صور تعود لسوريين احتُجزوا أو اختفوا وضعها أقاربهم أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي- هيومن رايتس ووتش
في سابقة منذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، أصدرت محكمة العدل الدوليّة في 16/11/2023، قرارًا بفرض تدابير مؤقتة على الدولة السورية بهدف حماية ضحايا التعذيب المحتملين وحقهم في العدالة. وعليه، ألزمت المحكمة السلطات السوريّة باتخاذ (1) جميع الإجراءات التي في وسعها لمنع أعمال التعذيب وغيرها من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وضمان عدم ارتكابها، و(2) أيضًا تدابير فعالة لمنـع تدميـر وضمان الحفاظ علـى أيّة دلائل تتعلّق بادعاءات وقـوع أفعال تندرج ضمن نطاق اتفاقية مناهضة التعذيب. ويأتي هذا القرار نتيجة الدعوى المشتركة التي تقدّمت بها كندا وهولندا في 8/6/2023 ضدّ الدولة السورية أمام المحكمة بشأن الانتهاكات المزعومة لاتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب لعام 1984، وذلك بصفتهما طرفين في الاتفاقيّة التي صادقت عليها سوريا أيضًا.
وكانت المحكمة عقدت أول جلساتها للنظر في هذه القضية في تشرين الأوّل 2023، حينما عمدت هولندا وكندا إلى تقديم ادعاءات تفصيلية إلى المحكمة بشأن انتهاك سوريا للاتفاقية، والمعاملة غير القانونية للمحتجزين، وظروف الاحتجاز اللاإنسانية، والإخفاء القسري، والعنف الجنسي، والعنف ضد الأطفال، واستخدام الأسلحة الكيميائية. أمّا سوريا فلم تشارك في جلسات الاستماع، بالرغم من أنها طالبت بتأجيلها ثلاثة أشهر، وأكتفت بتقديم رسالة في 10 تشرين الأول تُحدد موقفها لتنظر فيها المحكمة، أنكرت فيها جميع الادّعاءات الموجهة ضدها بارتكاب التعذيب.
ونظراً لأهميّة الحكم وما يمثلّه، نطرح الملاحظات التالية:
1- بشأن الآلية المعتمدة لمحاكمة النظام السوري
على الرغم من حصول العديد من المحاكمات الجنائية لأفراد سوريين بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، إلّا أنّ هذه المرة الأولى التي تكون فيها الدولة السورية نفسها طرفًا في الدعوى القضائيّة، أمام أعلى محكمة في العالم. وقد وجدت المحكمة الدولية الجزائية نفسها عاجزة عن ملاحقة الجرائم المرتكبة على الأراضي السورية في العشرية الأخيرة، إذ أن سوريا لم تصادق على نظام روما الأساسي المنشِئ لهذه المحكمة ولأنّ روسيا والصين شهرتا فيتو في وجه مشروع قرار لمجلس الأمن الدولي يقضي بإحالة سوريا على هذه المحكمة الجنائية في 2014.
وما كان لمحكمة العدل الدولية أن تنعقد لولا مصادقة الدولة السورية على اتفاقية مناهضة التعذيب وضمنًا المادة 30 منها التي تحفظ صلاحية هذه المحكمة في حال وجود نزاع بين أطراف الاتفاقية، من دون أيّ تحفّظ. إلّا أنّه بالنظر إلى هذه الاتفاقيّة، يكون للدّول وحدها أن تلجأ إلى محكمة لاهاي ولا يكون في المقابل لأيّ من ضحايا التعذيب القيام بذلك. فضلًا عن ذلك، ليس للدول وفق المادة 30 أن تلجأ إلى المحكمة على خلفية عدم التزام دولة أخرى بالاتفاقية إلّا بعد فشل إجراءات التفاوض وأيضًا بعد رفض الدولة المعنية اللجوء إلى التحكيم.
وعليه، جاء ادّعاء الدولتين أمام المحكمة الدولية تبعًا لإجراءات طويلة باشرتاها منذ 2020. فبعدما اجتمعتا مع المعنيين في النظام السوري في مساعٍ تفاوضية لم تسفر عن أي نتيجة في ظلّ إنكار هؤلاء اضطلاع النظام بأعمال تعذيب، عرضت الدولتان على الدولة السورية التحكيم. لكن هنا أيضًا، انقضى 6 أشهر من دون أن يردهما أيّ جواب من هذه الأخيرة، ممّا أتاح للدّولتين مباشرة التقاضي أمام المحكمة.
يلحظ هنا أنّ المحكمة خصصت حيّزًا هامًا من قرارها لمناقشة اختصاصها وتحديدًا للتثبت من اكتمال شروط المادة 30 المذكورة أعلاه، وتحديدًا قيام الدولتين المدّعيتين بالمساعي اللازمة لإجراء المفاوضات وعرض التحكيم وفق شروط هذه الاتفاقية.
2- شبهات جدية بانتظار الحكم النهائي
الأمر الثاني الذي تجدر الإشارة إليه هو أنّ القرار ليس قرار إدانة للدولة السورية بارتكاب أعمال تعذيب إنما فقط قرارًا احترازيًّا مؤقتًا بهدف حماية الضحايا المحتملين من أعمال التعذيب أو ضمان حقوق الضحايا الفعليين في العدالة. وعليه، وفيما لم تتثبّت المحكمة بعد من صحّة الادّعاء بارتكاب الدولة السورية أعمال تعذيب، فإنّها في المقابل تثبّتت من جدّية شبهات ارتكاب هذه الجرائم وتاليًا من احتماليّة وقوع ضرر لا يمكن إصلاحه يطال الحقوق المُطالب بحمايتها، في حال لم يتمّ اتخاذ تدابير مؤقتة. وقد استندت لهذه الغاية على تقارير عدة لـ “لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية”، والتي خلُصت إلى وجود “أسباب معقولة للاعتقاد بأن الحكومة السورية استمرت بارتكاب أعمال التعذيب وسوء المعاملة”. ويجدر التذكير هنا بما اصطلح على تسميته بـ “صور قيصر”، وهي صور سربها عسكري سوري سابق انشقّ عن النظام تضمّ عشرات آلاف الصور لضحايا التعذيب من المدنيين السوريين، واعتمدتْ عليها لجنة التحقيق الدولية المكلّفة ببحث جرائم الحرب في سوريا ضمن تقاريرها التي عادت واستندت عليها محكمة العدل الدولية.
وقد اعتبر باولو بينيرو، رئيس لجنة الأمم المتحدة المعنية بسوريا أنّ “هذا قرار تاريخي صادر عن أعلى محكمة في العالم، لوقف التعذيب والإخفاء القسري، والوفيات في مرافق الاحتجاز السورية”.
3- أيّ مفاعيل وأبعاد للقرار؟
بقي أن نحدد ما الذي تشمله التدابير المؤقتة المفروضة من المحكمة. من البيّن أنّ هذه التدابير نوعان:
النوع الأول يتمثل في التدابير الفوريّة للوقاية من ارتكاب أعمال تعذيب أو أيضا الأعمال الأخرى التي شكلتها الاتفاقية، وتحديدا الحؤول دون قيام أيّ من “الرسميين” أو من هم في أمرتهم بهذه الأعمال. وفيما لم يرد في القرار أيّ تفصيل لهذه التدابير وما تفرضُه عمليًّا على الدولة السورية، فإنه يرجح أن تشمل هذه التدابير الوقائية بشكل خاص ما نصت عليه اتفاقيّة مناهضة التعذيب لجهة وجوب اتخاذ إجراءات تشريعية أو ادارية أو قضائية فعالة أو أية إجراءات أخرى لمنع أعمال التعذيب (مادة 2).
النوع الثاني هي التدابير المؤقتة المتعلّقة بالحفاظ على الدلائل والمعلومات المتعلّقة بالتعذيب بهدف الحفاظ على سير الدعوى وتحقيق المسألة. فهذه التدابير المؤقتة تعني على سبيل المثال السماح بالوصول إلى مراكز الاحتجاز السوريّة والكشف على أوضاع المحتجزين، والحفاظ على السجلات الطبيّة للمعتقلين وشهادات الوفاة، عدا عن التصريح عن أماكن المقابر الجماعيّة. وكانت “المفكرة القانونية” وثّقت في حوارها بشأن الهيئة الدولية للمفقودين في سوريا حالات الإخفاء القسري وتوفية معتقلين بقرار رسمي من دون إعلام ذويهم بذلك مسبقًا ومن دون تسليمهم جثامين هؤلاء على نحو يمنع أي تحرّ عن أسباب الوفاة واحتمال تعرض هؤلاء للتعذيب.
وفيما يرجّح أن تُمانع الدولة السورية في تنفيذ هذا القرار، فإنّ امتناعها عن تنفيذه سيشكل مأخذًا جديدًا عليها، بانتظار صدور القرار النهائي عن محكمة العدل الدولية.