بتاريخ 14/10/2020، أصدرت قاضية الأمور المستعجلة في بيروت كارلا شوّاح قراراً بقبول دعوى قناة MTV بإلزام المديرية العامة للقصر الجمهوري بالرجوع عن قرارها بمنع القناة من الدخول إليه والسماح لها بولوج الأماكن المخصصة للإعلام فيه، أسوة بسائر المؤسسات الإعلامية تحت طائلة تسديد غرامة قدرها 3 ملايين ليرة لبنانية عن كل مخالفة.
وبالعودة إلى تفاصيل القضية، يُلحظ أن مديرية الرئاسة كانت أقرّت في بيان سابق للدعوى أنها منعت مراسلي هذه القناة من تغطية عدد من المناسبات في القصر الجمهوري، على خلفية عدم احترامها مقام رئيس الجمهورية والإكتفاء بذكر اسمه من دون لقبه فضلا عن التهجم المتكرر عليه. كما ذكرت المديرية أنها بذلت ما في وسعها لإقناع القناة بتغيير أسلوبها تجاه رئيس الجمهورية، إلا أنها لم تنجح مما أرغمها على اللجوء إلى المنع وإبقائه قائما. وقد عاد محامي الدّولة ليبرّر أثناء المحاكمة تدبير المديرية العامة على خلفيّة واجبها في المحافظة على كرامة الرئاسة ورئيس الجمهورية، مؤكّدا أن هذا التدبير أقلّ من طبيعي تجاه ما أقدمت عليه القناة من تعرض وتحقير بحق هذا الأخير. وقد بدا واضحا أن مآخذ المديرية لا تقتصر على الأسلوب المعتمد، بل تشمل آراء القناة وبخاصة لجهة تحميلها رئيس الجمهورية منفردا مسؤولية ثلاثين سنة من الفساد المتراكم في الدولة والمطالبة باستقالته. كما أدلت المديرية بأن مقر الرئاسة ومكان سكن رئيس الجمهورية يتمتع بخصوصية من الناحية التنظيمية والأمنية والبروتوكولية وبأنه لا يجوز لأيّ شخص أو مرجع تعديل قواعد الدخول إليه تحت شعار الحرية الإعلامية. وإذ أبرزت القناة في دعواها اجتهادات أميركية ودولية، استهزأت مديرية الرئاسة منها داعية إياها إلى تقديم دعواها لدى المحاكم الأميركية علّها تستحصل على حكم تستطيع من خلاله دخول مقرّ رئاسة الجمهورية. وقد بدَتْ هذه التصريحات الأخيرة بمثابة تحجيم لمرجعية القضاء اللبناني وإنكار حق القناة بالتقاضي أمام قاضٍ مستقلّ ومحايد، فضلا عن أنها تؤكد أن للقناة طريق واحدة للعودة إلى القصر الجمهوري: تلبية شروطها لجهة أسلوبها في مخاطبة رئيس الجمهورية وتقييم المسؤوليات السياسية.
بنتيجة المحاكمة، وبعد جدل طويل حول صلاحية المحكمة، انتهت القاضية شواح إلى قبول الدعوى سندا لنظرية التعدّي. هذه النظرية التي تسمح للقضاء العدلي وضمنا القضاء المستعجل الذي يشكل جزءا منه، بالتدخل لوقف تعدي الإدارة على حقوق الملكية والحريات العامة. ويعدّ تعدّي الإدارة متوفرا في الحالات التي ينطوي فيها عملها على عيب جسيم أو مخالفة ظاهرة إلى حدّ يتعذر معه القول بأنه يعتبر تطبيقا لقانون عام أو نظام أو ممارسة لاختصاص تملكه الإدارة. فبارتكابها التعدي، تكون الإدارة قد وضعت نفسها خارج نطاق القانون العام وفقدت الإمتيازات المقررة للسلطة العامة ومنها امتياز التقاضي أمام القضاء الإداري (أي مجلس شورى الدولة).
واللافت أن القاضية أسهبت في قرارها الواقع في 30 صفحة ليس فقط في اتجاه زجر التعدي الحاصل على الحرية الإعلامية، بل أيضا في تثبيت حقّ اللجوء إلى القضاء كملاذ ضدّ تعديات الإدارة وتوسيع حالاته. ولا نبالغ إذا قلنا أن القرار أدّى عمليا من خلال تطبيق نظرية التعدي إلى تحقيق أمرين مترابطين: رفع التعدي عن حرية أساسية (حرية التعبير) إلى جانب تقريظ التعدي على صلاحية القضاء ومرجعيته واستقلاله. وقد انتهت بالنتيجة إلى توسيع هامش التدخل القضائي لحماية الحقوق والحريات، ومعه هامش مساءلة الإدارات العامة تبعا لأي اعتداء عليها.
تجاوز مديرية الرئاسة لصلاحياتها:
عدم مشروعية العدالة الخاصة والرقابة المسبقة
للتثبّت من توفّر شروط نظرية التعدّي، تصدّت القاضية شواح أولا لمسألة امكانية ربط قرار المنع الصادر عن مديرية الرئاسة بأي صلاحية قانونية مناطة بها. وقد انتهت هنا إلى الإجابة بالنفي، بعدما بيّنت أن القرار المدعى ضده لا يمتّ بصلة إلى الصّلاحية المناطة بها بتنظيم الدخول إلى القصر، طالما أنّ هذه الصلاحية تعني تنظيم أوقات الدخول والأماكن التي يجوز ولوجها في القصر وخلافه من التفاصيل التي يشملها التنظيم، من دون أن يعني بحال من الأحوال منع وسيلة إعلامية من الدخول إليه. وقد أضافت القاضية شواح إلى ذلك أن القرار لم يُقرّر لمقتضيات المصلحة العامة بدليل أن المديرية سمحتْ لسائر الوسائل بتغطية هذه الأحداث. لا بل أنه تمّ لمقتضيات مصلحة خاصة برئيس الجمهورية وتتعلق بشخصه حيث اعتمدت المديرية “أسلوبا خاطئا وغير مبرر وكأنها به تقتصّ من المدعية (القناة) وتربّيها، وفقا للمصطلح الرائج في اللغة العامية”.
ويلحظ أن القاضية شوّاح لم تكتفِ في هذا المضمار بتبيان تجاوز المديرية لصلاحياتها، بل وصفت ضمنا هذا التجاوز بأنه تغوّل على صلاحيات القضاء. وهذا ما نستشفه بوضوح من قولها بأن المديرية “استعملت صلاحياتها وسلطتها لهدف أجنبي عن تنظيم الدخول إلى القصر الجمهوري … وهو معاقبة المدعية (القناة) … وتجاوزت الصلاحيات والقوانين وأحلّت نفسها مكان المرجع الوحيد المختص لمعاقبة المدعية في حال ارتكابها لأي جرم، أي القضاء، مما يدلل على خروجها عن أي سياق قانوني ويجعل تصرفها هذا مشوبا بعيب جسيم بصورة جلية لا تحتمل أي التباس”.
كما أعابت القاضية شوّاح على المديرية تجاوزا آخر لصلاحياتها من خلال إسناد قرارها على عدم تغيير القناة أسلوبها غير اللائق الذي اتبعته تجاه رئيس الجمهورية بالرغم من أنها طلبت منها ذلك مرارا وبربطها استمرارها في هذا المنع بعدم تغيير المحطة لمضمون المنتج الإعلامي، الأمر الذي ينطوي على رقابة مسبقة على هذا المضمون وضغط واضح لكي يكون متوافقا مع ما تراه الإدارة مناسبا، وهو الأمر الذي لا يجد له أي سند قانوني بل يمس الحرية الإعلامية في عمقها. فلا تكون الحرية ممكنة بالنظر إلى ما يحدده أو يحظره نص قانوني بل بالنظر إلى ما تحبه أو لا تحبه (تسمح به أو لا تسمح به) الإدارة.
تعدّ واضح على حرية التعبير … والمساواة
بعد تثبتها من توفر شرط عدم ارتباط القرار بأيّ صلاحية قانونية لمديرية الرئاسة، بحثت القاضية شواح في مدى توفر شرط آخر من شروط إعمال نظرية التعدي، وهو أن يكون مسَّ بحرية أساسية هي حرية التعبير المكرسة في الدستور وفي مقدمته من خلال الإحالة إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية ومنها ضُمناً العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
وقد توسعت القاضية في هذا المضمار في اتجاه الربط بين حرية الإعلام ومنع القناة من تغطية أحداث القصر والذي يشكل حائلا يمنعها من الوصول إلى المعلومات، وهو شرط لا تقوم حرية الإعلام من دونها. وقد عللت القاضية هذا الترابط بين الوصول إلى المعلومات وحرية الإعلام بأن الصحافة ممارسة متخصصة للحق في حرية التعبير تستند إلى معايير مهنية وتسترشد بالصالح العام وبأن لحرية التعبير جناحين أولهما إنتاج المعلومة والثاني استخدامها فلا يجدي أحدهما نفعا في حال انعدام الآخر.
ومن اللافت في هذا السياق أن القرار ردّ تذرع المديرية بتميّز القصر الجمهوري بخصوصية أمنية وبروتوكولية وتنظيمية، على أساس أن القصر الجمهوري هو مرفق عام ولا يسوغ تاليا اعتباره وكأنه ملك خاص للإدارة، خصوصا خارج الحرم المخصص لسكن رئيس الجمهورية وحاجاته الشخصية.
ولم تكتفِ القاضية شواح بتبيان التعدي على هذه الحرية، بل اعتبرت أن المنع يتعدى أيضا على حق القناة الأساسي بالمساواة، واصفة هذا الحق بأنه “أحد أهم أسس الأنظمة الديمقراطية في العالم ويشكل المقام الأول والأرفع في المجتمعات الديمقراطية لدرجة أنه يتقدم فيها على الحرية، ولا يمكن في أي حال فصل المساواة عن الحرية. فمن دون حرية، لا وجود للحق وبالأحرى المساواة”.
الأبعاد الحقوقية للقرار:
تكريس مرجعية القضاء ودوره في حماية الحقوق والحريات
من هذه الزوايا كافة، يكتسي القرار أبعاد حقوقية بالغة الأهمية، أبرزها الآتية:
– كما سبق بيانه، لم يكتفِ القرار بإثبات أنه اتخذ من خارج صلاحية مديرية الرئاسة، بل أنه بيّن أنه اتخذ في تغول على صلاحيات القضاء، الذي له وحده أن يعاقب أي تعرض أو مسّ برئاسة الجمهورية. بهذا المعنى، بدت القاضية شوّاح أنها تضيف إلى التعدي على حرية القناة، تعدّيا آخر هو التعدي على صلاحيات القضاء. وفي الاتجاه نفسه أي في اتجاه تثبيت صلاحية القضاء في المحاسبة وضمنا في محاسبة الإدارة، ردّت القاضية شواح بعبارات حازمة على الدعوة التي وجهتها للقناة باللجوء إلى المحاكم الأميركية، معتبرة أن هذه النصيحة تعني أن النزاعات بين السلطة التنفيذية والأفراد، حتى ولو شكلت تعديا، تنظر فيها السلطة التنفيذية نفسها أو القضاء الأميركي. وهذا الأمر لا يستقيم طبعا. وقد بدت شواح من خلال ذلك وكأنها تذكر الإدارة بمبدأ الفصل بين السلطات وتوبّخها بهدوء ولكن بحزم على التنكر له ولدور القضاء الوطني.
– أن القرار يوسّع من قدرة القضاة في وقف تعديات الإدارة العامة على الحقوق والحريات الأساسية، وذلك من خلال توسيع نطاق نظرية التعدي. ففيما طبق القضاء العدلي ومن ضمنه المستعجل هذه النظرية سابقا في حالات ضيقة كالإعتداء على الملك العام أو حالات التوقيف التعسفي (وبخاصة للاجئين العراقيين والسودانيين)، فإن شأن التفسير المُعطى لهذه النظرية والحقوق التي يحميها وبخاصة لجهة توسيعها لتشمل التعدي على الحق بالمساواة (والذي تم إعلاء شأنه ورفعه لمصاف الركيزة الساسية للديمقراطية) أن يؤدي إلى توسيع هامش تدخل القضاة في هذا المضمار لتشمل أي تعدّ غير مبرر من أي من أجهزة الدولة ومنها قرارات الإخضاع الصادرة عن الأمن العام أو قرارات منع دخول مراكز الأمن العام أو منع دخول الأملاك العامة العمومية أو قرارات منع التجول، ومنها قرارات صدرت مؤخرا عن أجهزة ليس لها أي صلاحية في هذا الشأن.
ولا تقتصر الفائدة في هذه الحالة في نقل الصلاحية من القضاء الإداري إلى القضاء العدلي، بل أيضا في توفير معطيين إثنين: الأول، توفير امكانية التصدي للعمل الإداري المخالف للقانون على وجه السرعة، حيث تخلو أصول الحاكمات أمام مجلس شورى الدولة من الأصول المستعجلة إلا في حالات ضيقة كإجراء معاينة أو إلزام الإدارة بإبراز مستند معين. والثاني، تمكين القضاء من إصدار أوامر بحق الإدارة تحت طائلة الغرامة الإكراهية، حيث يمنع نظام مجلس شورى الدولة هذا الأخير من امكانية إصدار أوامر للإدارة.
– انطلاقا مما تقدم، يكتسي القرار رمزية هامة تتمثل في كونه يعكس توجها إضافيا للانتقال من زمن المجاملة إلى زمن المحاسبة. ففيما اعتقدت مديرية الرئاسة أن من حقها منع أي قناة تتناول رئيس الجمهورية بطريقة لا تحبها من دخول القصر وأنه ليس لأحد أن يحاسبها على قرارها ذلك، أتى الحكم ليؤكد خضوعها للمحاسبة تماما كسائر المرافق العامة عملا بمبدأ الفصل بين السلطات، في موازاة تجريدها من امتياز المجاملة. وقد جاء تقريظ القاضية شواح للإدارة على خلفية نصيحتها باللجوء إلى القضاء الأميركي وتوسيعها لهامش تدخل القضاء في مساءلة الإدارة خير دليل على ذلك.
بقي أن نذكر ختاما أن هذا القرار يشكل إلى جانب قرار آخر صدر عن محكمة المطبوعات في بيروت، القرار الثاني في أقل من سنة والذي ينتهي إلى تحجيم مفهوم كرامة رئاسة الجمهورية، عملا بما تفرضه مبادئ الديمقراطية.
لقراءة الحكم اضغطوا هنا