بعد سبع سنوات على المظلمة التي تعرّض لها الممثل المسرحيّ زياد عيتاني في قضيّة تلفيق تهمة العمالة مع العدو الإسرائيلي، أصدر مجلس شورى الدّولة قرارًا أعلن فيه مسؤوليّة الدولة اللبنانية عن الأضرار التي لحقت به ملزمًا الحكومة بتسديد تعويض ماليّ له. صدر القرار بتاريخ 05/12/2024 عن الغرفة الأولى للمجلس المؤلّفة من الرئيس وليد جابر والمستشارتيْن شنتال أبو يزبك وسارة رمّال، وقد استند على مجموعة من الأخطاء المرفقيّة الناتجة عن امتناع الدولة عبر الإهمال والتقاعس عن القيام بموجباتها تجاه عيتاني والتي أدّت إلى تعرضّه لأعمال التعذيب وانتهاك لقرينة البراءة.
يشكّل هذا القرار خطوةً هامّة في اتجاه استعادة دور الدولة في حماية المواطنين، حيث أنّ قضية عيتاني تُعدّ من أبرز الأمثلة على الخلل العميق في النّظام اللبنانيّ وانهيار المهنيّة، خصوصًا في العمل القضائي والأمني والإعلامي. وفي حين أثارت هذه القضية اضطرابًا كبيرًا في الرأي العام، لم تستخلص مؤسسات الدولة الدروس اللازمة منها سواء لجهة تحديد المسؤوليات وإخضاع المخالفين للمحاسبة وجبر ضرر الضحيّة أو لجهة القيام بالإصلاحات واتخاذ الإجراءات لمنع تكرار هكذا مظلمة.
وكان عيتاني قد تقدّم بالدعوى في آب 2020 بعد أن فشلت الدولة في إنصافه على إثر احتجازه في العام 2017 ورفضت الحكومة طلبه بالتعويض. فطعن بهذا الرفض وطالب بتعويضه عن الأضرار الجسديّة والمعنويّة التي لحقتْ به من جرّاء الخلل الجسيم في سير المرافق العامة الإدارية والقضائية والأمنية، حيث أدّت الأخطاء المرفقيّة بفعل ترابطها إلى تفاقم ضرره.
مسؤولية الدولة عن الأخطاء المرفقية
في حين أدلى عيتاني بمجموعة من الأخطاء المنسوبة للمرفق القضائي، اعتبر المجلس أنّه غير مختصّ للنظر في الأخطاء الناشئة عن أعمال القضاة والضابطة العدلية، بخاصّة مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية (القاضي بيتر جرمانوس حينها) والنيابة العامة التمييزية (القاضي سمير حمّود حينها) والاستئنافية (القاضي زياد أبو حيدر)، على أساس أنّ التعويض عن هذه الأخطاء يدخل ضمن صلاحية القضاء العدلي. وكانت “المفكّرة” قد بحثتْ في المخالفات التي شابتْ معالجة قضيّة تعذيب عيتاني من قبل القضاء العسكري، بما فيها مخالفة الموجبات المتعلّقة بإجراء تحقيقٍ سريع في شكاوى التعذيب والحفاظ على الأدلّة وحماية الضحايا والمحاسبة على نشر مضمون التحقيقات والمسّ بقرينة البراءة.
في المقابل، أقرّ المجلس بصلاحيّته لتحميل الدولة المسؤولية عن الأخطاء التالية:
- امتناع الدولة عن حظر أعمال التعذيب
امتنع المجلس عن النظر في أعمال التعذيب التي تعرّض لها عيتاني بحدّ ذاتها كونها تتعلّق بأعمال الضابطة العدلية وتدخل تاليًا ضمن صلاحية القضاء العدلي. لكنّه في المقابل اعتبر نفسه صالحًا للنظر في أعمال الضابطة الإدارية، وتحديدًا مدى التزام الأجهزة الأمنية والإدارات بموجب حظر التعذيب وفقًا لاتفاقية مناهضة التعذيب وقانون معاقبة التعذيب رقم 65/2017 وعمليًا اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع حصول أعمال تعذيب.
وقد تثبّت المجلس من تعرّض عيتاني للتعذيب من خلال قرار قاضي التحقيق العسكري رياض أبو غيدا بمنع المحاكمة عنه وإبطال إفادته “لاعتبارها صادرة عن إرادة غير حرّة وغير واعية.” وتنبّه المجلس إلى إقرار عناصر أمن الدولة أمام المحكمة العسكرية بوجود “غرفة سوداء” في مركزهم وتوصيفهم لهذه الغرفة التي أكّد عيتاني تعرّضه للتعذيب فيها ولم تنفِ الدولة وجودها. فاعتبر أنّ إنشاءها يدخل ضمن تنظيم مرفق الأمن (وليس المرفق القضائي)، ويدخل تاليًا ضمن صلاحية مجلس شورى الدولة.
وعليه، أكّد القرار أنّ الدولة أخطأت بعدم تأمين الحماية لعيتاني من جريمة التعذيب وامتناعها عن اتخاذ التدابير اللازمة لمنع أعمال التعذيب التي مارسها عناصر أمن الدولة في حقّه بما فيها “التعليق والكرباج والربط بجنازير واللبيط وكسر 3 أضراس والتقييد من القدمين إلى رقبته”. واعتبر أنّ الدولة أخلّت بالتزاماتها بموجب حظر التعذيب وموجب السهر على صحة عيتاني وسلامته خلال توقيفه والتحقيق معه، كونها مسؤولة عن صحة الموقوفين لديها وسلامتهم وملزمة بمعالجتهم والسهر على حياتهم في جميع مراحل التحقيق أو السجن.
- امتناع الدولة عن حماية قرينة البراءة
تثبّت القرار أنّ الدولة فشلت في تأمين حماية سريّة التحقيق واحترام قرينة البراءة لصالح عيتاني، ممّا أدّى إلى انتشار اتهامات عامّة ضدّه بالعمالة، مع ما استتبع ذلك من استباحةٍ لعيتاني وحقوقه واحتجازه لأسابيع وبصورة مخالفة للقانون بعدما تمّ وصمُه بخيانة وطنه. وقد تسبّب بشكل خاصّ بهذا الفشل ثلاث جهات رسمية هي الآتية:
- جهاز أمن الدولة (يرأسه اللواء طوني صليبا) الذي على الرّغم من جميع التسريبات والأخطاء المُرتكبة من عناصره، لم يتّخذ أيّ إجراء لكفّ يد أيٍّ من المحققين الذين أبقوا يدهم على الملف إلى حين إحالة عيتاني إلى النيابة العامة العسكرية. وتجدر الإشارة إلى أنّ البيانات التي تضمّنت تسريبًا لمضمون التحقيق قد صدرت عن المديرية نفسها وليس عن رتباء التحقيق.
- المجلس الأعلى للدفاع الذي يُخضع جهاز أمن الدولة لإشرافِه، والذي لم يتّخذ أي إجراء من أي نوع كان لتصويب عمل جهاز أمن الدولة أو محاسبته أو تعويض عيتاني عما اقترف في حقه من جراء أعماله.
- المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع، المسؤول عن مراقبة وسائل الإعلام، والذي لم يمارس المهام المناطة به بمراقبة عمل المؤسسات المرخّص لها ومدى قيامها بالموجبات المترتبة عليها قانونًا والاقتراح على الوزير اتخاذ تدابير في حقّ المؤسسات المخالفة، ولم يقم حتى بأيّ عمل (كالتحذير) في مواجهة التسريبات من نشر تفاصيل التحقيقات الأوّلية عن عيتاني، وما أدّت إليه من انتهاك وإساءة لقرينة البراءة وتشهير وفضح للخصوصيات. وقد تشكّل هذه الحيثيّة مدخلًا أساسيًا لتصويب عمل الإعلام اللبنانيّ في تغطية قضايا المُشتبه فيهم المحتجزين تبعًا للأخطاء المهنية الجسيمة التي ارتكبها بحق عيتاني.
- امتناع الدولة عن إجراء الملاحقات والتحقيقات
حمّل القرار الدولة مسؤولية الإخلال بأعمال المحاسبة من خلال عدم معاقبة الفاعلين بل على العكس منحهم الترقية. إذ أعاب عليها عدم مبادرتها لفتح أي تحقيق او اتخاذ ايّ تدبير مسلكي في حقّ المخالفين، لا سيما بعد صدور قرار منع المحاكمة عن عيتاني وإدانة كلّ من المقدّم سوزان الحاج وإيلي غبش بتهمة تلفيق العمالة، وذلك بالرغم من الاعتذار الرسمي والعلني من رأس السلطة التنفيذية (أي رئيس الحكومة حينها سعد الحريري) عن الخطأ المرتكب في حق عيتاني. وقد تجلّى ذلك بشكل خاصّ من خلال تقاعس وزير العدل (سليم جريصاتي حينها) عن اتخاذ أيّ مبادرة من أي نوع كان لجهة مطالبة النيابة العامة بإجراء التحقيقات ومباشرة الملاحقة بالرغم من التجاوزات والمخالفات وأعمال التعذيب المرتكبة.
وشدّد القرار أنّه على العكس من ذلك، فقد صدر قرار بمنح ضباط في المديرية العامة لأمن الدولة شاركوا في ارتكاب المخالفات، قدما استثنائية للترقية. وكان عيتاني قد طعن بمرسوم الترقية كونه قد تضرر شخصياً وبشكل مباشر منه بل شكّل إهانة له واستخفافًا بمظلوميته، إلّا أنّ مجلس شورى الدولة قرر آنذاك ردّ المراجعة لانتفاء صفة عيتاني للطعن بمراسيم الترقية مع حفظ حقّه في “المطالبة بالتعويض عن الضرر المعنوي الذي يدلي بأنّه أصابه نتيجة الأعمال التي قام بها الضّباط الذين تمّت ترقيتهم بموجب المرسوم المطعون فيه، بصورة خاصة عبر إقامة دعوى مسؤولية بحقّ الإدارة نتيجة الخطأ المرفقي أو الشخصي الناجم عن ممارسة هؤلاء الضباط لمهامهم”.
التعويض عن الضرر
تبعًا لما تقدّم، قرّر مجلس شورى الدولة، بما له من سلطة في التقدير، تحديد قيمة التعويض لعيتاني بمبلغ 480 مليون ليرة لبنانية، بعدما أشار إلى أنّ هذا التعويض هو بدل الأضرار الناجمة عن الأخطاء التي تخضع لرقابته، مع حفظ حقه بالمطالبة بالتعويض عن أي أضرار أخرى. وكان عيتاني طالب الدولة بموجب ربط نزاع في 2020 تسديده مبلغ 500 مليون ليرة.
بقي أن نشير إلى أنّ “المفكرة القانونية” تعقد مع زياد عيتاني مؤتمرًا صحافيًا في مكاتبها يوم الأربعاء المقبل للحديث عن مضمون الحكم وأبعاده والنتائج التي تترتب عليه.
للاطّلاع على قرار مجلس شورى الدولة