قرار مبدئي لمحكمة النقض في قضية الدّهماني: الأصل حرية التعبير وللإعلام مرسومه


2025-02-10    |   

قرار مبدئي لمحكمة النقض في قضية الدّهماني: الأصل حرية التعبير وللإعلام مرسومه

بتاريخ 03 -02-2025، أصدرت الدائرة 29 في محكمة التعقيب التونسية قرارا[1] أمكن وصفه بالمبدئي[2] لما تضمنه من انتصار لتشريعات الثورة التونسية وقَطعَ مع ممارسات سلطويّة قيّدت حريّة التّعبير وصنعت الخوف من السّجن وسط الإعلاميين، ويهمّ المفكرة نشر هذا القرار الذي صدر في إطار قضية المحامية سنية الدهماني لتمكين قرّائها من الاطّلاع عليه. كما تُبدي بالمناسبة بعض الملاحظات حوله بدءًا من التذكير بالوقائع موضوع القضية تأكيدًا على محورية دور القضاء في الدفاع عن الحقوق والحريات.

وقائع القضية: ملاحقة جزائية على خلفية مواقف إعلامية   

بعد الثورة التونسية وبفضل ما توفر من حريات وفرص للإبداع، اختارت المحامية سنية الدهماني أن تدرج في قائمة المحامين غير المباشرين لتتفرغ للعمل الإعلاميّ بصفة معلقة في البرامج التلفزية والإذاعية الحوارية. لاحقا، وبعد 25 جويلية 2021، تطوّرت مواقفها تدريجيّا لتنتهي بتحوّلها إلى صفّ المنتقدين لتفرّد الرئيس قيس سعيد بالسلطة وبما اعتبرت أنها ممارسات معادية للمهاجرين تطوّرت بسبب خطابه. مواقفها تلك كانت سببًا في إيداعها في السجن وإصدار حكمين بالسجن النافذ في حقها علاوة على ملاحقتها جنائيا في قضية أخرى كانت وقائعها موضوع نظر محكمة التعقيب. وتعود وقائع هذه القضية إلى يوم 09-11-2023 حين تعرّضت الدّهماني في برنامجٍ إذاعيّ تشارك في تنشيطه للوضع داخل المؤسّسات السجنيّة ومعاملة المساجين فأدانت ما وصفته “حرمان(ا) للمساجين من حقّ العلاج” و”منع بعض العائلات من ممارسة حق الزيارة”و”عدم توفير الماء الصالح للشراب”. وكردّ فعل على تصريحاتها وبتاريخ 20-11-2023، وجهت الهيئة العامة للسجون شكاية إلى وزيرة العدل ليلى الجفال مهرت بختم سري طلبت صلبها تتبّع الدهماني من أجل ما اعتبرته نشرًا لأخبار زائفة.  وفي ذات التاريخ، أمرت الوزيرة الوكيل العام لمحكمة الاستئناف بتونس بالتتبع الجزائي للدهماني على خلفية انتقاداتها تلك.

وفي اليوم الموالي، فتح مساعد الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف في تونس بحثًا تحقيقيًّا في الموضوع وضمنت القضية التحقيقية بمكتب التحقيق عدد 10 والذي وجه إلى الدهماني (وهي قيد الاحتجاز) بتاريخ 08-05-2024 تهم تعهد استعمال أنظمة معلومات واتصال لنشر أخبار كاذبة ونسبة أمور غير حقيقيّة بهدف الإضرار بالأمن العامّ والتشهير بالغير والتحريض عليه. وكان المستهدف منه موظفا عموميا طبق الفصل 24 من المرسوم عدد 54 لسنة 2022 المؤرخ في 13-09-2022. وهي جناية تصل عقوبتها إلى عشر سنوات سجن.

تاليا وفي إطار مبدأ التقاضي على درجتين في قضاء الاستقراء في المادة الجنائية، تعهدت دائرة الاتّهام بمحكمة الاستئناف بتونس بالقضية لتؤيّد في تاريخ 07-08-2024 ما انتهى إليه قلم التحقيق من تكييف للتهم وهو القرار الذي طعن فيه محاموها بالتعقيب.

تتبّع الإعلاميين من خارج المرسوم 115: ممارسة دائمة

قبل الثورة، نظّمت السلطة الإعلام بموجب مجلة الصحافة[3] والتي  خصصت 40 من فصولها الثمانين للتبعات الجزائية التي يمكن أن تطال الإعلاميين ممّن تنسب لهم جرائم الصحافة. وقد أدّى استعمال تلك النصوص الزجريّة التي تهدد الإعلاميين بعقوبات سجنية متعددة في صورة ملاحقتهم من أجل ما ينتجون من مواد إلى نشر مناخ الخوف داخلهم ودفع الأغلبية منهم للامتناع عن نقد السلطة. واقع فرض الوعي به وبأسبابه على الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطيّ[4] أن تبادر بداية الانتقال إلى صياغة مشروع نصين قانونين صدرا لاحقا عن رئيس الجمهورية المؤقت بموجب المرسومين 115 و116 وتعلّقا بحماية حرية الإعلام. وكان من أهم ما تضمن الأول منهما حصر ما يمكن الحكم به جزائيا على خلفية مضامين إعلامية في خطايا مالية.

لاحقا وفيما بدا مقاومة سلبية لهذا الإصلاح الثوري، اعتمدت في عديد القضايا الجزائية التي أثيرت في حق صحفيين أو كان موضوع التهمة فيه مواقف إعلامية أحكام المجلة الجزائية والقانون الأساسي لمكافحة الإرهاب[5] في تجاهل لمقتضيات المرسوم 115 وبحجة الحاجة للصرامة في فرض الالتزام بالقانون. وقد تطوّرت مثل تلك الممارسات بعد سنّ المرسوم عدد 54 لسنة 2022[6] والذي يتعلّق بمكافحة الجرائم المتّصلة بأنظمة المعلومات والاتصالات بعدما استند القضاء لعمومية صياغته وعدم وضوحها للقول بأن جرائم التشهير التي تضمّنها تنطبق على الإعلاميّين والمواد الإعلاميّة. وقد وثقت وحدة الرصد بمركز السلامة المهنية في نقابة الصحفيين 24 تتبعا جاريا في حق صحفيين وإعلاميين على معنى ذلك النص علاوة على صدور 5 أحكام سالبة للحرية في حقّ عدد منهم[7]. وفي مخالفة واضحة للممارسة السائدة، أكّدت محكمة التعقيب في قرارها أنّ التوسع في تطبيق الأحكام الجزائية للمرسوم 54 فيه تعدٍّ على الحقوق والحريات وأن المرسوم 115 وحده الذي ينطبق على ما ينسب للإعلاميين من مخالفات.

محكمة القانون: التوسع في تأويل المرسوم 54 مخالف للمبادئ  

في إطار التأسيس النظري لموقفها، أكّدت محكمة التعقيب هرمية “المنظومة التشريعية ” وأنها “تخضع لمبدأ تدرج القواعد القانونية طبقا لما يعرف بهرم كلسن” ووجوب ان تحترم “القاعدة القانونية الأدنى القاعد القانونية الأسمى” لتخلص إلى القول بأن “القاعدة القانونية لا تحرز مشروعيتها إلا إذا كانت منسجمة وغير متناقضة مع القوانين الأعلى منها درجة” وأنّ “احترام مبدا التدرج والتراتبيّة لا يحمل فقط على واضع القانون وإنما يجب أن يلتزم به كذلك من تعهد له سلطة تطبيقه”. وبهذا حمّلت محكمة التعقيب القضاء مسؤولية رقابة شاملة على دستورية القوانين. وكان لافتا فيما أعقب ذلك أنها اعتبرت بوضوح الاتفاقات الدوليّة التي صادقت عليها تونس مما يستعمل في تلك الرقابة. وفي إطار هذه الرقابة، استشهدت المحكمة بالفصل   37 من دستور 2022 والمادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية السياسية لتستخلص منها أن “حرية التعبير من الحريات الأساسية ولا يجوز التقييد فيها إلا بنصّ القانون وأن تفسير ذلك القانون يجب أن يكون دائما لصالح الحريات وليس لصالح القيود”.

 وتبعا لذلك، اعتبرت محكمة النقض أن المرسوم عدد 54 لسنة 2022 يشكل ” قيدا على الحرية” “لا يجب التوسع في مجال انطباقه” وأن المشرع سنّه ليسدّ فراغًا تشريعيًّا في تتبّع “الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال وزجرها وتلك المتعلقة بجمع الأدلة الإلكترونية الخاصّة بها ودعم المجهود الدولي في المجال في إطار الاتّفاقيات الدولية والإقليمية.” وأكدت على احكام الفصل الثاني من المرسوم التي تلزم السلط العمومية التي تطبقه باحترام “الضمانات الدستورية وبالمعاهدات.. في مجالي حقوق الإنسان والحريات وحماية المعطيات الشخصية” لتنتهي إلى القول بأنّ “أحكام المرسوم الجزائية لا تنطبق” إلا على الجرائم التي ترتكب باستعمال أنظمة المعلومات والاتصال والبيانات والبرمجيّات الإلكترونية القابلة للمعالجة ولا تشمل بالتالي آراء الصحافيين والإعلاميين التي يعبرون عنها في وسائل الإعلام المقروءة أو المسموعة أو المرئية”. كما أنّ جرائمه لا تشمل أيضا “أيّ متدخّل في الفضاء العمومي بمناسبة إبداء رأيه في مسألة ما أو التعليق على خبر أو إعطاء موقف من قضايا تهم الشأن العامّ” وهي تتعلق فقط “بالجرائم السيبرانية”.

في هذا ارست المحكمة مبادئ هامّة على علاقة بالمرسوم 54 من أهمّها أنه قيد على الحرية وأن من واجب القضاء عدم التوسّع في تطبيق أحكامه والامتناع عن تطبيق أيّ من الاحكام التي وردت فيه أو في غيره من النصوص التي تتعارض مع المعاهدات الدولية التي صادقت عليها تونس في المجال أو تخرق ما  تضمّنه الدستور النافذ من مواد تحمي الحقوق والحريات.

المرسوم 115: قانون نافذ على المحاكم تفعيله  

وفي ذات الاطار كانت المحكمة حاسمة في قولها أن الأحكام الجزائية للمرسوم وتحديدا الفصل 24 لا تخصّ إلا الجرائم السيبرانية وأنه فيما تعلق بالإعلاميين والتدخّلات في وسائل الاعلام  فإن المرسوم 115 ينطبق وحده دون سواه.

وقد أكّدت المحكمة في تسبيب قرارها عدم جواز الادّعاء بأنّ المرسوم 54 نسخ المرسوم 115 “لاختلاف مجال انطباقهما”. كما أوضحت المحكمة أنّ “المرسومين 115 و116 ينظمان مختلف الجرائم التي ترتكب في إطار العمل الصحفي” ولم يتركا مجالا لغيرهما من التشريعات للتدخل فيها. وفي إطار تنزيل موقفها القانوني على وقائع القضية، بينت المحكمة أنّ ما نسب للدهماني من تصريحات لا يمكن تتبعه من خارج التشريعات المتعلقة بالإعلام أي المرسوم 115 وكان ذلك اهم مبدأ كرسته في قرارها.

في المقابل، نلاحظ أن المحكمة وإن  لم تبد ظاهرا موقفا صريحا من جدية الاتهام من عدمها وتركت الأمر لقضاة الأصل كما يفرض عليها القانون ذلك، فإنها تولّت ذلك تلميحا بوصفها ما صدر عن الدهماني “بإبداء للرأي” وقولها أن “الخوض في ظروف المساجين والتعليق على المعاملة التي يتلقونها في المؤسسات السجنية والنقائص التي يشكو منها المساجين في حياتهم اليومية أثناء تواجدهم في السجون هي من الأمور التي كثيرا ما يتم تناولها في الإعلام إما لنقدها أو لنبذها أو التنديد بها أو تحسيس الجهات المعنية بضرورة الانتباه لها واتخاذ الإجراءات اللازمة للحدّ منها”.

يستخلص مما سبق ، ما بات يعانيه القضاء التونسي من هشاشة بسبب عصف السلطة السياسية بكل ضمانات استقلاليته  لم يمنع إصداره قرارا ينتصر لحرية التعبير ويعيد للحريات الإعلامية اعتبارها ونأمل ان يكون ذلك القرار منطلقا لأحكام وقرارات قضائية أكثر التزاما بحريّة التعبير وبحق التونسيين في إعلام حرّ يدافع عن قيم الديموقراطية واستقلالية القضاء.


[1]  للاطلاع على القرار القضائي اضغط هنا

[2]  تسبيب 

[3]  صدرت بموجب القانون عدد 32 لسنة 1975مؤرخ في 28 أفريل 1975

[4]  أسست في 15-03-2011 وضمت في عضويتها اهم الشخصيات الحقوقية والسياسية التونسية المحسوبة على الثورة وكان هدف عملها تسهيل الانتقال الديموقراطي من خلال التداول في النصوص التي تحقق ذلك

[5]  قانون أساسي عدد 26 لسنة 2015 مؤرخ في 7 أوت 2015 يتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال 

[6]   مرسوم عدد 54 لسنة 2022 مؤرخ في 13 سبتمبر 2022 يتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال

[7]  الخطر لا يقتصر على الصحفيين لماذا حان الوقت لتعديل المرسوم 54؟ -جيهان نصري – موقع انكفاضة 31-01-2025

انشر المقال

متوفر من خلال:

حرية التعبير ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني