“
بتاريخ 23/10/2018 أصدرت قاضية التحقيق الأولى في الشمال سمرندا نصار قرارها الظني في قضية مقتل “محمد عادل الدهيبي” في منطقة برج اليهودية- المنية، وهي الجريمة التي عرفت إعلاميا بالجريمة الداعشية أو التكفيرية. وإذ اعتبرت القاضية نصار أن مرتكبي الجريمة قد أقدموا على قتل الضحية تنفيذا لعقاب شرعي، وتاليا عمدا، وعلى تعذيبه في معرض قتله، انتهت إلى الظن بالمدعى عليهم “خليل عبد القادر الدهيبي” وشقيقيه “عبدالله وعمر” على أساس المادة 549 من قانون العقوبات والتي تنص عقوبتها على الإعدام. كما اعتبر القرار الظني أن الأشقاء الثلاثة هم شركاء في الجريمة سندا للمادة 213 من القانون نفسه. وبذلك، يكون القرار الظني قد تميز عن ورقة طلب النيابة العامة في الشمال التي كانت اعتبرت أن القتل حصل قصدا (وليس عمدا ومن دون إشارة إلى أفعال التعذيب البيّنة على جثة الضحية) وهو جرم يعاقب عليه بالسجن من 15 إلى 20 سنة وأن الأخوة هم مجرّد متدخلين (وليس شركاء) في الجرم (الأمر الذي يسمح بتخفيض عقوبتهم بدرجة كبيرة).
وتعود هذه القضية إلى أواخر شهر آب المنصرم، حين استيقظ أهالي منطقتي المنية –الضنية ودير عمار، صبيحة يوم الأحد في 26/8/2018، على حادثة مقتل الشاب الأربعيني محمد عادل الدهيبي في منطقة برج اليهودية على يد إمام وخطيب جامع “الضيعة الكبير” “خالد الدهيبي” واثنين من أشقائه. وقد وصفت آنذاك الجريمة على مواقع التواصل الاجتماعي بـ “الداعشية”، لجهة دوافعها وأسلوب تنفيذها. فقد جرى الحديث على هذه المواقع بأن الدافع للجريمة تمثل في قيام القتيل بشتم العزة الإلهية أمام الشيخ الذي أفتى بوقوع الحد عليه وتنفيذ حكم الإعدام به، بعدما نطق بالكفر وخرج من الملة. كما جرى الحديث عن التنكيل بالضحية واقتلاع قلبه.
وكانت “المفكرة القانونية” قد زارت بلدتيّ المنية ودير عمار مسقط رأس الضحية والمتهمين كما زارت المكان الذي نشب فيه الإشكال الذي أدى إلى وقوع الجريمة وقد نقلت عدة روايات جاءت على لسان أهالي الضحايا وبعض الشهود الذين كانوا في المكان ليلة الحادثة.
من جهتها، سردت القاضية نصار في قرارها الظني الذي لم يتعدّ الثلاث صفحات وقائع الحادثة التي شكلت أساسا للظن في المدعى عليهم. ويلحظ أن السرد اقتصر على وقائع الجريمة بمعزل عن العوامل الاجتماعية أو النفسية التي أحاطت بها والتي ينتظر أن تتوسع فيها محكمة الجنايات التي تتولى محاكمة المتهمين.
مزاح أوقع عليه الحد
الثابت في رواية القرار الظني أنه” ليلة 25/8/2018 توجه المغدور “محمد الدهيبي” إلى محل “زيد عويك” وطلب منه علبة تنبك معسل وكان يحمل بيده سندويشاً من الفلافل يأكله وهو بحالة غريبة بعض الشيء وراح يمازحه ويشتمه بشكل غير جدي كونه يعرفه واعتاد الشراء من محله قائلا له: “أيري فيك وبأبوك” (يلحظ أن هذه العبارة وردت حرفيا في القرار الظني). ولم يأت القرار على ذكر أي شيء عن سكر الضحية التي أشيع عنها لاحقا بهدف إبعاد شبهات القتل عمدا عن الفاعلين.
في السوبرماركت، تثبت رواية “إبراهيم عويك” عن كون المغدور دخل إلى محله وطلب المعسل وبدأ بشتم شقيقه “زيد العويك” من باب المزاح المعتاد، وقد صادف وجود المدعى عليه الشيخ “خليل الدهيبي” في المحل الذي انزعج منه فحصل جدال بينهما. وعلى الإثر، ردّ المغدور على الشيخ” بعدما أزعجه تدخله “يلعن ربك وسماك” و”حل عن ربي”. وهنا يفيد القرار الظني نقلا عن إفادات شهود أن الشيخ قال “أن المرحوم أقدم على شتم الله ورسوله فيجب قتله شرعا”. وإذ جاء في القرار الظني أن الشيخ اتصل بأشقائه لمؤازرته، فإنه يعود ويؤكد من ثم أن “الأخوة (قرروا) تنفيذ ما أعدوه من عقاب”.
تعذيب في معرض القتل أم تمثيل بالجثة؟
أما لحظة وقوع الجريمة، فيومها كانت هناك روايتان: الأولى، مفادها أنه تم الاعتداء على الضحية وإخراجها من السيارة وتعذيبها حتى القتل. أما الرواية الثانية فتقول بـ “أنه ترجّل من السيارة، وكان يحمل موساً بيده، وبأنه ضرب أحدهم مما تسبب بأذيته، عندها تكاثروا عليه، وضربوه على رأسه ففقد وعيه وسقط أرضاً.
وقد جاء القرار الظني ليثبّت الرواية الأولى، ومفادها أن الأشقاء الثلاثة “قطعوا الطريق على المغدور و ترجلوا من سيارتهم وبدأوا بضربه بمدية كانت بحوزتهم وهو لا يزال في سيارة “الكيا” خاصته”. وربما هذا ما يفسر الأذى الكبير الذي أصاب يده اليسرى والذي ظهر عبر فيديو التشريح الذي انتشر عبر مواقع التواصل الإجتماعي. هذا وقد استند القرار الظني في تأكيد هذه الفرضية إلى وجود “دماء المغدور على مقود سيارته بشكل واضح وقد أكد ذلك فحص الحمض النووي”.
ويكمل القرار الظني بأن المتهمين “انقضوا على المغدور بالسلاح الأبيض بأقسى أنواع التعذيب فأشبعوه تشطيباً وجرحوه بعمق ممزقين صدره محاولين استخراج قلبه. ولما لم يتمكنوا راحوا يطعنون القلب بطعنات عدة..كما حاولوا قطع أوصاله بآلة حادة كانوا قد أحضروها لهذا الغرض وقد رجح الطبيب الشرعي في إفادته أمام قاضي التحقيق أن تكون مشرطاً أو سكيناً أو خنجراً وأكد أنه كان بيدهم أكثر من سلاح أبيض واحد. وتركوه ينزف أرضاً إلى أن وصل الإسعاف وهو كان لا يزال على قيد الحياة ويئن إلى أن توفي بعد ذلك”.
وعليه، نصّ القرار الظني على أن الضحية تعرضت لأقسى أنواع التعذيب في سياق قتلها (وهي من الأفعال التي تعاقب عليها المادة 549 من قانون العقوبات بالإعدام). وعليه، رجح القرار الظني أن تكون أعمال التقطيع والتشطيب حصلت في حياة الضحية وليس بعد موتها.
الرواية البديلة عارية عن الصحة
حاول المتهمون أثناء التحقيق معهم، الدفاع عن أنفسهم من خلال الإدعاء “بأن المغدور هو من تهجم عليهم وأنهم كانوا في موقع الدفاع عن النفس منكرين النية القصدية في قتله”، علماً أن كل الضربات التي تلقتها الضحية كانت ضربات في أماكن قاتلة وتتخطى مسألة الدفاع عن النفس. وبحسب القرار الظني، فإن الأشقاء اتفقوا بعدما انتهوا من فعلتهم على نسج رواية مفادها أنهم كانوا في معرض الدفاع عن النفس. ويردف القرار أن الأدلة المتوفرة في الملف تثبت أن هذه الرواية عارية عن الصحة وذلك بالاستناد إلى “إفادات الشهود المستمعين في التحقيقات الأولية الاستنطاقية، ناهيك عن التحاليل المخبرية لآثار الحمض النووي المرفوعة عن الأرض في مكان الحادثة والتي تعود للمغدور محمد الدهيبي حصراً على الرغم من غسل الطريق بالمياه لإخفاء معالم الجريمة”. بل أكثر من ذلك، يبيّن القرار الظني أن توجه أحد الأشقاء للمستشفى كانت مجرد حيلة يراد منها دعم الرواية البديلة، إلا أنه اتضح من شهادة الطبيب أن الجرح كان سطحيا وأنه يرجح أن يكون الشقيق المذكور قد ضرب نفسه بالمدية.
المسؤولية الجرمية: قاضية التحقيق تخالف مطالعة النيابة العامة
وبناء على كل ما سبق اعتبرت القاضية سمرندا نصار أن ما قام به الإخوة في باب الوقائع يؤلف الجناية المنصوص عليهما في المادة 549 فقرتيّها الأولى (القتل عمدا) والرابعة (القتل مع الإقدام على أعمال التعذيب) من قانون العقوبات معطوفة على المادة 213 منه (الاشتراك في الجرم) وجنحة المادة 73 من قانون الأسلحة والذخائر. وأنه يتوجب محاكمتهم أمام محكمة الجنايات في لبنان الشمالي واتباع الجنحة بالجناية للتلازم.
وهي بذلك تميزت عن ورقة طلب النيابة العامة في الشمال التي كانت أكثر انسجاما مع المساعي لتخفيف مسؤولية الأشقاء إلى درجة التغاضي عن أفعال التعذيب البينة على جسد الضحية كما سبق بيانه.
وفي اتصال “للمفكرة القانونية” مع وكيل عائلة الضحية المحامي شادي دحدح، اعتبر أن “القرار جيد جداّ”.وقال: “هو قرار عادل ويحقق العدالة”. وعما إذا اعترف المتهمون بإرتكابهم للجريمة أجاب: “هم قاموا بمسرحية ولكن كل الدلائل والقرائن موجودة وتقاطع المعلومات يدحض روايتهم. الأمور واضحة”.
ولفت إلى أن”هناك محاولة لإظهار أن شخصا واحدا من بينهم هو القاتل لكن الأمر غير صحيح فالتحقيقات أظهرت أن الجميع مشارك في الجريمة”. وأضاف: “الآن نحن بانتظار صدور القرار الاتهامي لتحويلها الى الجنايات وبدء المحاكمة”. وعن توقعاته فيما خص القرار الاتهامي أجاب: “أنا أعتقد وأجزم أن القرار الاتهامي سيكون هو نفسه لأن القضاة الذين ينظرون في الدعوى يشهد لهم بكفاءتهم وضميرهم الحي. من هنا، أعتقد أن القرار الاتهامي سيكون نفسه القرار الظني”.
وبالمقابل، وإذ أثنى شقيق الضحية نذير الدهيبي من ثم على صدقية ومناقبية القاضية، عبّر عن مخاوفه من حصول تدخلات لاحقة من مرحلتي التحقيق أو الحكم.
قرار ظني يفتح بابا لمساءلة الساعين للتخفيف من الجرم
ويجدر التذكير هنا أن العديد من المؤسسات الرسمية سعت على غرار ما فعلته النيابة العامة في ورقة طلبها للتخفيف من هول الجرمية تمهيدا للتخفيف من مسؤولية المدعى عليهم فيها على نحو يتعارض مع ما جاء في القرار الظني. من هذه الزاوية، يشكل هذا القرار مدعاة لمراجعة هذه المواقف.
ومن أبرز المساعي العلنية في هذا الاتجاه، البيان الذي أصدرته المديرية العامة للأمن الداخلي غداة الجريمة، والذي وصفت فيه الجريمة على أنه نتج عن تلاسن لحقه تضارب بالسكاكين بين الضحية والمدعى عليهم، تضارب نتج منه إصابة محمد دهيبي بطعنات أدت إلى وفاته.
أما الموقف الثاني فقد صدر عن أحد الأطباء الشرعيين الذين كشفوا على الجثة (نديم الأيوبي. فقد رفض هذا الأخير على شاشة المستقبل، أي حديثٍ عن حصول تنكيل بجثة المغدور وقال: “ما في لا تقطيع قلب ولا شيء، المعلومات التي تنشر عبر وسائل الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي غير صحيحة. حرام الميت مات ولا يوجد هناك أي تشوه بشكل عام. طبعا يوجد طعن متعدد وطعنات كبيرة في الجسم ولكن لا يوجد أي انتشال لأعضاء بالكبد أو القلب أو أي شيء”.
هذا فضلا عما صرح به رئيس بلدية دير عمار خالد الدهيبي (والذي تبين فيما بعد أنه عمّ المتهمين) للأخبار وللمفكرة لجهة أن القتيل هو الذي “كمن للشيخ وأشقائه، واعترض طريقهم بسيارته التي تبين لاحقاً أنها مسروقة من منطقة البقاع، وعمد إلى طعن الشيخ وأشقائه بالسكين التي كان يحملها قبل أن يتمكنوا من انتزاعها منه وقتله، نافياً أن يكونوا قد نكلوا بالضحية، أو قاموا بتقطيع أطرافه أو انتزاع قلبه“.
فلنتابع…
“