قصة القطار في لبنان 1890-2014 ضحية أخرى لهيمنة فلسفة الربح على المنفعة العامة


2014-10-07    |   

قصة القطار في لبنان 1890-2014 ضحية أخرى لهيمنة فلسفة الربح على المنفعة العامة

يعود اليوم الحديث عن ضرورة تأهيل وانشاء سكك الحديد في لبنان على ضوء أزمة السير التي باتت تشكل مصدر اختناق يومي للبنانيين، كما تكبد الاقتصاد اللبناني أعباء كبيرة في ظل غياب اي خطة جدية لتحسين النقل العام. ارتأت المفكرة القانونية العودة الى تاريخ انشاء سكك الحديد في لبنان وتطورها للتذكير بأهمية هذا القطاع الذي وصل لبنان بالعالم قبل اندلاع حرب 1975. لا نهدف في مقالتنا هذه الى تقديم شرح تاريخي مفصل عن الصراعات التي أدت الى تأسيس الخطوط في المنطقة. نكتفي هنا بالعودة الى الظروف الدولية والمحلية التي سمحت بجعل لبنان في مرحلة ما، وبيروت خاصة، مركزا اقتصاديا وتجاريا رائدا في المنطقة بعد مدّ السكة الحديدية. كما ونسترجع الاسباب التي ادّت الى تدهور هذا القطاع وتوقفه كلياً عن الخدمة.

المصالح الاوروبية والبورجوازية البيروتية تجتمع لانشاء السكك الحديد

بدأ التفكير جدياً بمدّ شبكة طرق للمركبات تؤمّن المواصلاتمن مدينة بيروت الى متصرفية جبل لبنان في بداية ستينيات القرن التاسع عشر. الا ان فكرة انشاء طريق تصل بيروت بدمشق لم تبتّ فعلياً الا عندما ازدهرت المبادلات التجارية بين المدينتين. ففي هذه الفترة، كان نقل البضائع يتمّ عبر البغال وتستغرق الرحلة ما بين ثلاثة الى اربعة ايام. قرر عندئذ الكونت ادمون دو برتوي، وهو ضابط سابق في البحرية الفرنسية انتقل للعيش في بيروت،انشاء خط يربط الشام ببيروت.وقد نجح دو برتوي عام 1857 بنيل رخصة من السلطنة العثمانية تسمح له بشقه. غيّر هذا التدبير حياة سكان بيروت اذ ساهم بشكل كبير بفتح باب التجارة مع المدن الاخرى. أدرك الكونت أهمية مشروعه، فدخل في مفاوضات مع شركة النقل الامبراطورية لتبنّي مشروع بناء مرفأ جديد لبيروت عام 1889. وبالفعل، نال رخصة انشاء المرفأ يوسف مطران، رجل اعمال من بعلبك وكان قد تمكن أيضاً من نيل رخصة بإنشاء سكة الحديد بين دمشق وحوران. تبيّن لاحقاً أن مطران كان سمساراً اذ باع الرخصة في العام نفسه إلى الشركة الفرنسية التي استلمت ادارة المرفأ. اضحت بيروت، التي كانت قد اصبحت ولاية عثمانية سنة 1888، عاصمة اقتصادية لمتصرفية جبل لبنان وبوابة لبلاد الشام وسمح نموها التجاري بتأسيس قطاع للخدمات وبالتالي تحوّلت المدينة إلى مركز تجاري مهم ان من خلال نوعيات الخدمات التي توفرها بالاضافة إلى حجم السلع المتبادلة عبر مرفئها.

في هذه الفترة، تحديداً في اواخر القرن التاسع عشر، بدأ الغرب يتداول فكرة بناء السكك الحديدية في الولايات العثمانية، الأمر الذي جعل فرنسا وبريطانيا تتنافسان على نيل امتيازات إنشاء السكك. في الواقع، كان الاوروبيون يبحثون عن اسواق جديدة ومنافذ للاستثمارات المالية بعد الثورة الصناعية ما دفعهم للتوسع نحو هذه الولايات. وكانت السلطنة في هذه الفترة تعاني من ازمة سياسية ومالية حادة، ما مهد الطريق امام التدخل الاوروبي المباشر في شؤونها. وفي بلاد الشام، أدرك التجار أهمية طرق النقل وبخاصة السكك الحديدية للسيطرة على تجارة الموارد الطبيعية في المناطق الداخلية. لذا تمّ إرسال العديد من المهندسين الاوروبيين لاستكشاف المنطقة بغية وضع خطط جدية لانشاء السكك. عرف وجهاء المدينة انّ المرفأ لن ينجح وحده في وضع بيروت في المرتبة الأولى على الصعيد التجاري بوجه المدن المنافسة كطرابلس وحيفا. وكما حصل عند إنشاء المرفأ، التقت مصالح الطرفين المحلي والأوروبي على أهمية تأسيس شبكة إقليمية لإنماء خدمات النقل، فلجأ أعيان بيروت الى مجلس الولاية من أجل إيصال مطلبهم الى السلطنة بربط مرفأ بيروت بالمناطق الداخلية عبر سكة الحديد، ما يسهل عملية نقل البضائع والمسافرين. وفي عام 1890، طرح المهندس الفرنسي ادوارد كوز فكرة جعل طرابلس رأسا لسكة حديد تربط المدينة بالساحل السوري. وافق حاكم طرابلس على هذا الاقتراح وطرحه بدوره على وجهاء المدينة الذين اتفقوا على انشاء صندوق فيما بينهم لجمع الاموال من اجل تأمين التمويل اللازم. لزم تنفيذ المشروع سنينا طويلة من التفاوض مع الجانب العثماني الذي منح امتياز انشاء السكة في بداية القرن العشرين كما سنرى لاحقاً. بالتالي، بدأت طرابلس بتشكيل منافسة حقيقية لبيروت، التي واجهت ايضاً “الخطر” الآتي من حيفا اذ اقترح الرحالة البريطاني لورانس اوليفانت انشاء سكة بين حيفا ودمشق خلال ثمانينات القرن. ادرك اعيان بيروت ومعهم دو برتوي انّ هذا المشروع سوف ينقل تجارة القمح الآتي من جبال حوران، احد اهم المصادرلموارد مرفأ بيروت، من هذا الاخير الى مرفأ حيفا. وبحنكة كبيرة، تمكّن الوفد البيروتي اثناء اجتماع مع الوالي من اقناعه بأنّ خط حيفا – دمشق يمرّ بأراض تابعة للسلطنة مما يضع البريطانيين بصفة المعتدين على املاك الباب العالي. وبالفعل اجبرت السلطنة البريطانيين على التوقف عن العمل على هذا الخط سنة 1898.

وضع المشروع على السكة

لم يعد ينقص تجار بيروت الا ايجاد التمويل اللازم لاطلاق اعمال بناء السكة. اجتمعوا مجدداً في اوائل شباط 1890 وقرروا اللجوء الى حسن بيهم، احد كبار الوجهاء البيروتيين، الذي وافق على مشروعهم. فتقدم بطلب التزام الى السلطنة التي منحته اياه بموجب فرمان صدر في 17 حزيران 1891. انشأ بيهم “الشركة المغفلة العثمانية لخط حديد بيروت – دمشق” والتزم مدّ خط حديد يربط بين بيروت ودمشق مع استثمار لمدة 99 سنة. ونتيجة ذلك، اضحى الخطان الاساسيان بيروت – دمشق ودمشق – حوران (الذي عرف بخط دمشق – مزيريب) بيد متعهدين من بيروت وبعلبك هما حسن بيهم ويوسف مطران. وفي ايار 1893، صدرت ارادة سلطانية بالموافقة على طلب دو برتوي بتمديد الخط الحديدي من دمشق الى الفرات. ومنح مطران مجدداً لمدة 99 سنة امتياز بناء واستثمار خط حديد يصل دمشق – حمص – حماه – حلب – بيره جك (مدينة البيرة جنوب شرق تركيا حالياً). وكما في خط دمشق – حوران، تخلى مطران عن الامتياز لصالح “شركة الخطوط الحديدية العثمانية في بيروت – دمشق – حوران في سوريا” عام 1893. وبدوره، باع بيهم التزامه لدو برتوي سنة 1892 فدمج هذا الاخير شركتي بيهم ومطران في شركة واحدة سنة 1893 تحت اسم “شركة الخطوط الحديدية العثمانية الاقتصادية من بيروت – دمشق – حوران و بيره جك على الفرات.” افتتح الخط رسمياً سنة 1895 في احتفالات ضخمة تزامنت مع الاحتفال بعيد السلطان عبد الحميد الثاني.

خطان اساسيان ربطا الاراضي اللبنانية ببلدان العالم: ش.ح.ت ون.ب.ط.

ش.ح.ت.او خط شام – حماه وتمديداتها: بدأ العمل الرسمي على هذا الخط سنة 1895 ولكن الشركة لم تستطع تحمّل الخسائر المالية التي تكبدتها خلال الفترة الاولى فتدخل البنك العثماني، وهو مؤسسة مالية اوروبية معظم مموليها فرنسيون، واشترى الشركة سنة 1901 وحوّلها الى “خطوط سكك حديد شام – حماه وتمديداتها”.

في موازاة ذلك، كان أهالي طرابلس قد شكّلوا “لجنة مندوبين” قابلت الوالي وتقدمت بعريضة تطالب بخط يصل المدينة بحمص. وفي آذار 1910، صدر فرمان عن السلطنة باعطاء امتياز هذا الخط الى شركة “ش.ح.ت.” وبدأ العمل على انجازه ووضع في الاستثمار الفعلي في حزيران 1911. استفادت مدينتا طرابلس وحمص من هذا الخط، بحيث توسعت تجارة كل منهما وفتح امامهما باب الاستيراد والتصدير بعد ربط طرابلس بسهل عكار ومناطق الحبوب في شمال سوريا. لا بد من الاشارة هنا ان البنك العثماني قررايضاً تمويل خط يربط رياق في البقاع اللبناني بحماه والذي تم افتتاحه في 20 آب 1902. وبذلك، نجحت “ش.ح.ت” بربط المناطق بعضها ببعض فسهّلت عملية التبادل التجاري، كما سمحت لسكان هذه المدن بالتعرف على “الآخر” ففتحت كوة في جدار الانغلاق الاجتماعي الذي فرضته التقسيمات الإدراية العثمانية آنذاك.

وخلال فترة الانتداب الفرنسي، تحديداً سنة 1930، تم افتتاح قطار “طوروس اكسبرس” الذي عرف بفخامته من قبل La Compagnie Internationale des Wagons-Lits et des Grands Express Européens (CIWL). نجح القطار بوصل لندن الى القاهرة عبر الشرق الادنى في رحلة كانت تستغرق سبعة ايام فقط. كانت عربات “طوروس اكسبرس” تنقل الركاب ثلاث مرات في الاسبوع من محطة رياقنحو بيروت والشام ومرتين من حلب وطرابلس. شكلت مسألة الوصول الى القاهرة عائقاً امام الشركة التي لم تنجح بإنشاء خط يصل طرابلس بحيفا[1].

ن.ب.ط. او خط الناقورة – بيروت – طرابلس: اتى الحل لهذه المشكلة سنة 1942 عندما انشأ البريطانيون خط الناقورة – بيروت – طرابلس خلال الحرب العالمية الثانية لنقل جيوشهم من الشمال الى الجنوب والعكس. وبالتالي تم ربط اوروبا بافريقيا بعد تأسيس خط طرابلس – حيفا. عمل هذا الخط لمدة ست سنوات فقط اذ توقف بسبب اندلاع الحرب العربية – الاسرائيلية سنة 1948 وقد ازيل منه خط الناقورة – بيروت فيما بقيت الاجزاء الاخرى سالكة. ساهم هذا الخط بنقل الفيول والترابة والمواشي والقمح. وكانت بيروت تستقبل مرتين في الاسبوع قطار “اكسبرس دولوريان” ناقلاً الركاب من لندن الى لبنان، بالاضافة الى “الاوتومتريس”، وهو نوع قطار كهربائي، كانت تسير على خط بيروت – حلب[2].

الدولة اللبنانية تؤمم السكة

في 6 حزيران 1956، استردت الدولة اللبنانية الخطوط والتمديدات من شركة “ش.ح.ت.” ووحدتها بـ”ن.ب.ط.” تحت اسم “س.د.ل.” اي “سكك الحديد اللبنانية.” وفي 14 نيسان 1961، انشئت “مصلحة سكك حديد الدولة اللبنانية والنقل المشترك لبيروت وضواحيها” بموجب المرسوم رقم 6479، بعدما اشترتها الحكومة اللبنانية من شركة “ش.ح.ت.” الفرنسية بـ10 ملايين ليرة لبنانية في عهد الرئيس فؤاد شهاب. عدل اسمها في ما بعد لتصبح “مصلحة السكك الحديد والنقل المشترك” وعهدت اليها ادارة واستثمار الخطوط الحديدية. تولى ادارتها مجلس ادارة على رأسه مدير عام وفيه مفوض عن الحكومة. وتخضع المصلحة لوصاية وزارة الاشغال العامة والنقل ولرقابة مجلس الخدمة المدنية ووزارة المال.

استمرت سكة الحديد بالعمل على الرغم من الوسائل المتواضعة التي كانت بحوزتها والتي لم تجدد منذ انشائها في اواخر القرن الماضي. فقد أثرت ثورة السيارات التي “اجتاحت” السوق المحلية على حركة الركاب المتنقلين عبر القطار. كما أن الدولة اعتبرت أنّ هذا القطاع لا يؤمن لها الربح الكافي، فتوّقف التمويل واقفل باب التوظيف سنة 1964 مما قلص عدد الموظفين في المصلحة. وبالتالي تراجعت اعمال الصيانة ولم يتمّ شراء اي معدات جديدة لتطوير السكة[3]. تجدر الإشارة هنا الى أن عدد الموظفين في المصلحة تقلص من 1300 قبل الحرب الى حوالي 200 عند انتهائها[4].

الحرب اللبنانية لم تمنع سير القطار

اندلعت الحرب عام 1975 وتوقفت القطارات عن نقل الركاب، لكنها استمرت بنقل المواد الاولية والبضائع بطريقة متقطعة. تمكن مستخدمو السكك بتسيير القطارات على الخط الجنوبي لنقل الفيول الى معامل الكهرباء، ما منع انقطاع الكهرباء عن لبنان طوال فترة الحرب[5].ونتيجة القتال، الحقت اضرار جسيمة بالانشاءات والتجهيزات والمباني بالاضافة الى الآليات والمعدات هذا فضلاً عن التعديات على الاملاك العامة التابعة للمصلحة. ونكتفي هنا بذكر بعض الحوادث التي استهدفت السكة مباشرة. ففي 15 شباط 1979، انفجرت ثلاث عبوات في الكورة وتعطلت نتيجة ذلك حركة مرور القطار من طرابلس الى بيروت[6]. اما في الجنوب، فقد توقف نقل المحروقات بواسطة السكة في كانون الاول 1983 بسبب العمليات العسكرية الاسرائيلية التي استهدفت جزءا من السكة بالقصف[7].كما وطالت عدة عمليات سرقة خطوط السكة اثناء الحرب. ففي ايلول 1989 مثلا، سرقت خطوط سكة الحديد في منطقة البقاع وتمّ نقلها على متن سفينة تركية من مرفأ طرابلس الى باكستان بتغطية من الاجهزة السورية.وقد أدرجت الصفقة في اطار ان البضاعة “حديد خردة”. ووجه حينها اللواء ادغار معلوف، وزير الاشغال في حكومة العماد عون، كتاباً الى النائب العام التمييزي القاضي جوزيف فريحة طالباً اتخاذ اجراءات عاجلة لملاحقة المعتدين وسوقهم للعدالة[8].

لكن تلك الحوادث لم تمنع الدولة اللبنانية ومصلحة السكة من طرح مشاريع لاعادة اعمار وتأهيل الخطوط المتضررة وبالتالي تسيير القطارات من جديد. ففي عام 1983، طلبت المصلحة من شركة سوفريراي (Sofrerail) الفرنسية اجراء دراسة لتأهيل الخط من بيروت الى صيدا لخدمة الركاب. وبالفعل بدأت المصلحة بتنفيذ قسم من المشروع وباشرت شراء قطارات وتأمين شارات ضوئية. وقد لزمت المشروع لشركات بمناقصات عامة، فتوّلت شركة فرنسية تأهيل الخط، وشركة لبنانية – بريطانية اعادة وضع الشارات، واشترت المصلحة لاحقاً ستة قطارات مستعملة من المانيا، لكن الاجتياح الاسرائيلي لبيروت اوقف العمل وبقيت العدّة كلها في مستودعات المصلحة[9]. وفي خطوة منفصلة، قررت الحكومة افتتاح خلال الاشهر الاولى من عام 1985 خط لنقل الركاب بالسكك الحديدية بين بيروت والبترون بعد انقطاع دام نحو عشر سنوات. لكن تداعيات حرب الجبل، التي كانت قد اندلعت في نهاية صيف 1983، ادّت الى توقف الصيانة واتلاف بعض أجزاء المسار. لم يسمح اشتداد القتال بنقل الركاب كما كان مخططاً، لكن تم تسيير القطارات لنقل الفيول من الدورة الى معمل الكهرباء في الزوق[10]. من جهة اخرى، وفي اطار المشاريع الهادفة الى تحسين ظروف النقل في لبنان رغم الحرب القائمة، تقدم الخبير الفرنسي برنارد دوفنغلان عام 1985 بمشروع الى السلطات اللبنانية يعرض فيه اهمية انشاء “مترو” على مستويين داخلي ودولي (مع سوريا ولاحقاً تركيا) يأخذ بعين الاعتبار الاكتظاظ السكاني وطبيعة لبنان الجبلية. تضمنت دراسة دوفنغلان ارقاما تثبت ان كلفة انشاء مثل هذا الخط اقل بكثير مما يفرضه مد طرقات دولية بين البلدين وتأهيلها اذ ان انشاء خط حديد يوازي تأهيل سبعة اوتوسترادات. لكن الدولة اللبنانية اعتبرت المشروع مكلفاً جداً (ثلاثة مليارات دولار)، فلم تصرف الاعتمادات اللازمة لانجازه[11].

ما بعد الحرب: محاولات باءت بالفشل في ظلّ قرار سياسي بتوقيف القطار

توقف القطار عن العمل نهائياً ابّان حرب التحرير سنة 1989. بقي الوضع على حاله حتى سنة 1991 عندما قررت الحكومة اللبنانية تسيير ما عرف بـ”قطار السلام” الذي اعلن معاودة الرحلات بين الدورة وجونيه في 1 تشرين الاول 1991. اعلن وزير الداخلية آنذاك شوقي فاخوري أنّ “التران مشي” وتحدث عن مشروع طموح تعدّه الحكومة يتضمن تسيير القطار ايضاً بين الدورة وساحة العبد ثم الجية – الزهراني. كما واعلم المواطنين انّه سيتمّ ادراج ست الى سبع رحلات يومياً بهدف تأمين انتقال العمال والموظفين الى مراكز عملهم[12]. بدأ العمل فعلياً على الخط في 7 تشرين الاول 1991 بين الدورة وجبيل واستقل القطار خلال 49 يوم عمل 14727 راكباً. وحسب احصاءات المصلحة، قام القطار بـ401 رحلة خلال شهري تشرين الاول والثاني فقط، وبلغت الجباية عن هذين الشهرين 2.544.500 ليرة لبنانية[13]. اثبتت هذه التجربة التي استمرت حوالي سنة نجاحها رغم العوائق التي واجهت مصلحة السكك لاسيما بسبب التعديات على طول الخط وحال السكة والقطارات التي كانت بحاجة الى اصلاحات وتحسينات جذرية. توقف “التران” بعدها عن نقل الركاب لحاجته لصيانة وتجديد العربات والمعدات لكنه استمر بنقل البضائع حتى عام 1994[14]. شجعت عودة السلم على طرح مشاريع لتأهيل واعادة تشغيل السكة لاسيما ان بيروت اضحت المركز الاداري والاقتصادي الاساسي. ومن هذه المشاريع، اعادة العمل بخط يصل صور بطرابلس مروراً ببيروت، والذي هدف الى “ربط المدن بعضها ببعض” حسب وزير النقل عمر مسقاوي[15]. التجأت الحكومة الى شركة سوفريراي مجدداً لوضع دراسة للمشروع في شباط 1994. اوردت الشركة في دراستها انّ 30 بالمئة من اللبنانيين سيمتنعون عن استخدام سياراتهم لربح المزيد من الوقت والمال والراحة النفسية. واكدت ان مصروف المواطن من النقل لن يتعدى 10% من الحد الادنى من راتبه في حال اعتمد القطار، في حين ان الموظف ينفق حوالي 40% للتنقل شهرياً في سيارته[16]. لكن هذا المشروع كما غيره بقي نائماً في ادراج مجلس النواب بحجة عدم امكانية تأمين الاعتمادات اللازمة والتي قدرت بنحو 600 مليون دولار. توقف الحديث عن أية خطة لتفعيل النقل العام بعد هذه المرحلة باستثناء بعض الدراسات التي لم تبصر النور، فتمّ الاستغناء عن القطارات لبناء الأوتوسترادات والجسور. عاد الامل مجدداً بإنعاش هذا المرفق الحيوي عام 2005، حيث تقرر انشاء خط يرتبط بمرفأ طرابلس الى الحدود اللبنانية – السورية (في منطقة العبودية) بطول 35 كيلومتراً، ويرتبط من هذه النقطة بشبكة سكك الحديد السورية وصولاً الى الحدود السورية – العراقية، وكذلك الحدود السورية – التركية. وكان من شأن هذا الخط تفعيل مرفأ طرابلس بالاضافة الى حركة التصدير الى البلدان المجاورة[17]. لكن المشروع لم ينفذ هذه المرة على اثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتأزم العلاقة بين الجانبين اللبناني والسوري. ومؤخراً قدمت المديرية العامة للنقل دراسة تؤكد إمكانية إعادة العمل على خط بيروت – طبرجا في كلفة لا تزيد عن 250 مليون دولار وبمردود سيكون بمعدل 14% سنوياً، ما يسمح بتغطية كلفة الاستثمار خلال سبع سنوات فقط. لكن المشروع لم يدخل حتى الآن حيّز المناقشة الجدية[18].

في الخلاصة، اجتمعت مصالح تجار بيروت وطرابلس مع مصالح الشركات الاوروبية من اجل انشاء سكة الحديد في كلتا المدينتين بغية تفعيل دوريهما كمرفق حيوي في المنطقة. اراد وجهاء المدينة الحفاظ على مكانة مدينتيهم التجارية فتعاونوا مع الاوروبيين لانشاء السكة ونجحوا بوصل المدينتين بالعالم. لكن تلكؤ الدولة اللبنانية فيما بعد عن الاهتمام بهذا القطاع بحجة انه لا يدرّ اموال كافية على خزينتها، متجاهلة منافعه الاجتماعية والاقتصادية، ادّى الى انهياره شيئاً فشيئاً. فأتت الحرب اللبنانية والحكومات التي تعاقبت بعد انتهائها للقضاء عليه. لم يعر اهل الحكم اهمية لدور القطار في تعزيز النمو الاقتصادي وتسهيل حركة التجارة داخلياً وخارجياً، وتسهيل نقل البضائع من المرافئ الى الداخل اللبناني والبلدان المجاورة، هذا فضلاً عن تأمين وسيلة نقل مريحة للبنانيين تجنبهم “الكارثة” التي يعيشونها على الطرقات. كما وان غياب وسائل النقل دفعت باللبنانيين الى التمركز داخل وحول بيروت بسبب تحوّل العاصمة الى المحور الاقتصادي والاداري الوحيد بغياب اي طروحات بديلة تشجع على الاستثمار وايجاد فرص عمل خارج المدينة. وفي ظلّ هذا الوضع المتأزم، تبقى الدولة عاجزة عن طرح ايّ حلّ عملي من شأنه تطوير قطاع النقل العام فيسمح بتخفيف العبء الاقتصادي والصحي والنفسي عن كاهل المواطنين.

نشر هذا المقال في العدد | 21 |أبلول/سبتمبر/  2014 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك الضغط هنا


[2]المراجع التي عدنا اليها في هذا القسم
Hanssen, Jens. Fin de Siècle Beirut: The Making of an Ottoman Provincial Capital. Oxford: Clarendon Press, 2005
Fawaz, Leila. “The Beirut-Damascus Road: Connecting the Syrian Coast to the Interior in the Nineteenth Century” in T.Philip (eds.) The Syrian Land in the 18th and 19th Century: Integration and Fragmentation. Stuttgart: Steiner Verlag, 1998
Khairallah, Shereen. Railways in the Middle East: 1856 – 1948. Beirut: Librairie du Liban, 1991
قصير، سمير. تاريخ بيروت. بيروت: دار النهار، 2007
[3]– ريتا شرارة. السكة الحديد تعود الى الخط الساحلي، قطارات حديثة وسريعة بين صور وطرابلس و30 بالمئة من اللبنانيين يتخلون عن سياراتهم. جريدة النهار، 22 آذار 1994
[4]– ميرنا عرموني. محطة بيروت الكبرى تستذكر شبابها وتأمل بترميم قريب. المسؤولون لا مبالون والموظفون يصرخون: لا تحولوها سوقاً. جريدة النهار، 25 ايلول 1997
[5]– الامير عبدالله شهاب. تقرير عن السكك الحديد والنقل المشترك، ما سرق ودمّر ونهب. جريدة النهار، 1990
[6]– جريدة النهار. ثلاث عبوات ناسفة في الكورة تعطل خط السكة الحديد. 16 شباط 1979
[7]– جريدة النهار. نقل الفيول اويل بالصهاريج بعد تعطل خط السكة الحديد. 8 كانون الاول 1983
[8]– جريدة الديار. معلوف يطالب بملاحقة سارقي خطوط السكة الحديد ونقلها للخارج. 22 ايلول 1989
[9]– ميرنا عرموني. جريدة النهار، المرجع المذكور اعلاه
[10]L’Orient Le Jour. Les autorails relieront Beyrouth à Jbeil en 35 minutes. Mercredi 24 Octobre 1984
[11]– ريتا شرارة. جريدة النهار. المرجع المذكور اعلاه.
[12]– بهاء الرملي. 45 دقيقة من الدورة الى جونيه. “قطار السلام” انطلق بصعوبة ونقل الركاب الى الاثنين. جريدة النهار، 2 تشرين الاول 1991
[13]– جريدة النهار. السكك الحديد في 49 يوم عمل: 14727 راكباً و2.544.500 ليرة. 1 كانون الثاني 1992.
[15]– ريتا شرارة. جريدة النهار. المرجع المذكور اعلاه
[16]– ريتا شرارة. جريدة النهار. المرجع المذكور اعلاه
[17]– راند الخطيب. مفاوضات لبنانية – سورية لبدء الاشغال اول 2006. تأهيا سكة طرابلس – العبودية ينتظر بت اسعار الاعمال وتكلفة المشروع النهائية. جريدة المستقبل، 28 كانون الاول 2005
[18]– محمد وهبة. وصلة قطار بين طبرجا وبيروت. جريدة الاخبار، 28 حزيران 2014
انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني