014.

ويشير (طالب الماجستير في جامعة القديس يوسف جو) خوري إثر رصده لحركة المرفأ أنّ لبنان استحوذ على 20 إلى 25% من الاستيراد السوري عبر البحر، وارتفعت النسبة مع استعمال الروس مرفأ طرطوس كقاعدة بحرية أكثر منه مرفأ تجارياً، وهو ما رفع معدل الحاويات من مليون و41 ألف إلى مليون و300 ألف حاوية سنوياً، هي مجمل حركة الاستيراد والتصدير عبر مرفأ بيروت.

ما حجم الضرر في المرفأ؟ وكيف يبدو نشاطه اليوم؟

تبدأ أضرار التفجير من الحوض الثالث تتابعاً نحو بقية العنابر إلى الجنوب الشرقي ونحو الداخل باتجاه محطة شارل حلو. دمّر الانفجار، وفق القيسي “كل عنابر المرفأ الـ21 التي كانت تستعمل كمخازن أو مستودعات. كما قضى على عنابر السوق الحرة (مقابل محطة شارل حلو) التي تضرّرت كثيراً”. ويشير القيسي إلى قيام شركة هندسية اليوم بتقدير وضع منشآت السوق الحرة لتحديد ترميمها وما إذا كانت مبانيها قد تصدّعت ويجب إعادة إعمارها، أم أنّ الأضرار لحقت بعنابرها فقط وبمحتوياتها وببضائع التجار، وطبعاً النوافذ والزجاج وغيرها من التجهيزات التي أطاح بها ضغط الإنفجار.

وتوضح مصادر رئاسة المرفأ لـ”المفكرة” أنّ الضرر الأكبر وقع على الرصيف 9 (أحد أرصفة الحوض الثالث) ونصف الرصيف 10، فيما أغرق الانفجار الباخرة “أورنت كوين” (شركة مرعي للسياحة) على نصف الرصيف 11، ولا تزال الأرصفة 2 و3 و6 و7 و8 قيد العمل، والأرصفة 12، و13، و14 صالحة للاستعمال. أما الرصيف 15 فمشغول ببواخر إما محجوزة أو قيد التصليح فيما تستعمل بوارج قوات اليونيفيل الرصيفين الرابع والخامس.

ورداً على المعلومات التي تقول إنّ البوارج الحربية الأجنبية تؤخّر دخول البواخر التجارية كونها تبقى مركونة على الأرصفة لأيام ولا تغادر في يوم أو يومين كما البواخر التجارية، يشير مصدر مسؤول في رئاسة المرفأ  إلى أنّ البوارج تفرغ مساعدات للبنان “فهل نطلب منها المغادرة؟”، لافتاً إلى أنّ المساعدات تأتي في بوارج حربية عندما يكون هناك أيّ حادث أمني في البلد المقصود إغاثته، كما لبنان حالياً حيث وقع التفجير والتحقيقات ما زالت جارية”.

ومع ذلك يقلّل المصدر عينه من تأخّر البواخر التجارية “بالعادة في تأخير، وهذا التأخير اليوم ليس ذا شأن”، مؤكّداً أنّ المرفأ سيعود إلى كامل طاقته التشغيلية مجرّد انتهاء الجيش اللبناني من مسح الأضرار “حيث يسلّمنا كامل الأرصفة غير المتضررة”.

ولكن ماذا عن العنابر؟ وكيف سيعود العمل في المرفأ بكامل طاقته. يشير المصدر إلى تسهيلات كبيرة اعتمدت في الجمارك لتسريع المعاملات “وكلّه عم يطلع إلى خارج المرفأ لمجرد انتهاء معاملاته، لكي لا نضطر إلى التخزين، كوننا عاجزين عن استخدام العنابر لأنّها مدمرة”.

وبالنسبة لإهراءات القمح التي تمتد على 50 ألف متر مربع، يؤكّد القيسي أنّ الدمار قد أصابها بالكامل “ونحن نحتاج إلى إعادة إعمارها”، مشيراً إلى أنّ “وزارة الإقتصاد هي التي تستثمر العنابر مقابل مبلغ لا يتجاوز 365 ألف ليرة لبنانية سنوياً”.

أما بالنسبة للأضرار التي لحقت بمحطة الحاويات، فيشير القيسي إلى أنّ التفجير أصاب 30% منها أي  ثماني رافعات جسرية “ولكننا أصلحنا سريعاً خمسا منها وأعدْناها إلى الخدمة، ثم أجرينا صيانة الرافعات الثلاث الأخرى في غضون أسبوع من الانفجار”. وبذلك عادت محطة الحاويات إلى العمل بطاقة 100%. ومن هنا جاء الحديث عن تشغيل المرفأ بنسبة 80%، كون محطة الحاويات استردّت عافيتها في الأيام الأولى التي تلت التفجير.

تؤكد مصادر لجنة إدارة واستثمار مرفأ بيروت أنّ الحاجة الأساسية لإعادة الإعمار هي في القطاع الذي يستقبل الشحن بالبواخر الصغيرة أو ما يعرف بـ”جنرال كارغو” (General Cargo Ship) أي  البواخر العادية والصغيرة، التي ضربت حركتها مع تأثر الحوض الثالث الذي نال الانفجار من أجزاء منه نظراً لتمركز العنبر 12 بقربه. ويستعمل الرصيف 3 لبضائع السفن العادية، غير الحاويات، وعبره تأتي المستوردات من المواشي والسيارات والبضائع العامّة من حديد وقمح وحبوب وصخور وألواح الرخام والغرانيت والخشب ومواد البناء وبعض الخضار من مصر.

ويؤكّد القيسي أنّ المرفأ “يحتاج إلى تصليح  جميع الأوناش (جمع ونش) المخصّصة للشحن في سفن الجنرال كارغو، ومعها البنية التحتية في المنطقة المتضررة، وكذلك جميع العنابر الـ21 والمنطقة الحرة، وتلامس تكلفة هذا الجزء نحو 400 مليون دولار”. ومع ذلك، يشير إلى أن المرفأ أفرغ 80 ألف طن من الحبوب والحديد منذ استئناف العمل ولغاية اليوم الإثنين 24 أب 2020، عبر بواخر الجنرال كارغو “ويمكنني أن أقول أننا عدنا لكامل طاقتنا التي كنا عليها قبل التفجير، باستثناء التخزين، حيث يتم نقل البضائع خارج المرفأ مباشرة”.

ويؤكد أشكاريان لـ”المفكرة” أن هذا الجزء من المرفأ، ونظراً لطبيعة المستوردات التي يستقبلها أي الحديد وجميع مواد البناء والصخور والرخام والغرانيت هو المرشح للاستعمال ولعب الدور الأساس في عملية إعادة إعمار سوريا. ولذا فإن إعادة إعماره وتجهيزه يشكّلان ضرورة ملحّة للبنان وسوريا معاً. وهو يلفت إلى أنّ تطوّر الصناعة اليوم أوجد عنابر جاهزة مقفلة ومفتوحة يمكن تركيبها بسرعة من دون استغراق وقت طويل بعد تجهيز البنى التحتية.

ويبدو نشاط المرفأ مستمرّاً بوتيرة منسجمة مع الوضع الإقتصادي المستجدّ إثر أزمة لبنان الإقتصادية التي أعقبتها أزمة كورونا العالمية حيث تراجعت حركة الشحن بالحاويات. فنرى الحركة طبيعية على الرصيف 16 A و16 B حيث تتمركز محطة الحاويات التي تشكل ركيزة الشحن الحديث، ومن ضمنها 16 رافعة جسرية مع آلياتها التشغيلية وباحة تخزين الكونتيرات التي تستوعب 20 ألف حاوية نمطية دفعة واحدة. وتعتبر محطة الحاويات نقطة قوّة المرفأ وتميّزه حيث تشكل هذه الناحية منه 80% من حركته، و85% من حركة الشحن بالحاويات، فيما يتولّى مرفأ طرابلس 15% منها. يذكر أنّ ثمن كل رافعة جسرية مع تجهيزاتها من تلك الموجودة في مرفأ بيروت لا يقلّ عن 30 مليون دولار اليوم.

وتؤكد مصادر رئاسة المرفأ أنّ لا أزمة جديدة حالياً في مرفأ بيروت، نتيجة الضائقة الإقتصادية اللبنانية وأزمة كورونا اللتين تسببتا بتخفيف حركة الإستيراد نحو 70%. وبالتالي وبما أنّ المرفأ يشتغل بـ30% من طاقته، انحصرت الاستعانة بمرفأ طرابلس بإدخال ست بواخر فقط “وتم استئناف العمل في اليوم الثالث، ولم نعد بحاجة لمرفأ طرابلس”. كما تمّ إدخال باخرتين عبر مرفأ صيدا.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، مؤسسات عامة ، لبنان ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجزرة المرفأ



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني