قرى قضاء بعلبك وجلجلة محاولة استئناف الحياة


2024-11-29    |   

قرى قضاء بعلبك وجلجلة محاولة استئناف الحياة
الدمار رفيق الطرقات في قضاء بعلبك

كل البلدات والقرى، وطبعًا المدن، تكبر وتزدهر مع الوقت، وحدها مزارع بيت مشيك تتقلص من دون أن تُمحى. يبدو أنّ إسرائيل حاولت في هذا العدوان، وخصوصًا مع تصاعده بعد إنذار 23 أيلول منطقة البقاع بالإخلاء، أن تفعل ما عجز عنه الزمن، أن تمحي ما استطاعت من 14 مزرعة، يسكنها أبناء عشيرة مشيك. تقول ذلك الغارات المكثّفة العنيفة التي أوقعت نحو 30 شهيدًا من أبنائها بين أطفال ونساء وشيوخ وشبان، ودمرت منازل ومحلات ومصالح بعض أهلها، بما فيها مزارع الحيوانات والدواجن وخلايا النحل، مصادر دخل ناس منطقة ما زالت تعتمد على الأنشطة الزراعية لتأمين اكتفاء متواضع للعيش.

واللافت أن مزارع بيت مشيك التي يصلها قاصدها من مدينة بعلبك عبر بلدة بوداي ومنها إلى كفردان حيث تتفرع طريق ضيقة بالكاد تتّسع سيارتين في بعض الأماكن وليس كلّها، قد وضعتها إسرائيل على خريطة العدوان قبل أن تدرجها السلطة اللبنانية على خارطة الوطن إنمائيًا. حتى أنّ أسماء مزارعها التي نما بعضها ليصبح بلدات وقرى لم تتغير في التسميات الرسمية. ومع ذلك اهتدت إسرائيل إلى مراح الجمل وقلد السبع على ارتفاع 1550 مترًا عن سطح البحر، وقصفت الزعارير ووادي أم علي، ومصنع الزهراء وأطراف صيرة هنا، والصبحة، ورماسا، ولم توفر صقر ونجم، وخصّت الوادي الأحمر وشقيقه الأسود بغارتين. أما العدوان على مزرعة أم التوت فما زال صداه يتردّد في رأس الحاجة هدى، أم علي، التي قررت البقاء في الزعارير، مع أبو علي الذي رفض النزوح عنها. 

تستغرق هدى في الحديث عن 66 يومًا من العيش في الزعارير تحت صواريخ الطيران الحربي وطنين المسيّرات واستهدافاتها، وركوة القهوة تفور بين يديها. “يا عدرة”، تقول وهي تسحب الركوة بعيدًا عن النار. أسأل أم علي إن كانت قد توارثت الاستنجاد بالسيدة العذراء عن أجداد آل مشيك الذين تهجروا من كسروان وجبيل أيام الأتراك، فتضحك وتجيب “أنا مش مشيكية، أنا ربيانة بكفرشيما ببيروت، وتزوجت لهون قبل شي خمسين سنة كنت بعدني طفلة”. قبل أن تسكب أم علي القهوة تأتي بصورة لها مع الحاج أثناء رحلة الحج إلى مكة، بالقرب من الصورة تضع أيقونة للسيدة العذراء: “عنا بالمزارع كتار متزوجين من أهلنا بالعاقورة وأفقا وعيون السيمان”، يشرح أبو علي و”هدى بتحب السيدة العذراء كتير”، يضيف. 

في رحلتك إلى مزارع بيت مشيك تكتشف أن طرقهم نحو جيرانهم في جبيل وكسروان سالكة كما نحو قضاء بعلبك وأكثر. وعليه، مع أول غارة شنّها الطيران الحربي على منزل الشهيد شهاب مشيك في مراح الجمل، حيث استشهد مع شقيقه ياسين وزوجته إنعام في اليوم الأول لتصاعد العدوان على البقاع في 23 أيلول، وقبل إنذار البقاع بساعات، انهالت على أهالي المزارع الـ14 الاتّصالات من بلدات العاقورة وأفقا وعيون السيمان تقول “البيوت بيوتكم”. لم ينزح إلى المناطق الآمنة في بيروت وحولها سوى مَن أخذتهم الحياة للعلم والعمل فيها، فاشتروا بيوتًا أو أستأجروها هناك.

وأنا أحاول الوصول إلى منزل أحمد مشيك، شقيق شهداء مراح الجمل، ترافقني المنازل المدمّرة في مزرعتي أم التوت، ورماسا. بيوت مُسحت بالأرض، فيما كانت الوحدات السكنية المتضررة حول مكان كل استهداف بوصلتي لتحديد نقاط الغارات. يمكن القول بسهولة أن التدمير الجزئي غير المباشر لا يقل في كل غارة عن عشرة منازل في كل استهداف، حيث حوّل فتك الأسلحة المستعملة في هذه الحرب المنشآت إلى أكوام حجارة لا تعرف لولا تكومها أنها كانت منزلًا: “لمش قادرين يرجعوا ع بيوتهم المتضررة كتار، أكتر بكتير من لفقدوا بيوتهم نهائيًا”، وأحمد مشيك واحد من هؤلاء.

استهداف الناس وأرزاقها

كان أبو عبدالله (أحمد مشيك) يحاول تشغيل مولّد الكهرباء ليضخّ المياه حيث يساعد زوجته في محاولة تنظيف بعض غرف بيته الذي عاد إليه صباح أمس. يستعدّ الرجل لاستقبال المعزّين بشقيقيْه شهاب وسليمان وزوجة الأخير. ما إن يبدأ الرجل الستيني الحديث عما جرى صباح 23 أيلول حتى يعود طفلًا صغيرًا يبكي لمجرد أن يضطر للفظ اسميّ شقيقيه الشهيدين اللذين يصغرانه عمرًا. لم يمرّ اسمُهما مرّة إلا وغصّ وأخذ بعض الوقت ليتمكن من متابعة حديثه. سمّى الشهيد شهاب ابنه البكر أحمد تيمنًا باسم شقيقه الأكبر أبو عبدالله، وحدها نجاة أحمد، سميّه، تعيد الابتسامة إلى وجهه رغم إصابة الأخير بجراح خطرة “لكنه نجا الحمدالله”. نفذت علبة دخان الشهيد شهاب فقال له أحمد، ابنه، “معي علبة تانية بالسيارة رح جيبلك اياها”، حاول الرجل ثني ابنه: “ما تتعذب يا بيي”. لكن الإبن أسرع إلى الخارج وما أن دخل سيارته قد وقع الصاروخ وهُدّ المنزل على رؤوس من فيه. ومع استهداف منزل شهاب، دمّرت إسرائيل صيرة المواشي على 20 رأس ماعز وقتلتهم “كل الناس خسرت أرزاق، بس هلأ ما حدا عم يحكي فيها، الأرواح أهم وبعدها البيوت، الناس بدها ترجع ع ضيعها”.

ينظر أحمد مشيك من حوله متأملًا في أحراج السنديان والصنوبر والبلوط: “كانت المزارع ملجأنا بالحرب اللبنانية وبعدوان الـ 2006، ما توقعت يجي يوم ونضطر ننزح عنها بسبب حرب”.

في الطريق من مراح الجمل إلى وادي أم علي أمرّ بأحد الرعاة في مزرعة قلد السبع حيث استشهد ثلاثة شبان من أبنائها: “كانوا ما يقبلوا إلا يعزموني لعندهم ع الغدا كلما وصلت لحدهم”، يقول بينما كان يتفقد ركام المنزل المدمّر. نزح الراعي بقطيعه إلى جرد العاقورة “ما عندي غير هالمعزيات عيّش عيلتي منهم، هربتهم من الحرب متل ما هربّت أولادي”. كان الشبان يتفقدون أرزاقهم في القلد التي تحولت إلى مصيّف نهاية الأسبوع بعدما هجرها أهلها بسبب افتقارها إلى أدنى مقومات الحياة ومنها الكهرباء التي وصلتها قبل سنوات فقط. لكن منازل مزرعة صيرة هنا صارت أطلالًا منذ سنوات “فلوا أهلها ع وادي أم علي لأنه أدفى بشوي، وطريق التراب بتوحل بالشتا”. الطريق بين قلد السبع مرورًا بمزرعة صيرة هنا المهجورة وصولًا إلى وادي أم علي حيث وقعت أخر مجزرة إسرائيلية قبل ساعات من وقف إطلاق النار سقط نتيجتها 13 شهيدًا معظمهم من الأطفال والنساء مع الجد والجدة، تغطيها قشرة رقيقة من الإسمنت بعدما سعى أهل المزرعتين لتعبيدها بمساعدة مؤسسة جهاد البناء. تزامن وصولي إلى مكان المجزرة مع تجمع الأهالي لتشييع الشهداء. يقول رجل بين الجمع “الوضع صعب كتير”، على وقع نحيب النسوة. “ما لقيوا إلا جثمان الجد وبعض الأشلاء” يضيف وهو يعتذر مني. في المقبرة حفر من تبقى من العائلة قبورًا حتى للذين لم يعثروا على جثامينهم وبينهم ستة أطفال. أقفلت القبور الصغيرة فارغة لتبقى الأسماء على الأقل بعد رحيل الصغار.

40 شهيدًا و87 غارة في طاريا

أغادر وادي أم علي مع المعزين الذين جاؤوا من طاريا يشاركون جيرانهم مصابهم. هنا صار تبادل التعازي استكمال الناس لعزواتها حيث يعزي الحاضرون بعضهم البعض: “هن ما تركونا بعزواتنا”. وعزاوات طاريا كانت كثيرة في هذا العدوان، حتى سوقها الذي يقصدها جيرانها من بلدات قضاء بعلبك ما زال مقفلًا بسبب الأضرار الكبيرة التي أصابت محلاته. كانت حصة طاريا من العدوان 40 شهيدًا ممّن لم يتركوا البلدة بعدما ورد مخاتيرها اتصالات من أشخاص عرّفوا عن أنفسهم أنهم من الجيش الإسرائيلي تطالبهم بإخلاء البلدة، ومنهم المختار حسن سماحة. كان سماحة يتفقّد الأهالي الذين عادوا من نزوحهم: “أنا بقيت بطاريا، بس كان صعب ع العائلات وخصوصًا لعندها أطفال تبقى في ظل همجية إجرامية لم تميّز بين كبير وصغير”. بالقرب من منزل مدمّر لعائلة عادت لتسكن عند أقاربها، تتكوّم مزرعة أبقار على الأرض بعدما قتل العدوان كل رؤوس الأبقار فيها: “إسرائيل ما كنت عم تقتل بس البشر، كان واضح إنها بدها تدمر حتى مقومات الحياة بكل المناطق المستهدفة”، يضيف سماحة “واستهداف سوق طاريا دليل آخر”.

بعض أهالي طاريا من النازحين، وخصوصًا ممن استأجروا بيوتًا في مناطق كانت مصنفة آمنة حضروا يتفقدون منازلهم وقرر البعض منهم عدم ترك مأجورهم إلى حين ترميم الأضرار. يتسابق هؤلاء مع بدء عودة الحياة إلى مجاريها “المدارس بدها تفتح حضوريًا وفقًا لقرار وزارة التربية، المعلمين والتلاميذ لازم يكونوا جاهزين، ما حدا فكّر بوضعنا؟ وقديش بدنا لنجهز؟”، تسأل جنان حمية، ابنة طاريا. تطايرت نوافذ منزل جنان وأبوابه إثر استهداف منزل جيرانها “ما قادرة استوعب خسارتي جيراني بعد، وع كثرة البيوت المتضررة، وبعد ما حكينا بإعادة إعمار المدمر منها، معلمين الألمنيوم والحديد والقزاز مش عم يلحقوا، فكيف بدنا نرجع ع بيوتنا ونبعت اولادنا ع المدارس التنين، ونروح نحن ع وظايفنا؟”.  

أمسيات المقابر في شمسطار

ما أنّ تحل الساعة الرابعة من بعد الظهر في شمسطار ومزرعة بيت صليبي التابعة لها حتى يخرج الناس من منازلهم ويتوافدون من الطرقات المؤدية إلى مقبرة البلدة، إنه موعد تجدد العزاوات التي لم تتمكن عائلات الشهداء من إقامتها تحت القصف. تبدو البلدة في طور استيعاب صدمة ما حصل مع خسارتها 45 شهيدًا من أبنائها، والكثير من الوحدات السكنية المدمرة والمتضررة نتيجة أكثر من ثمانين غارة شنّها الطيران الحربي الإسرائيلي على شمسطار ومزرعة بيت صليبي. والحزن هنا، لا بل الفجيعة، ترجمتها البلدة وعائلاتها بتخصيص الجزء الجنوبي من المقبرة لشهداء العدوان الحالي، لتقول أن هذا الموت الآن، والآن هنا، مختلف وجدًا. موت تختصر مظلوميته ابتسامات الأطفال في الصور التي وضعت على رؤوس القبور الترابية، حيث لم يتسنّ تركيب الرخام في ظلّ العدوان، فاستعاضوا بالورود التي ما زالت نضرة، عمرها من عمر وقف إطلاق النار.   

وسط سواد الحداد الذي يملأ المقبرة والطريق إليها، يعلو أحيانًا نحيب الأمهات والأخوات والقريبات ليشذّ عن هدوء من يتلون القرآن بصوت منخفض كفعل “تصبّر”، كما يقول شاب لوالدته التي علا صراخها على قبر ابنتها العشرينية “إقري لها الفاتحة، إقري لها الفاتحة، مش شايفة كيف الناس مصبّرة وعم تقرا قرآن لشهدائها؟”. وحده غناء طفل يعلو في المكان منسابًا من هاتف والده الذي جلس بالقرب من قبره يسترجع حياته معه، وصوته. يفقد الأب، الذي يبدو أنه لم يبلغ الثلاثين من عمره بعد، صبره ويعلو نشيج بكائه “كسرتلي ضهري يا بيي”، يردد فيما يحاول صديقه مواساته بفقدان وحيده. يتوقف الشاب عن البكاء على طفله، ليبدأ بمعاتبة زوجته العشرينية: “هيك بتتركيني وحدي وبتروحوا سوا”. لم يشأ أن يترك طفله وحيدا “كان بحضنها وقت استشهدوا”، وبقي في حضنها عندما دفنا في القبر نفسه.

17 من شهداء مجزرة اللحظات الأخيرة قبل وقف إطلاق النار واوراق توثق أسماءهم بانتظار رخام القبور

في المقبرة أيضًا كتب على خشبة رُفعت على جميع قبور شهداء المجزرة التي استهدفت عائلة من آل أحمد حيدر، اسم دوبا أحمد حيدر. لم يتسنّ لنا معرفة اسم عائلة دوبا العاملة الأجنبية التي استشهدت مع 16 فردًا من العائلة نفسها يوم الثلاثاء، وقبل ساعات قليلة من سريان وقف إطلاق النار. يقول الجيران الذين جاؤوا يتلون الفاتحة على قبور جيرانهم أن أقارب العائلة شاؤوا أن يدفنوا العاملة مع العائلة، وأن تحمل اسمهم لأنها كانت بمثابة فرد من عائلاتهم.

قبر دوبا، العاملة المنزلية التي استشهدت مع أصحاب العمل فدفنت معهم وأخذت اسم عائلتهم

بالقرب من قبور مجزرة الـ 17 شهيدًا، كان هناك خمسة قبور مغطاة بالإسمنت وعليها خمسة أحجار لبن. تضمّ القبور أمّا وابنها وابنتها مع طفليها: “ما بقي إلّا الأب وبنتهم المتزوجة خارج الضيعة”. جاءت الابنة وأخذت والدها المسن الذي نجا وحيدًا، تقول جارتهم التي تزور قبورهم، فيما كانت تضيئ شمعة على رأس كل قبر وهي تقرأ لشهيدها سورة الفاتحة. 

يبدو أن مرور الوقت بعد وقف نار العدوان لا يفعل سوى تعميق إدارك ناس قرى قضاء بعلبك وبلداته حجم العدوان وتأثيره عليهم. يبدو أن لملمة الجراح وعودة الحياة ستكون جلجلة قد تنتهي عمليًا مع الوقت، ولكن قساوة أثرها النفسي على الناس سيمكث طويلًا. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في الحياة ، لبنان ، مقالات ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني