قبل صعودهم على متن “البطّاح”، العبّارة التي تُقلّ المسافرين من ميناء صفاقس إلى جزيرة قرقنة، تعرّضَ العديد من المواطنين التونسيين إلى حملات تفتيش أمنية ومَنعَتهم قوات البوليس من الولوج إلى الجزيرة. لم توضّح وزارة الداخلية أسباب المنع وأسسه القانونية. وإنما اكتفى أعوان التنفيذ بإخبار الممنوعين أن هذا الإجراء يأتي في إطار تنفيذ أوامر القيادة الأمنية بهدف ضبط الهجرة غير النظامية.
شملَ المنع الشرائح الشبابية، بخاصة القادمين من المناطق الداخلية والأحزمة الشعبية المحيطة بمدينة صفاقس. وعادة ما يُسمَح فقط بالعبور لكبار السن والأطفال والمُقيمين بالجزيرة. وفي بعض الأحيان، يكون الإجراء انتقائيا ويخضع للسلطة التقديرية لعون الأمن. في هذا السياق، تحدثت المفكرة القانونية إلى شبان ونشطاء واكبوا الحملات الأمنية وشَملتهم إجراءات التفتيش وتعرّضوا بدورهم إلى المنع.
استظهار ببطاقة الهوية ثم المنع
عندما غادر بومدين النصيري مدينة سيدي بوزيد ذاهبا إلى جزيرة قرقنة صحبة أصدقائه وأخيه الأصغر لم يكن يدرك أن الرحلة ستقف في ميناء صفاقس، وأنه لن يتمكن من صعود “البطّاح”[1]. قال الشاب العشريني المتحصل على الإجازة في الحقوق للمفكرة القانونية: “بمجرد اقتطاع التذاكر لاحظنا في باب الميناء تواجدا أمنيا مكثفا، وعند الاستظهار بالتذاكر انتبهنا إلى منع بعض المواطنين. سُمِح للسيارات بالمرور من دون تفتيش وطالما أننا كنا مترجّلين طلَبَ منّا أعوان الأمن الاستظهار بهوياتنا. بعد التثبّت من هويتي، أشار إليّ أحد الأعوان مستنكرا “أنت قادم من سيدي بوزيد ما الذي ستفعله في قرقنة؟” ثم أعلمني بكل بساطة أنّني لن أصعد على متن العَبَّارة”.
حاوَل بومدين الاستفسار عن أسباب المنع ولكنه لم يتلقّ إجابات مقنعة. وقد أضاف قائلا: “عندما تمّ منع بعض الشبان الآخرين قمنا بالاحتجاج على شركة النقل وطالبناها بتوضيحات حول أسباب المنع. قام أعوان الأمن بدفعنا وافتكّوا تذاكرنا. وفي نهاية المطاف، عَمدَ أحد الأعوان إلى الاعتداء عليَّ بالعنف وحاول منعي من الخروج من الميناء. بعدها اتصلنا بالإدارة التي أعلمتنا أن هذا الإجراء يهدف إلى الحدّ من ظاهرة الهجرة غير النظامية”.
باتت حملات المنع والفرز الأمني للمسافرين إلى الجزيرة ظاهرة يومية. في هذا السياق، أفاد أحمد السويسي، ناشط سياسي وأصيل جزيرة قرقنة، للمفكرة القانونية: “كلّ من هو غير مولود أو مقيم في قرقنة فهو من وجهة نظر الأجهزة الأمنية مشروع “حرّاق”.[2] الممنوعون من دخول الجزيرة هم من الشباب من الجنسين من دون استثناء، وبخاصة الشباب القادمين من المناطق الداخلية. وحتى المقيمين في ولاية صفاقس يشملهم الفرز. تأمرهم الدورية الأمنية بمغادرة الميناء من دون شرح أو تأييد قانوني للمنع”.
وأضاف السويسي بأن إجراءات المنع خلَقَت شبكات هجرة غير نظامية داخلية تربِطُ أساسا بين شواطئ صفاقس وجزيرة قرقنة. قائلا: “أصبح سكان الجزيرة يتداولون أخبارا عن وجود رحلات موازية للرحلات القانونية ترتبط أساسا بالهجرة غير النظامية. وتجني منها شبكات التهريب أموالا طائلة تصل فيها الرحلة إلى 500 دينار للشخص الواحد”.
من جهتها، قالت ريم بن عامر رئيسة فرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بصفاقس الشمالية، للمفكرة القانونية: “يُعتبر المنع اعتداءً ممنهجا على حرية التنقّل. وهذا الإجراء غير القانوني لم يحدّ من ظاهرة الهجرة غير النظامية. وأثبت فشله نظرا لاستمرار الهجرة إلى أوروبا عبر شواطئ جزيرة قرقنة. وسيوّلد المنع نقمة متزايدة في صفوف الشباب التونسي الذي سيستبطن الميز والاحتقار داخل وطنه”.
مشروع صغير مُهدّد بالإفلاس بسبب المنع
خلال الصائفة تشهد قرقنة حركة تنقل استثنائية، مرتبطة بتوافد المصطافين إلى شواطئ الجزيرة. وتُواكب هذه الحركة أنشطة ترفيهية وسياحية. بولبابة السويسي، أصيل جزيرة قرقنة وصاحب مشروع تنظيم رحلات بحرية ترفيهية ورحلات غوص، أصبح غير قادرٍ على تأمين استمرار مشروعه الذي دشّنه خلال موسم الصيف. وذلك بسبب إجراءات المنع التي تحُول دون وصول زبائنه إلى الجزيرة.
واكَب بولبابة المنع الأمني عندما أراد مرافقة بعض زبائنه من ميناء صفاقس في اتجاه جزيرة قرقنة. وقد وصف الحادثة للمفكرة القانونية قائلا: “في المدة القليلة الفارطة تنقّلت بسيارة العمل إلى مدينة صفاقس لمرافقة بعض الزبائن إلى الجزيرة. وعند الوصول إلى الميناء خضعنا لحملة تفتيش أمنية. طلبوا منا بطاقات الهوية. وعندما اكتشفوا أن الزبائن ليسوا أصيلي قرقنة منعوهم من الصعود إلى العبّارة من دون توضيح أسباب المنع. حين طالبتهم بتفسير هذا الإجراء، أشارَ عليّ عون الأمن بالتقدم بشكاية في الغرض وقال لي أنه بصدد تطبيق الأوامر. ورغم اقتناعي بأن المنع غير قانوني وعبثي، إلا أنه ومن أجل انقاذ مشروعي، طالبتُهم بإمكانية القيام بالتزام شخصي مكتوب يضمن عدم انخراط الأشخاص الذين أقلّهم في رحلات الهجرة غير نظامية. ولكن أعوان الأمن رفضوا ذلك رغم أنني أعلمتهم بأن المنع يسبب أضرارا مالية فادحة للمشروع”.
لاحظ بولبابة السويسي أيضا انتقائية الإجراء الأمني. مشيرا إلى أنه لا يشمل الجميع بنفس القدر وهو ما يُشكّل أمرا مُريبا بالنسبة إليه. قال في هذا الصدد: “الجزيرة صغيرة وتقريبا “القراقنة” يعرفون بعضهم البعض. ولكن أحيانا تنطلق العبّارة من الميناء وتَحمل على متنها وافدين من خارج الجزيرة لا نعرف لماذا سُمح لهم بالمرور دون غيرهم. المنع لا يشمل الجميع. لأن أعوان الأمن يعطون الإذن لبعض القادمين من خارج الجزيرة دون إخضاعهم للتفتيش الأمني. هناك تمييز يُخفي تساهلا مع شبكات الهجرة غير النظامية، وأكبر دليل على ذلك أن رحلات الهجرة غير النظامية المُنطلقة من الجزيرة لم تتوقف أبدا”.
تونس: شرطة الضفة الجنوبية للمتوسط
تُعتبر جزيرة قرقنة، الواقعة شرق البلاد التونسية والتي لا تَبعد سوى كيلومترات عن سواحل صفاقس، إحدى بوّابات العبور الرئيسية إلى الفضاء الأوروبي. وتَشهد شواطئ الجزيرة نشاطًا مكثّفا لرحلات الهجرة غير النظامية، بخاصة في فصل الصيف. ودائما ما تظهر الجزيرة في نشرة البلاغات التابعة لوزارة الداخلية التونسية كساحة لنشاط مراكب الهجرة غير النظامية. وعادة ما تشير البيانات الأمنية إلى إحباط عمليات هجرة في عرض البحر، أو تفكيك شبكات بصدد الإعداد لرحلات بحرية، أو انتشال مهاجرين غير نظاميين عالقين في سواحل صفاقس وجزيرة قرقنة.
عموما، اتجهت السياسات التونسية نحو الحلول الأمنية المُتناسبة مع السياسات الحدودية للاتحاد الأوروبي. بعد صعوده إلى سدّة الحكم بأقل من سنة زارَ الرئيس سعيد جزيرة قرقنة في 02 أوت 2020، وذلك بعد أيام قليلة من زيارة أدّتها وزيرة الداخلية الإيطالية لوتشيانا لامورغيسي إلى تونس. تزامُن الزيارتين يكشف عن حجم الضغوطات التي مارسها الجانب الإيطالي على السلطات التونسية، خاصّة وأن التونسيّين يشكلون تقريبا 45% من المهاجرين غير النظاميين الذين وصلوا إلى السواحل الإيطالية شهر جويلية 2020. في ذلك الوقت، لم ينتقد الرئيس التونسي السياسات الحدودية الأوروبية، وإنما أعطى لمحة تاريخية عن تطور العلاقات الهجرية بين تونس والاتحاد الأوروبي منذ سبعينات القرن الماضي. وبَسَطَ بشكل واضح تصوّره للأسباب الرئيسية للهجرة قائلا: “القضيّة ليست قضية علاقات مع دول الشمال وإنما قضية تونسية- تونسية وكلكم يذكر موجة الهجرة بعد 14 جانفي 2011 لم تكن من قبيل الصدفة. الهجرة غير النظامية أو غير الشرعية يتم التنظيم لها لأسباب سياسية من طرف البعض وهي الدائرة الأولى التي تتحمل المسؤولية. هناك من يشجّع عليها للإيحاء بأن الانتخابات الرئاسية لم تؤدِّ إلى تحقيق أهداف الشعب التونسي لأنهم لم يتركوا لنا مجالا للعمل”.
لم يُخفِ الرئيس أن عمليات الهجرة تقف وراءها مؤامرة داخلية كبرى ضد صعوده إلى سدة الحكم، وهو خطاب موّجه إلى الداخل. أما بالنسبة للموقف المُرسَل إلى الخارج، فقد عبّر عنه فيس سعيد في التصريح الآني: “قلت لهم عوض أن نشتري الأسلحة ونطوّر طرق المراقبة لنبحث عن الأسباب الحقيقية. وكان هناك نوع من التفهّم. على الخارج أن يتفهم أن المقاربات الأمنية لا تكفِي. بل يجب أن نبحث عن الأسباب العميقة التي أدّت إلى هذه الظاهرة. يجب أن تكون هناك مقاربة مختلفة عن المقاربة السابقة التي لم تؤدّ إلى أي تغيير. هناك ضحايا الفقر وضحايا البؤس السياسي”.
لم تختلف تصريحات الرئيس سعيّد عن موقف وزيرة الداخلية الإيطالية التي زارت تونس مرة ثانية في 20 ماي 2021. وحسب بلاغ نشرته الرئاسة التونسية أعربت المسؤولة الإيطالية عن “التزام بلادها بمواصلة دعم تونس عبر دفع نسق الاستثمار والمساهمة في تنمية المناطق الداخلية وخلق مواطن شغل لفائدة الشباب قصد الحدّ من ظاهرة الهجرة”.
على المستوى العملي، ظلت السياسات الأمنية مركز التفاوض الرئيسي بين الجانبين التونسي والإيطالي والأوروبي بشكل عام. وهي تَدفع الدولة التونسية نحو القيام بدور شرطي الضفة الجنوبية للمتوسط. ويُشكل تأمين هذا الدور محلّ ضغوطات متواصلة من الجهة الأوروبية على السلطات التونسية، التي تسعى دائما إلى إظهار قدرتها على تنفيذ واجبات الحراسة البحرية. فقد صرّح مؤخرا المتحدث باسم الحرس الوطني أنه “تمّ إحباط 1509 عملية اجتياز للحدود البحرية خلسة في الفترة الممتدةّ من غرّة جانفي 2022 الى 23 أوت الجاري، وإيقاف 299 منظم عملية اجتياز وأكثر من 150 وسيطا تونسيا، إضافة إلى إيقاف 11 منظما أجنبيا و7 وسطاء أجانب”.
ولكن الحلول الأمنية أثبتت محدوديتها في التقليص من ظاهرة الهجرة غير النّظامية. فقد أشار المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى أنه وصل إلى إيطاليا منذ بداية السنة 51353 مهاجرا منهم 10139 من ذوي الجنسية التونسية من ضمنهم 2102 قاصرا و498 امرأة دون اعتبار الأرقام غير المرئية والتي لا يمكن رصدها. وأشار المنتدى أيضا إلى أن “الراديكالية الأمنية لم تنجح في وقف التدفقات ولا في إيقاف الموت حيث من بين 875 ضحية ومفقود في البحر الأبيض المتوسط الأوسط منذ بداية السنة، رصد المنتدى منهم 443 ضحية ومفقود في المياه الإقليمية التونسية”.
[1] البطاح هو المصطلح العامي الذي يُطلق في تونس على العبارة البحرية التي تُقل المسافرين من الميناء إلى الجزيرة.
[2] الحرّاق هو الصفة التي تطلق على المهاجر غير النظامي