![قرار قضائي يعرّي “القرارات السريعة” للنيابة العامة: “بن سلمان ليس برئيس دولة”](data:image/gif;base64,R0lGODlhAQABAAAAACH5BAEKAAEALAAAAAABAAEAAAICTAEAOw==)
“
بتاريخ 13/12/2018، أصدرت محكمة مطبوعات بعبدا[1] قرارا بإبطال التعقبات بحق هشام حداد، مقدم البرنامج الساخر “لهون وبس” على قناة LBC. وكانت الملاحقة تمت على خلفية مشهد ساخر تناول وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان: فبعدما استعاد حداد النصيحة الطبية التي وجهها “ميشال حايك” (وهو أحد الذين يعلنون بشكل منتظم عن توقعات من عالم الغيب) لوليّ العهد محمد بن سلمان “بالتخفيف من أكل الوجبات السريعة”، علّق عليه قائلا: “هلق كل شي ما بيصير بالمنطقة عم ينصحو بوقف الهمبرغر. أنو ينصحو بوقف الاعتقالات السريعة، ينصحو بوقف السياسات السريعة، الحملات السريعة، الضربات العسكرية السريعة، بس الوجبات السريعة، …. ما بيصير عندو كرش أنا شو الي علاقة، أنا شو دخلني، بكوليسترول ولي العهد. أنا شو إلي عليه” (أي ما معناه هم يعقل أن ينصحه بتخفيف الوجبات السريعة في ظل كل ما يجري من أحداث في المنطقة؟ لماذا لا ينصحه بوقف السياسات السريعة، الحملات السريعة، الضربات العسكرية السريعة. ماذا يعنيني إذا سمن الأمير أو زاد لديه منسوب الكوليسترول). يلحظ أن النائب العام التمييزي سمير حمود (وهو رأس النيابات العامة في لبنان) أمر بنفسه بمباشرة هذه الدعوى وأن النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان (وهي أهم نيابة عامة استئنافية في لبنان من حيث عدد الدعاوى المقامة منها)، باشرتها بالفعل، وقد أسندت دعواها إلى المادة 23 من قانون المطبوعات التي تعاقب المسّ برئيس الجمهورية اللبنانية ورؤساء الدول العربية والأجنبية.
عند الإعلان عن تحرك النيابة العامة ضد حداد، أعربت عدد من وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية استغرابها من جراء ملاحقة حداد، ولا سيما أن حرية التعبير تتسع عموما وفق اجتهادات راسخة، بخصوص المواد والبرامج التي تعتمد على لفت النظر إلى قضايا معينة بطريقة فكاهية أو كاريكاتورية. ومن الأمور التي أشار إليها حقوقيون عدة آنذاك (ومنهم موقع هذا المقال) هو أن الادعاء ليس له أساس قانوني طالما أن ولي العهد بن سلمان ليس رئيسا للدولة، بمعزل عن السلطة الفعلية التي يتمتع بها. وقد جاء الحكم المقتضب (صفحتين) بكف الملاحقة ضد حداد، على أساس حيثية أساسية واحدة مفادها “أن سمو الأمير محمد بن سلمان هو ولي للعهد في المملكة العربية السعودية وليس برئيس دولة”.
هذا الحكم يستتبع ملاحظات عدة، أبرزها الآتية:
- أن واضعي الحكم اختاروا أن يكون بسيطا ومقتضبا. فخلافا لما درجت عليه العادة في قضايا حرية التعبير التي شغلت الرأي العام، اكتفى الحكم بردّ الادعاء على أساس تقني قوامه صفة ولي العهد، من دون أي توسّع. وبمعزل عن الأسباب التي دفعت المحكمة إلى اختصار أقوالها في هذا المجال، فإنها عرّت ببساطتها تسرّع النيابة العامة في تقديم دعواها. ففيما يبقى الخطأ القضائي واردا في أي حين، من الجائز أن نصنّف هذا الادعاء ضمن الأخطاء الجسيمة بالنظر إلى فداحته، طالما أنه يصعب أن يصمد أمام أي نقاش جدي ورصين،
- أن هذا الخطأ الجسيم ارتُكِب من قبل أهمّ مرجعين في النيابة العامة (النائب العام التمييزي ونائب عام جبل لبنان). وعدا أن هذا الأمر يشكّل بحد ذاته عامل قلق كبير على حرية التعبير ومجمل الحريات العامة ومنظومة العدالة بشكل عامّ، فإنه يؤشّر في الوقت نفسه إلى هيمنة الحسابات السياسية، بما فيها من لغو ومجاملة، على عمل النيابات العامة برمتها. ومن هنا جاء الحكم بمثابة “نصيحة” تضاف إلى النصائح التي أشار إليها البرنامج الساخر، نصيحة توجه هذه المرة للنيابات العامة بعدم اتخاذ “مواقف سريعة” صونا لكرامتها وكرامة ما تبقى من حكم القانون.
- كما يجدر التذكير أخيرا أن المكتب الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى كان أصدر بتاريخ 1 شباط 2018 بيانا على خلفية الانتقادات الساخرة التي وجّهها حداد ضد النائب العام التمييزي. وفيما طالب البيان آنذاك النيابة العامة التحرك مجددا ضد حداد على أساس “أن الذود عن هيبة القضاء يسمو على أي اعتبار آخر”، جاء الحكم الحاضر بمثابة رسالة برسم مجلس القضاء الأعلى بوجوب انتهاج التروي والتواضع في اتخاذ المواقف مستقبلا. فالأولوية اليوم في القضاء هي لاستنهاض القوى الاجتماعية لإطلاق ورشة إصلاحه وصولا إلى عدالة أفضل. أما أن يتمسك المجلس بهيبة زائلة أو متخيلة للقضاء، أو أن يعمل على تجميل أعمال قضائية ثبت قطعا أنها واهية ومسيسة، فهذا أمر من قبيل العبث.
[1] وهي مكونة من القضاة إيلي الحلو رئيسا ولميس كزما والياس مخيبر مستشارين.
“
متوفر من خلال: