قرار توقيف نتنياهو: لحظة عدالة في الإعلام الغربي


2024-11-27    |   

قرار توقيف نتنياهو: لحظة عدالة في الإعلام الغربي

هي من المرّات النادرة التي قد يرى فيها القرّاء في الإعلام الغربي السائد بعضاً من “العدالة” في تغطية حدثٍ هامٍّ مرتبط بالقضية الفلسطينية يدين الاحتلال وأبرز قادته. انتظر الإعلام المنحاز لإسرائيل قرار “المحكمة الجنائية الدولية” يوم الخميس الماضي (في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2024) ليُصدر حكمه على مرتكبَي جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت. بعد عامٍ وشهر على بدء المجزرة في غزة والعدوان على لبنان وتمنُّع الاعلام الغربي عن الاعتراف صراحة بارتكاب الاحتلال عشرات جرائم الحرب الموثّقة كما الجرائم ضد الإنسانية، أدانت بعض الافتتاحيات ارتكابات نتنياهو وأيّدت قرار المحكمة، وصفّق بعض المعلّقين لمذكّرة التوقيف واعترف البعض الآخر أن كلّ ما بيّنته المحكمة في تحقيقاتها هو ما كان الفلسطينيون يصرخون به منذ البداية.

يدرك القرّاء جيداً أن تلك المواقف الإعلامية التي نطقت بكلمة حقّ متأخرة ومشروطة جاءت مرتبطة بحدثٍ ظرفيٍّ معيّن ذي طابع قانونيّ بحت ويخصّ شخصيات بحدّ ذاتها، وهي لا تعني بأي شكل من الأشكال أن المؤسسات الإعلامية تلك ستغيّر من سياستها التحريرية المبنية على دعم إسرائيل وتبنّي سرديتها الرسمية والتأييد الشرس لحقّها في الدفاع عن نفسها دائماً. ما نُشر بعد صدور قرار “المحكمة الجنائية الدولية” من إدانة للارتكابات الإسرائيلية في غزة وتأييد لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين ليس إلا دليلاً آخر على أن الإعلام الغربي لا يصدّق سوى ما يصدر عن “مؤسساته”، المؤسسات التي يصنّفها هو موثوقة، ولا يعترف سوى بعدالة مشروطة مدموغة بحكم محاكمه حتى لو كان الأمر بحجم مجزرة منقولة مباشرة على الهواء منذ سنة وشهر.

محاسبة إسرائيل… أخيراً

فرنسياً، إضافة إلى أغلفة بعض الصحف التي أعلنت نتنياهو “مطلوباً للعدالة” (غلاف “ليبيراسيون”) و”مجرم حرب” (غلاف “لومانيتيه”)، خصصت صحيفة “لو موند” افتتاحيتها للحدث وقالت إن قرار المحكمة الدولية بملاحقة رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير الدفاع السابق “جاء ليذكّرنا بوظيفة أساسية من وظائف العدالة وهي المحاسبة”، خصوصاً أن “إسرائيل اعتادت، لعقود من الزمن، على الإفلات من العقاب”. افتتاحية “لو موند” بيّنت بطريقة غير مقصودة، أن الاعتراف بفظاعة الارتكابات الإسرائيلية في غزة تطلّب قراراً بهذا المستوى من محكمةٍ دولية، إذ قالت حرفياً “إنّ اتهاماً بهذه الخطورة يتطلّب منّا العودة إلى ما يسلّط الضوء عليه: الحرب كما جرت في غزة بعد المذابح غير المسبوقة ضد المدنيين الإسرائيليين، في 7 أكتوبر 2023، على يد ميليشيات حماس”. “لو موند” أشارت إلى أنّ “واقع الطبيعة الديمقراطية لإسرائيل لا يحمي في حدّ ذاته من انتهاك للقانون الدولي. ولم تكن المحكمة الجنائية الدولية لتضطرّ إلى إصدار حكم من هذا النوع لو كانت هناك شكاوى مماثلة قيد التحقيق في إسرائيل. لكنّ هذا الأمر لم يحصل، بل ما حصل هو العكس تماماً، نظراً للدعم الذي يقدّمه الرأي العام الإسرائيلي الذي يتغاضى عمداً عن التفجيرات التي تستمرّ، يوماً بعد يوم، في قتل العشرات من المدنيين الفلسطينيين وسط لامبالاة دولية مذهلة”. وحيّت الافتتاحية قرار المحكمة التي “لم تستسلم للضغوطات” منتقدةً الاتهامات الإسرائيلية “الفارغة السخيفة” لها بمعاداة السامية. الصحيفة الفرنسية انتقدت أيضاً أداء الرئيس الأميركي المتناقض حيال مذكّرتيْ توقيف نتنياهو والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وذلك بعد الفيتو الأميركي في مجلس الأمن قبل يومين ضد مشروع قرار لوقف إطلاق النار في غزة واصفة ذلك بـ “الانهيار الأخلاقي الذي سيشكّل جزءاً من إرث جو بايدن”. 

بريطانياً، خصصت صحيفة “ذي إندبندنت” غلافها لقرار توقيف نتنياهو، ونشرت صحيفة “ذي غارديان” مقالي رأي أحدهما مرحّباً صراحة بالقرار. المقال لأحد كتّاب الصحفية ويدعى أوين جونز، يقول فيه إنه لو لم تصدر تلك المذكّرة من “المحكمة الجنائية الدولية” فإنّ “النظام القضائي العالمي الذي يُنظر إليه بازدراء على نطاق واسع، لم يكن ليبقى على قيد الحياة”. وبرّر الكاتب فرضيته هذه بالنظر إلى حجم الارتكابات الإسرائيلية “الشنيعة” في غزة، وبالأدلة العديدة “التي وثّقها الصحافيون الفلسطينيون الذين قتلتهم إسرائيل أيضاً”. ليخلص جونز إلى القول: “لا يجب أن يرتجف نتنياهو وغالانت فقط أمام العدالة، إذ إضافة إلى القادة والجنود الإسرائيليين الآخرين، ينبغي أيضاً على المذنبين في الحكومات الغربية أن يرتجفوا قلقاً أيضاً”. انتقد الكاتب تجاهل الحكومات الغربية والإعلام السائد إعلان المسؤولين الإسرائيليين الصريح نيّتهم ارتكاب جرائم قتل وحصار ضد الفلسطينيين الذين اعتبروهم “حيوانات بشرية” وتعهّدوا بأن “ينزلوا عليهم نار جهنّم”. لكن الحكومات الغربية ولا سيما الأميركية استمرّت بدعم اسرائيل سياسياً وعسكرياً، يردف الكاتب ويذكّر أنه “في حين جعل السياسيون ووسائل الإعلام الغربية أنفسهم شركاء طوعيين في جريمة شنيعة واضحة، تعرّض الذين نبّهوا من حرفية كلام القادة الإسرائيليين للشيطنة والمطاردة والتشهير والإسكات”. “حان الوقت للاعتراف بمعاناة الفلسطينيين الطويلة وتقدير حجمها”، ختم الكاتب مقاله مضيفاً “إذا كان هناك ما يمكن أن يخرج من تحت أنقاض غزة، فليكن هذا. إن الهجوم الإبادي الإسرائيلي هو المثال الأكثر فظاعة على تشبّع التفوّق الغربي بأشنع أنواع النفاق. لتكن المساءلة رادعاً لحدوث هذه الأهوال مرة أخرى”.

عليه أن يلوم نفسه فقط

أما مقال “الغارديان” الثاني بعنوان “بنيامين نتنياهو رجل مطلوب للعدالة ولا يمكن إلا أن يلوم نفسه”، فيفنّد كيف يتحمّل رئيس الوزراء الاسرائيلي مسؤولية تدهور مسار الحرب في غزة وعدم إتاحة المجال لإطلاق تحقيق داخلي وصولاً إلى مذكّرة التوقيف الدولية. “لا يمكن أبداً الدفاع عن استراتيجية حرب اعتمدت على التجويع” يقول الكاتب ويشير إلى أن أداء نتنياهو المتعنّت سيحوّل إسرائيل إلى “دولة معزولة” وسيزيد من الدعوات إلى حظر تصدير السلاح لها كما سيفتح الباب أمام قضايا وتحقيقات قد تطال مسؤولين سياسيين وعسكريين آخرين. يختم المقال بالقول: “هذا بالضبط ما كانت حماس تصبو إليه في السابع من أكتوبر: إثارة غضب إسرائيل إلى الحدّ الذي يدفعها إلى الرد بطرق من شأنها أن تدمّر شرعيتها الدولية. وقد أعطاهم نتنياهو ما أرادوه بالضبط. لقد نصبت حماس الفخّ ــ ووقع فيه نتنياهو بشكل مباشر”.   

افتتاحية صحيفة “ذي أوبزيرفر” من جهتها حيّت قرار “المحكمة الجنائية الدولية” قائلةً إن “هذه المحاولة غير المسبوقة والضرورية والمحايدة لمقاضاة السياسيين الغربيين المنتخبين ديمقراطياً والمتّهمين بارتكاب أعمال خطيرة بشعة، تشكّل اختباراً لا يجرؤ المجتمع الدولي على الفشل فيه”. الافتتاحية تقول إن رئيس الوزراء الاسرائيلي كان بإمكانه تفادي الوصول إلى هنا لو سمح بفتح تحقيق اسرائيلي داخلي حول أحداث السابع من أكتوبر وما تلاها، لكنه “يخشى من أن يكشف هكذا تحقيق مدى تورّطه في الخلل الأمني الذي أدّى إلى فظائع هجوم 7 أكتوبر”. الافتتاحية تردف أن كلّ الضجيج الاسرائيلي والأميركي الذي رافق صدور مذكّرة التوقيف لا يجب أن يلهينا عن النقطة الرئيسية وهي “الحرب الإسرائيلية غير المتكافئة” التي شنتها القيادة الإسرائيلية وجيشها ردّاً على ما ارتكبته “حماس” والتي أدّت إلى قتل مئات الآلاف من الفلسطينيين “بشكل عشوائي وغير قانوني، وما زالت تتسبّب في معاناة هائلة لمئات الآلاف غيرهم”. كما انتقدت الصحيفة موقف واشنطن الذي يغذّي “الإنكار الإسرائيلي واستثنائيته”، وختمت بالإشارة إلى أن “المحكمة الجنائية الدولية” “تعرّضت لانتقادات كثيرة في السابق بسبب تركيز جهودها على ملاحقة الزعماء الأفارقة فقط. أما الآن وقد أصبح زعماء غربيون في قفص الاتهام، فلا ينبغي لنا أن نتردد في ذلك”.

وعن إفلات إسرائيل وداعمتها واشنطن من المحاسبة والعقاب، أفرد موقع “ذي إنترسبت” مقالاً يبيّن كيف شكّلت الولايات المتحدة “درعاً مكّنها وحليفتها اسرائيل من الإفلات من تهم جرائم الحرب مراراً وتكراراً”. ولفت أحد المحللين في المقال أنه “تقريباً، لم يتمّ رسم أي خط أحمر لإسرائيل إلا وتجاوزته، وهي تدرك أن تجاوز كل هذه الخطوط يعني أن المجتمع الدولي لا يملك الإرادة السياسية للمطالبة بمساءلتها ووضع حدّ لإفلاتها من العقاب”. صحيفة “نيويورك تايمز” خصصت من جهتها مقالاً لمراسلتها من القدس المحتلة تشرح فيه كيف أنّ قرار المحكمة بملاحقة نتنياهو زاد من التفاف الإسرائيليين حوله، إذ قالت: “كلّما ازداد تصوير نتنياهو على أنه منبوذ دولياً، كلّما بدا أن عدداً أكبر من الإسرائيليين يحتضنونه”. المراسلة تشير إلى أنه رغم الانقسام السياسي في الداخل الإسرائيلي إلا أن قرار المحكمة جعل الجميع يتكتّلون لرفضه، وتنقل المراسلة عن أحد الذين عملوا مع نتنياهو في التسعينيات أن صدور مذكّرة التوقيف الدولية “سيخدم نتنياهو وسيحوّله إلى الضحية التي يحبّ أن يلعب دورها، وسيجعل منه الشخص الذي يقاتل (العالم) من أجل حقوق الشعب الإسرائيلي”. وأشار مقال “نيويورك تايمز” أن ردود الفعل الإسرائيلية على مذكرات الاعتقال “بيّنت الفجوة العميقة بين التصوّرات الإسرائيلية السّائدة عن الحرب في غزة والطريقة التي ينظر بها الخارج إلى تلك الحرب”. في النهاية وبكل واقعية وصراحة، تنقل المراسلة عن أحد المسؤولين السابقين في الحكومة الإسرائيلية قوله إن “مذكّرات التوقيف لم تخطف النوم من عيون نتنياهو” وذلك “لأن الولايات المتحدة، الحليف الأبرز، رفضت الدعوى ضد القادة الإسرائيليين ولأن إسرائيل ليست عضواً في المحكمة الدولية ولا تعترف بسلطتها القضائية في غزة ولا في إسرائيل”.

“القلب يعتصر خجلاً”

إسرائيلياً، هاجم جدعون ليفي في مقاله في صحيفة “هآرتس” الإسرائيليين الذين يعترضون على قرار “المحكمة الجنائية الدولية” وقال إنه “ليس من حقّهم أن يدينوا مذكّرة التوقيف” إذ إن معظم الإسرائيليين “لم يروا شيئاً من الجرائم التي حصلت في غزة ولم يريدوا ذلك”. ليفي يضيف أنه “بعد سنوات عديدة من غسل الأدمغة ومن نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين، لا نستطيع أن نعتمد على حكمة الإسرائيليين. بل ينبغي أن نترك هذا الأمر للقضاة في لاهاي، الذين يعرفون أكثر من الإسرائيليين أنفسهم ما هو مسموح به وما هو محظور، حتى بالنسبة لإسرائيل، وحتى بالنسبة لليهود بعد المحرقة، وحتى بالنسبة للإسرائيليين بعد السابع من أكتوبر”. وحسب الكاتب إن العالم رأى ما حصل في غزة ولم يستطع السكوت حيال ذلك، إذ “إن الحقائق تصرخ من تراب قطاع غزة الملطّخ بالدماء، ولابد من محاسبة أحد على ذلك. وملاحقة رئيس الوزراء ووزير الدفاع السابق هي بداية جيدة”. ليفي يشير إلى أن الإسرائيليين يعيشون في واقع زائف لذلك هم لا يستطيعون أن “يهضموا” ما حصل، ويختم قائلاً “القلب يعتصر خجلاً وحزناً، لا بسبب مذكّرات الاعتقال، بل بسبب ما فعلناه”.

أما صحيفة “جيروزاليم بوست” وفي معرض دفاعها عن نتنياهو وغالانت فقد انتقدت بشدّة في افتتاحيتها “المحكمة الجنائية الدولية” وقرارها، إذ وصفت القرار بأنه “مهزلة ونكتة وإجهاض للعدالة” وأنه “سيدمّر المحكمة لا إسرائيل”. الصحيفة عدّدت أسباب الخطأ الذي وقعت فيه المحكمة مردّدة السردية الإسرائيلية الرسمية التي تتكرر منذ عام وهي أن اسرائيل “تدافع عن نفسها في وجه مجموعات إرهابية أعلنت نيتها تدمير الدولة اليهودية وهي من بدأ بالهجوم”. الافتتاحية انطلقت من تصريحات المسؤولين الأميركيين الرافضين لقرار المحكمة لتقول إن حكومات غربية اخرى ستحذو حذو واشنطن في رفضها لأداء المحكمة الجنائية الدولية وهذا ما “سيفقدها مصداقيتها” وهكذا “ستنجو إسرائيل من هذا القرار الفضيحة، لكن المحكمة لن تنجو”. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني