أصدرت محكمة النقض بالمغرب مؤخرا قرارا[1] قضى باعتماد الدليل العلمي المتمثل في الخبرة الجينية لإثبات جرائم الخيانة الزوجية، وذلك زيادة على وسائل الإثبات المحددة حصراً بمقتضى الفصل 493 من القانون الجنائي.
القرار يعتبر تحوّلا غير مسبوق في تاريخ اجتهاد محكمة النقض في تأويل النص الجنائي الذي يعاقب على العلاقات الجنسية الرضائية خارج إطار مؤسسة الزواج. وقد سبق تقديمه ضمن الاجتهادات القضائية “المبدئية” بمناسبة افتتاح السنة القضائية.
ملخص القضية
تعود فصول القضية إلى شكاية تقدمت بها فتاة إلى مصالح الدرك تعرض فيها بأن جارها استغلّ غياب أفراد أسرتها عن المنزل وتهجّم عليها وقام باغتصابها بالقوة تحت التهديد بالقتل، وأنه ظل يعدها بالزواج مند حوالي أربع سنوات، وأنه طيلة المدة المذكورة كان يدخل عليها ويمارس معها الجنس كزوج مع زوجته، وأنها حينما اكتشفت بأنها حامل، أخبرته بذلك، فطلب منها التزام الصمت وعدم إخبار عائلتها، لكنه سرعان ما اختفى عن الأنظار وغيّر رقم هاتفه.
وعند الاستماع إلى المشتكى به، تمسّك بالإنكار نافيا أيّ علاقة له بالمشتكية، ومؤكّدا بأنه لم يسبق له أن مارس الجنس معها.
قرّرت النيابة العامة اجراء تحقيق في القضية وأحالت المشتكى به على قاضي التحقيق، الذي أمر بإجراء خبرة جينية، خلصت نتائجها الى أن الحمل يعود إلى المشتكى به، فأصدر قرارا بإحالة المتهم على المحكمة من أجل الاغتصاب.
أثناء المحاكمة، أنكر المتّهم واقعة الاغتصاب، فقرّرت المحكمة إدانته من أجل ما نسب إليه بعد إعادة تكييف الفعل من اغتصاب إلى فساد، فتم الطعن في الحكم بالاستئناف وقررت غرفة الجنايات الاستئنافية إلغاء الحكم الابتدائي فيما قضى به من إعادة التكييف، وإدانة المتهم من أجل الاغتصاب.
وعند الطعن بالنقض في الحكم من طرف المتهم، صدر قرار محكمة النقض والذي اعتبر أن غرفة الجنايات الاستئنافية ألغت القرار الابتدائي الذي أدان المتهم من أجل الفساد، وقضت بإدانته من أجل الاغتصاب استنادا على نتائج الخبرة الجينية المنجزة من طرف الدرك الملكي والتي تمّ التوصل من خلالها الى أن المتهم هو الأب البيولوجي لابن المشتكية، خلافا لإنكاره المتواتر واعتمادا على تصريحات المشتكية التي انتصبت كطرف مدني. والحال أن ما انتهت اليه نتائج الخبرة ولئن أثبتت العلاقة الجنسية فإنها لا تعتبر حجة على أن المتهم استعمل العنف لإجبار المشتكية على ممارسة الجنس معه، والمحكمة لم تبرر عنصر انعدام الرضا، مما تكون معه قد خرقت مقتضيات الفصل 486 من القانون الجنائي وعلّلت قرارها تعليلا ناقصا يوازي انعدامه، فقررت تبعا لذلك نقض القرار الاستئنافي، وإحالة القضية من جديد على أنظار غرفة الجنايات الاستئنافية للبت فيها من طرف هيئة أخرى.
عند إحالة الملف على أنظار غرفة الجنايات لتنظر فيها من جديد بعد النقض، اعتبرت المحكمة أن الخبرة الجينية تثبت العلاقة الجنسية بين المتهم والمشتكية وقضت بإدانته من أجل الفساد.
موقف محكمة النقض
قضت محكمة النقض بتأييد القرار فيما قضى به من إدانة المتهم معتمدة على العلل التالية:
- الخبرة الجينية هي دليل وحجة علمية لا يتسرب الشك إلى مدى قوتها الثبوتية؛
- نتائج الخبرة الجينية قرينة قوية وكافية على وجود علاقة جنسية بين الطاعن والضحية، نتجت عنها ولادة، يمكن من خلالها نسبة واقعة العلاقة الجنسية إلى الطاعن.
- محكمة الموضوع باعتمادها تقرير الخبرة الجينية، تكون قد مارست السلطة المخولة لها قانوناً في تفسير وتأويل النص القانوني في ضوء المستجدات والاكتشافات العلمية الحديثة، التي أصبح معها الدليل العلمي وسيلة إثبات قطعية، وآلية من آليات تفسير وتأويل النص القانوني، لا يمكن للمنطق السليم أن يتغاضى عنه متى كان حاسماً.
تعليق على قرار محكمة النقض بعد النقض
يعتبر القرار الذي تنشره المفكرة القانونية تحوّلا فيما استقر عليه اجتهاد محكمة النقض بالمغرب في إثبات جرائم الفساد والخيانة الزوجية، حيث سبق لنفس المحكمة أن اعتبرت أن جريمة الخيانة الزوجية أو الفساد “لا تثبت إلا بإحدى وسائل الاثبات المحددة حصرا في الفصل 493 من القانون الجنائي وهي: محضر رسمي يحرره أحد ضباط الشرطة القضائية في حالة التلبس أو اعتراف تضمنته مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم أو اعتراف قضائي، وبالتالي لا تكوّن المحكمة الزجرية قناعتها في ثبوت الجريمة على وسيلة إثبات أخرى غيرها حتى ولو كانت خبرة جينية قطعية في موضوع النسب”.[2]
توسّع القرار في تفسير مقتضيات الفصل 493 من القانون الجنائي رغم ما يفرضه مبدأ الشرعية الجنائية من تفسير ضيّق للنص، حيث أضاف وسيلة جديدة لإثبات الخيانة الزوجية أو الفساد (العلاقات الجنسية خارج الزواج) تتمثل في الخبرة الجينية. وهو ما يفتح المجال لإمكانية إضافة وسائل أخرى وبنفس المنطق كاستعمال الصور الفوتوغرافية أو التسجيلات الصوتية والمرئية، بل وحتى استعمال شهادة الشهود، ويعيد هذا القرار إلى الواجهة قرارا مماثلا اعتبر اعتراف متهمة بتبادل “قبلة” مع شريكها، خيانة زوجية.
تقديم هذا القرار ضمن افتتاح السنة القضائية بوصفه من بين القرارات “المبدئية” الصادرة خلال السنة عن محكمة النقض يعطي انطباعا بوجود توجّه لفرضه “أدبيا” على محاكم الموضوع، وهو نفس النهج الذي تمّ تبنيه في قرارات سابقة، ومن بينها قرار حرمان الزوجة طالبة التطليق للشقاق من حق “المتعة” كنوع من التعويض تحصل عليه النساء المطلقات دون تحمل عبء الإثبات أو أداء الرسوم القضائية عنه[3]؛
رغم هذه الانتقادات، من المأمول أن يفتح صدور هذا القرار المجال لاعتماد نتائج الخبرة الجينية كمصدر موثوق ليس فقط في مجال التجريم، وإنما أيضا في مجال إثبات نسب الطفل المزداد خارج إطار مؤسسة الزواج خاصة وأن القرار اعتبر الخبرة الجينية دليلا وحجة علمية لا يتسرب الشك إلى مدى قوتها الثبوتية، وهو مبرر كذلك لحماية المصلحة الفضلى للطفل وحقه في الهوية.
مواضيع ذات صلة
محكمة النقض المغربية تعتبر القبلة خيانة زوجية: غلبة الأفكار المحافظة على مبادئ جزائية راسخة
جدل حقوقي حول قرار فريد لمحكمة النقض يسمح للزوج بالتعدد لإنجاب مولود ذكر
محكمة الاستئناف تلغي أول حكم بأبوة طفلة مولودة خارج الزواج: هل آن الأوان لتعديل مدونة الأسرة؟
[1]– قرار رقم 1019/3 بتاريخ 22/06/2021 – ملف جنائي بغرفتين عدد 1314/6/3/2018، غير منشور.
[2]– قرار محكمة النقض عدد 1024 بتاريخ 26 أكتوبر 2011 في الملف الجنحي عدد 9526/6/3/2011، منشور في مجلة محكمة النقض عدد 75 ص 365.
[3]– قرار محكمة النقض عدد 433 بتاريخ 21/09/2010، في الملف عدد 623/2/1/2009.