أصدر ديوان المحاسبة في تاريخ 29 آب 2024 قرارا بحجب الموافقة على مشروع العقد لتكليف “أوجيرو” بإبرام عقود صيانة مع شبكات الإنترنت غير الشرعي. بموجب مشروع العقد، تسدد وزارة الاتصالات لأوجيرو إلى هيئة أوجيرو مبلغ 300 مليار ليرة لبنانية بهدف التعاقد مع شبكات الإنترنت غير الشرعي على صيانتها، ضمانا لاستمرارية خدمة توفير الإنترنت.
وقد استند مشروع العقد إلى المادة 16 من المرسوم رقم 9458/2022 التي كلفت وزارة الاتصالات ب “ضبط شبكات التوزيع والربط المخالفة و/أو المنشأة من دون تراخيص، المستعملة لنقل وتوزيع خدمات الإنترنت ونقل المعلومات” تمهيدا لوضعها بتصرفها “لحين اتخاذ القرار المناسب من القضاء المختص”. كما كلّف المرسوم الوزارة المذكورة التعاقد مع أصحاب هذه الشبكات المضبوطة بهدف صيانتها ضمانا لاستمراريّة تأمين الخدمات، خلال مدة ستة أشهر من تاريخ نفاذ هذا المرسوم، وعلى أن لا تتجاوز مدة التعاقد الثلاث سنوات. وعليه، أدّى العقد إلى نقل الوزارة صلاحية التعاقد مع أصحاب تلك الشبكات إلى هيئة أوجيرو مع منحها مبلغا ماليا صرّحت أنه يخصّص لتسديد كلفة صيانتها.
وقد خلص ديوان المحاسبة (الغرفة الأولى المكونة من الرئيس عبد الرضى ناصر والمستشارين جوزيف الكسرواني ومحمد الحاج) في قراره إلى أن مشروع العقد المعروض عليه لم يخلّ بأحكام المرسوم وحسب، إنّما أيضا بروحيته وسبب وجوده. ففي حين أن المرسوم سمح بالتعاقد مع شبكات غير شرعية ضمانا لاستمرارية الخدمة العامة (توزيع الإنترنت) وفقط بصورة مؤقتة وريثما يتمّ إنهاء أوضاعها المخالفة للقانون بواسطة القضاء (مصادرة مثلا)، فإن مشروع العقد يؤدي وفق الديوان إلى تأبيد وجود الشبكات غير المشروعة والحاجة إليها لتأمين الخدمة العامة وتاليا إلى تأبيد المخالفة. ولم يكتف ديوان المحاسبة بذلك بل بنى أيضا قراره على مخالفات أخرى للقانون، أهمها التحايل على رقابة ديوان المحاسبة نفسه. وهذا ما سنحاول تفصيله في هذا المقال.
استثنائية التعاقد مع الشبكات غير الشرعية بانتظار مصادرتها
في هذا الخصوص، ولتبيان أن مشروع العقد يتعارض مع أحكام المادة 16 من المرسوم، ذهب ديوان المحاسبة إلى التذكير بأن الترخيص الذي منحه هذا المرسوم لوزارة الاتصالات بالتعاقد مع شبكات غير شرعية إنما يبقى ترخيصا بالقيام بإجراء استثنائي ومؤقت لا يمكن التوسع في تفسيره في حال من الأحوال. ولهذه الغاية، عاد ديوان المحاسبة ليذكر بأمر أساسي وهو أن شبكات الإنترنت تعتبر من الأملاك العمومية سندا للمادة 2 من القرار 144/1925 وإن أي تعاقد بشأنها يجب أن يبقى استثنائيا.
وقد توقّف ديوان المحاسبة في هذا الخصوص عند أمرين أساسيين:
الأول، أنه يُفهم من المرسوم أنه برّر التعاقد مع الشبكات غير الشرعيّة من أجل ضمان استمرارية الخدمة العامة بوجوب انتظار أحكام القضاء المختص وهو المؤتمن على حماية الحقوق. ويجد هذا الربط وفق الديوان مبرّره في التصور الذي انبنى عليه المرسوم وقوامه وضع خارطة طريق يفترض أن تنتهي إلى وقف المخالفات وتكريس الشرعية وسيادة القانون (من خلال مصادرة الشبكات بقرار قضائي مبرم مثلا)، وهو أمر لا يمكن أن يحصل من دون إحالة هذه الشبكات إلى القضاء. وقد أضاف الديوان “إنّ ما ورد في مشروع العقد لجهة إجازة التعاقد من دون التثبت من الإحالة إلى القضاء إنما يؤدي إلى تأبيد المخالفة واستمراريتها، ويحوّل الأحكام الواردة في المرسوم بخصوص الشبكات المخالفة من أحكام تضع خطّة طريق لإرساء الشرعية في هذا المجال إلى أحكام تضع خطة طريق للتطبيع مع اللادولة واللاشرعية ومع الخارجين عن القانون”. وعلى هذا الأساس، انتهى الديوان إلى عدم قانونية التعاقد مع أصحاب الشبكات غير الشرعية، إلا بعد ضبطها وإحالتها إلى القضاء.
أما الأمر الثاني الذي توقف عنده الديوان في هذا الخصوص، أن مهلة الستة أشهر المحددة للوزارة للتعاقد مع الشبكات المخالفة هي مهلة إسقاط وليس مهلة حثّ، وذلك بخلاف ما أشار إليه وزير الاتصالات من أجل تبرير تجاوز المدّة المحددة للتعاقد في المرسوم. ولبلوغ هذه النتيجة، ذكّر ديوان المحاسبة بخارطة الطريق واستثنائية التعاقد والذي يفترض بالضرورة أن يبقى مؤقتا فلا يتجاوز المدة المحددة فيه وهي ستة أشهر لضبط الشبكات والتعاقد معها و3 سنوات كحد أقصى لسريان هذا التعاقد. وقد ارتكز هنا بشكل خاص إلى الأسباب الآتية:
- “إنّ إقامة شبكات اتصالات مخالفة للقانون يتعارض مع المادة 2 من القرار 144/1925 التي نعتبر كل خطوط الاتصالات أملاكا عامة، علما أن أي إجازة باستخدامها أو إشغالها من قبل الغير يفترض حصولها بموجب مرسوم ولمدة أقصاها سنة وإن كانت قابلة للتجديد (المادة 17 من القرار)”. وبذلك أكد المرسوم على أهمية المهل المذكورة فيه لعدم جواز إطالة أمد إشغال الملك العام،
- “إن المرسوم هو في صدد وضع قواعد استثنائية لوضع غير قانوني، بمعنى إنه يهدف إلى تنظيم واقع مخالف للقانون على نحو يضمن استمرارية تقديم الخدمة في موازاة وضع خارطة طريق تضمن دمج الشبكات والمستفيدين منها ضمن شبكة الاتصالات المملوكة من الدولة. بمعنى أنه يهدف إلى تنظيم واقع لا يمكن إلا أن يكون مؤقتا ومحصورًا في آجال قصوى، تحت طائلة السقوط في تأبيد الواقع المخالف بما يتناقض مع مبدأ سيادة القانون ومبدأ مساواة المواطنين أمامه”،
- “أن مهلة الستة أشهر هي من نفس طبيعة المدة القصوى لعقد الصيانة، التي أوضح المرسوم بوضوح كلي أنها مدة قصوى لا يمكن تجاوزها، بمعنى أن المرسوم انبنى على تنظيم وضع استثنائي على نحو لا يتجاوز مجموع المهلة والمدة أي ثلاث سنوات ونصف بحيث ينتهي العمل به في آخر 2025. فلو كانت مهلة الستة الأشهر مفتوحة، لأدى ذلك إلى تطويل أمد الوضع الاستثنائي إلى ما يتجاوز هذه المدة”،
- “أن مبادئ التفسير توجب اعتماد التفسير الضيّق لأيّ قاعدة وردت استثناء على القاعدة العامة والدائمة من دون إمكانيّة التوسع فيها”.
في عدم جواز التحايل على أصول رقابة الديوان
المسألة الثانية التي يجدر التوقف عندها في قرار الديوان، هي حجب الموافقة على مشروع العقد لكونه يشكل التفافا على صلاحيته الرقابية. ويتأتّى ذلك بشكل خاص من كون المرسوم قد أناط بالوزارة مهمّة التعاقد مع أصحاب الشبكات غير المشروعة، فيما عمد مشروع العقد إلى نقل هذه المهمة من الوزارة إلى هيئة أوجيرو. ومؤدّى ذلك هو تجريد الديوان من رقابته المسبقة على العقود التي كان يجدر أن تبرمها الوزارة، طالما أن هيئة أوجيرو معفاة من هذه الرقابة.
وعليه، وبعدما اعتبر الديوان أن الصلاحية المعطاة لوزير الاتصالات ترتبط بامتيازات السلطة العامة وهي كل لا يتجزأ ومن غير الجائز تفويضها إلى هيئات أخرى دون وجود قانون في هذا الخصوص، رأى أن أي تخلّ من الوزارة عن صلاحياتها لهيئة أوجيرو إنما يرشح عن مخاطر بالنظر إلى اختلاف أنظمة الرقابة التي تخضع لها وزارة الاتصالات عن أنظمة الرقابة التي تخضع لها هذه الهيئات. وفيما يفهم من ذلك أن الديوان اعتبر أن هكذا نقل للصلاحية يكون معيوبا ليس فقط لأنه مخالف للقانون بل أيضا لكونه يشكل تحايلا على رقابته من شأنه إفساد العقد، فإنه اختار أن لا يذكر عبارة الاحتيال ربما تجنبا لاستخدام عبارات قد تتسبب بحساسية كبيرة لدى وزير الاتصالات.
وتكتسي هذه الحيثية أهمية استثنائية طالما أن مؤداها تمكين ديوان المحاسبة التصدي للممارسات الرائجة الهادفة إلى التحايل على صلاحياته الرقابية، من خلال تحويل الاعتمادات المرصودة لنفقة ما إلى هيئة غير خاضعة للرقابة المسبقة، على نحو يؤدي عمليا إلى تجريده من صلاحياته الرقابية.
هذا هو أهم ما ورد في قرار الديوان الذي أعاد الكرة إلى ملعب السلطة التنفيذية، التي يجدر بها وفق ما ورد في توصياته، الإسراع في إحالة تلك الشبكات إلى القضاء المختص فضلا عن اتخاذ الخطوات الضرورية الآيلة إلى تأمين استمرارية الخدمة للمواطنين.
للاطّلاع على قرار ديوان المحاسبة قرار ديوان المحاسبة بشأن الإنترنت غير الشرعي