حمل قرار قاضي التحقيق الأوّلي في صيدا حسن حمدان الذي قضى بترك الموقوفيّن وضّاح غنوي ومحمود مروّة المتهمين بتفجير عبوة ناسفة بواجهة فرع “فرنسبنك” في صيدا قبل 10 أيّام، أبعادا مهمة جداً لخّصتها لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين والموقوفين في بيان حول القضية اعتبرت فيه بأن مسارها (مسار القضية) “يظهر وجهاً آخراً للقضاء ويناقض التشدد والظلم الذي عانى منه المنتفضون خلال الأشهر الأخيرة”. وأكّدت أنّ بعض القضاة منتفضون ضدّ المصارف أيضاً “أسوة بالشعب”.
وعلى الصعيد القانوني سجّل المحامون سابقة أخرى عبر إصرارهم على تطبيق المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، حيث خاضوا معركة شرسة على مدى ساعات طويلة في شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي لمقابلة الموقوفَين والتحدث إليهما للمرة الأولى لدى شعبة المعلومات تحديداً، وذلك تمسّكاً بحقوقهما التي ينص عليها القانون، للمرة الأولى في ملفات توقيف المشاركين في انتفاضة 17 تشرين 2019.
وكان الموقوفان اعترفا فور اعتقالهما في صيدا من قبل فرع المعلومات وسوقهما إلى بيروت بأنّهما أقدما على وضع العبوة الناسفة أمام المصرف، واضعين الحادثة في إطارها السياسيّ، ومفسّرين الدوافع وراء القيام بها.
وفي جلسة التحقيق الإلكترونيّة يوم الأربعاء في 13 أيّار، والتي ترك على إثرها غنوي ومروّة، أكّد غنوي صراحة: “أنّ الهدف من العمليّة كان توجيه رسالة سياسيّة والتعبير عن نقمته حيال ما آلت إليه الأمور جرّاء تصرّفات السلطة القائمة وفسادها وغياب المحاسبة الحقيقيّة بسبب عدم وجود قضاء مستقلّ”. وأضاف غنوي أنّه لم يهدف لإيذاء أيّ شخص من خلال العمليّة، علماً أنّه يملك الخبرة العسكريّة السابقة، ومع ذلك اختار الوقت المتأخّر الذي يكون فيه المصرف مغلقاً والمكان المحيط به خالياً من الناس، ليحصر العمليّة بالرسالة السياسيّة. وصرّح المحامي مازن حطيط، وكيل غنوي، لـ”المفكّرة القانونيّة” بأنّ الموقوفين أكّدا، فور مقابلتهما من قبل المحامين، على اعترافهما بالعمليّة واعتبارها “جزءاً من العنف الثوري بوجه المصارف” وأكّدا أنّ معنويّاتهما عالية جدّاً.
معارك قانونيّة وقضائيّة طرحتها قضيّة غنوي ومروّة
حملت قضيّة غنوي ومرّوة معارك وأبعاد سياسيّة وقانونيّة وقضائيّة. تمثلت أوّلاً بتدوين القاضي حسن حمدان الرسالة السياسيّة التي سجلّها الموقوفان. والجدير ذكره أنّ الأسئلة الأولى التي طرحها القاضي حمدان على غنوي كانت عن رأيه بالنظام السياسيّ في لبنان. وأشار المحامي حطيط إلى أنّ القاضي تعامل مع الموقوفين كمقاومَين وليس كمتهميّن، وذهب إلى إقرار تركهما بكفالة 300 ألف ليرة لبنانيّة فقط علماً أنّ وكيل فرنسا بنك لم يسقط الدعوى بحقّ المتهمين، وأنّ أضراراً ألحقت بفرع المصرف في صيدا. ويضيف حطيط أنّ ما حصل يوم الأربعاء هو انعطاف جديد في الإنتفاضة، فقرار حمدان بترك الموقوفين بدون صدور مذكّرة توقيف هو أمرٌ ملفت، بحسب حطيط، بحيث يؤكّد أنّ لا مبرّر لتوقيفهما، في حين أنّ موقوفين آخرين بقضايا مشابهة خلال الانتفاضة تم توقيفهم لأشهر، وأخلي سبيلهم بحجّة انتشار الكورونا فقط. واعتبرت لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين أنّ “مسار هذه القضية يظهر وجهاً آخراً للقضاء ويناقض التشدد والظلم الذي عانى منه المنتفضين خلال الأشهر الأخيرة”، وأكّدت أنّ بعض القضاة منتفضون ضدّ المصارف أيضاً “أسوة بالشعب”.
أمّا على الصعيد القانوني، فإنّ دخول محامين، بمساندة ودعم من نقيب المحامين ملحم خلف، إلى مركز المعلومات في بيروت ومقابلة الموقوفين هو “المرة الأولى التي يسمح فيها لموقوفي الانتفاضة بمقابلة محامي خلال التحقيقات الأولية لدى شعبة المعلومات” بحسب البيان الذي نشرته. وأوضح المحامي حطيط تفاصيل حصول هذا الأمر، الذي استغرق ساعات من الاتصالات والنقاش مع فرع المعلومات. فبعد حصول المحاميين مازن حطيط وعماد عمّار على تكليف من النقيب يوم الأربعاء في 6 أيّار، ووصولهما إلى مركز المعلومات وطلبهما مقابلة الموقوفين بموجب المادّة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائيّة والتي تسمح للموقوف أو المشتبه به بمقابلة محام، أبغلهما الضابط بإمكانيّة رؤيتهما ولكن دون السماح لهما بالتحدّث مع الموقوفين، وهذا ما رفضه المحاميان كونه مخالفاً للقانون. واستغرق الجدال حول مقابلة الموقوفين ساعتين داخل مركز المعلومات، وتدخّل النقيب، حتّى سُمح للمحاميين، بعد ثلاث ساعات، بمقابلة غنوي ومروّة.
الأمن الداخليّ: توقيف المتهميّن “عمليّة خاطفة ونوعيّة”
بعد عملية رصد، أوقف فرع المعلومات محمود مروّة ووضّاح غنوي في كمين وهما في طريقهما إلى صيدا من صريفا، وساقهما العناصر إلى بيروت، ومن الملفت أنّ ملفّ العبوة الناسفة أمام المصرف كان قد فتح مع النيابة العامّة الاستئنافيّة في صيدا. وحين وصل الموقوفان إلى بيروت أصبح الملفّ عند النيابة العامّة التمييزيّة (القاضي غسّان عويدات). وكان مصرف “فرنسبنك” قد قدّم شكوى ضدّ مجهول، وبعد توقيف غنوي ومروّة ادّعى وكيل المصرف عليهما بشكل شخصيّ.
وفي يوم الأربعاء في 6 أيّار وحوالي الساعة الثالثة ظهراً، قام عناصر من فرع المعلومات بمداهمة منزل كلّ من غنوي ومروّة، وبمصادرة هاتفيهما وجهازي الحاسوب بعدما بعثروا محتويات المنزل. ولم يكتف العناصر بذلك، فقد تم سوق زوجة وضّاح غنوي إلى مركزهم في صيدا وطلبوا منها التوقيع على تسليم المضبوطات، ولكنّ المسيء وفقاً لوصف حطيط، هو إنشاء ملفّ لها في المعلومات، بحيث قاموا بطلب بصماتها وتصويرها كأنّها مشتبه بها، بدون حجّة واضحة.
خُتم التحقيق في القضيّة يوم السبت في مركز فرع المعلومات، وحوّلت النيابة العامّة التمييزيّة الملفّ إلى صيدا، عند النائب العامّ الاستئنافيّ رئيف رمضان الذي اطلّع على الملفّ يوم الثلاثاء في صيدا وادّعى على الموقوفين بموجب المادتيّن 730 و732 من قانون العقوبات بحيث تنص على عقوبات الحبس والغرامة الماليّة لمن يقدم على هدم أيّ بناية ليست ملكه، والمادتين 72 و73 من قانون الأسلحة والذخائر، وتمّ تحويلهما عند قاضي التحقيق حسن حمدان. وأشار حطيط إلى أنّ مسألة صناعة المتفجّرات غير موجودة كون العبوة التي استخدمت هي من سنة 1984. وينتظر المحامون إصدار القاضي حمدان للقرار الظنيّ بحق المتهمّين.
وكانت المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخليّ قد نشرت بيانا فور انتهاء التحقيق الأوليّ تستعرض فيه حادثة التوقيف التي اعتبرتها “عملية نوعية وخاطفة” وذكرت ما حصل في التحقيق وهو مخالف لما حصل فعلاً وكذلك لسريّة التحقيق، بحسب المحامي مازن حطيط، خاصّة أنّها ذكرت أنّ الموقوفيّن اعترفا بالعمليّة “بعد مواجهتهما بالأدلة القاطعة التي تثبت تورّطهما بعملية التفجير”. واعتبرت المديرية في بيانها “أنّها لا تساوم في مسألة المحافظة على الأمن وتطبيق القوانين”، محذّرة من القيام بأعمال فوضى ومن القيام بمظاهر العنف.
“الشيوعيّ” يدين “محاولة الانتقام” من “ردّة فعل طبيعيّة”
إضافة إلى المتابعة القانونيّة من قبل لجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين ونقيب المحامين، حصدت قضيّة اعتقال غنوي ومروّة دعماً شعبيّاً تمثّل بقيام تحرّكات للحزب الشيوعيّ اللبنانيّ (الذي ينتسب وضّاح غنوي إليه) ولحراك صيدا وغيرهما على فروع لمصرف فرنسبنك يوم الجمعة في 8 أيّار، في صيدا وصور والنبطيّة وبيروت. ونفذ قطاع الطلاب والشباب في الحزب الشيوعيّ تحرّكاً على الفرع الرئيسيّ لمصرف “فرنسبنك” في بيروت (الحمرا)، ووجّهوا رسالة إلى المصرف بأنّ المنتفضين جاهزون للقيام بتحرّكات على كافّة فروع المصرف (74 فرعاً) في لبنان وعلى فروعه الأربع والعشرين في بيروت. ويقول عضو المكتب السياسيّ في الحزب الشيوعيّ لـ”المفكّرة” عمر ديب إنّ المصرف علم أنّه، وفي حال قرّر المضي بمساره في “محاولة الإنتقام” من غنوي ومروّة، أنّ الناس جاهزة للوقوف بوجهه، وأشار ديب إلى أنّ التضامن الشعبيّ والسياسيّ والمتابعة القانونيّة الدقيقة هي التي حمت الموقوفين.
واعتبر ديب أنّ ما قام به غنوي ومروّة هو “ردّة فعل طبيعيّة”، وهو أحد أشكال الاحتجاج التي تضاف إلى كلّ التظاهرات والتحركات وأعمال تكسير واجهات المصارف التي قام بها أناس “قمعت وفقّرت وأكلت حقوقها”. وأضاف عضو قيادة قطاع الشباب والطلّاب في الحزب سمير سكيني أنّ اعتقال غنوي ومروّة كان “بحجّة مخالفتهما للقانون”، في حين أنّ قرارات المصارف التي خالفت القانون، لم تتصرّف تجاهها السلطة السياسيّة وأجهزتها الأمنيّة. واعتبر سكيني أنّ غنوي ومروّة اللذين قاما بهذه الخطوة “النوعيّة والمتقدّمة” ضدّ سياسات المصارف وحربها على اللبنانيّين عموماً والمودعين الصغار خصوصاً، هما نفسهما اللذين شاركا في جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة للتحرير من العدوّ الاسرائيليّ، معتبراً أنّ هذين الأمرين “يتكاملان في الصراع الطبقيّ في لبنان”.